رفض رفع الحصانة... تكرار لمأساة المخطوفين في لبنان (تحليل)

لبنانيون يرفعون صور أقاربهم الذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت العام الماضي خلال احتجاجات ببيروت بعد طلب قاضي التحقيق رفع الحصانة عن شخصيات سياسية وأمنية للتحقيق مهم (أ.ف.ب)
لبنانيون يرفعون صور أقاربهم الذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت العام الماضي خلال احتجاجات ببيروت بعد طلب قاضي التحقيق رفع الحصانة عن شخصيات سياسية وأمنية للتحقيق مهم (أ.ف.ب)
TT

رفض رفع الحصانة... تكرار لمأساة المخطوفين في لبنان (تحليل)

لبنانيون يرفعون صور أقاربهم الذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت العام الماضي خلال احتجاجات ببيروت بعد طلب قاضي التحقيق رفع الحصانة عن شخصيات سياسية وأمنية للتحقيق مهم (أ.ف.ب)
لبنانيون يرفعون صور أقاربهم الذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت العام الماضي خلال احتجاجات ببيروت بعد طلب قاضي التحقيق رفع الحصانة عن شخصيات سياسية وأمنية للتحقيق مهم (أ.ف.ب)

بعد رفض رئيس الجمهورية ووزير الداخلية رفع الحصانة عن مدير جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا، واللواء عباس إبراهيم، والتسويف الذي اعتمدته لجنة الإدارة والعدل النيابية حيال طلب القاضي طارق البيطار بالتحقيق مع ثلاثة من أعضاء المجلس النيابي، بدا أن الجماعة السياسية الحاكمة في لبنان تكرر موقفها المعروف والثابت منذ عقود بتقديم مصالحها وسلامتها على كل ما عداهما. وسيان لديها كشف حقيقة التفجير الإجرامي في مرفأ بيروت أو دور القضاء أو مشاعر عائلات الضحايا والجرحى وأصحاب المنازل والمتاجر المدمرة.
وكان القاضي البيطار المكلف بالتحقيق في انفجار الرابع من أغسطس (آب) قد طلب من السلطات الأمنية ومن مجلس النواب رفع الحصانات عن أربعة مسؤولين أمنيين حاليين وسابقين وعن ثلاثة نواب كانوا يتولون مناصب وزارية تتعلق بالداخلية والأشغال العامة بين 2013 و2020 إضافة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية، للتحقيق معهم كمدعى عليهم في الكارثة التي ضربت العاصمة اللبنانية قبل أحد عشر شهراً وأسفرت عن مصرع نحو مئتي لبناني ومقيم وإصابة ستة آلاف شخص بجراح وتهجير 300 ألف مواطن من منازل في ثالث أقوى انفجار غير نووي في تاريخ الانفجارات. وبعد وعود وتصريحات صحافية أدلى بها من صدر قرار استدعائهم، تراجع هؤلاء عن ليونتهم السابقة وعاد كل منهم إلى حضن طائفته يبحث عن الحماية من العدالة.
الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، كان واضحاً في خطابه الأخير برفض التحقيق مع كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين. وهو موقف عدّه اللواء إبراهيم كافياً لإطلاق حملة دعائية لشخصه على شكل ملصقات عملاقة غطّت شوارع العاصمة والطرق المفضية إلى مطار بيروت وغيرهما من المناطق، وكلها تحمل كلمات الثناء على جهوده لتكريس الأمن والوساطات التي قام بها علماً بأن ذلك من واجباته البدهية كمدير لأحد الأجهزة الأمنية الرئيسية في لبنان. أما وزير الداخلية محمد فهمي وبعد ساعات عن إعلانه أن طلب القاضي البيطار قانوني ولا يستطيع رفضه، تراجع عن كلامه ونقلت عنه وكالة «رويترز» رفضه رفع الحصانة عن إبراهيم، صاحب الطموحات الكبيرة والعلاقات الواسعة بكل أطياف الجماعة الحاكمة.
ولم تخيّب لجنة الإدارة والعدل في اجتماعها المشترك مع هيئة المجلس النيابي ظن اللبنانيين بها وبما يمثل أعضاؤها، إذ خرجت بفذلكة تطلب من قاضي التحقيق تزويدها بتفاصيل وأسباب طلبه رفع الحصانة عن النواب الثلاثة. وليس مستغرباً أن يلجأ دياب إلى دار الفتوى باحثاً عن حماية طائفته على غرار ما فعل في الاستدعاء السابق الذي وجّهه القاضي فادي صوان الذي تحوم شبهات قوية حول سبب تنحيه عن التحقيق بعد امتناع وزراء سابقين عن الاستجابة لطلبه التحقيق معهم. الجدير بالذكر أن دياب حظي يومها بمساندة خصمه رئيس الوزراء المكلف حالياً سعد الحريري بذريعة الحيلولة دون استهداف الطائفة السنية.
مهما يكن من أمر، لن يصاب بالدهشة من يراقب سلوك هذه الفئة من السياسيين منذ بدأت الأزمة الحالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وإذا وضعت الخطوات التي أحبطت الفئة القابضة على السلطة تطبيقها من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع اندلاع الانهيار الاقتصادي، لَصَحّ ما اتهم به البنك الدولي المسؤولين اللبنانيين بتعمد دفع البلد إلى الانهيار. مشروع قانون التحكم برأس المال (ما يُعرف بـ«الكابيتال كونترول»)، قانون السماح بتحويل المال إلى الطلاب اللبنانيين في الخارج، خطة الإنقاذ الاقتصادي، المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مشروع التدقيق الجنائي عبر شركة عالمية... كلها وغيرها أوقفها وحال دون تطبيقها قرار واعٍ من الجماعة المتسلطة على خلفية الخشية من أن تخسر بعضاً من نفوذها ومن استتباعها لجمهور جائع يسهل تطويعه وتحويله إلى وقود للمدافع عندما يحين وقت التذابح الطائفي.
وإذا اعتقد لبنانيون وناشطون أن المسؤولين السياسيين لن يجرؤوا على إحباط التحقيق في انفجار المرفأ، فعليهم أن يتذكروا كيف تعامل تحالف الميليشيات الذي حكم لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية مع قضية المخطوفين. لقد ترك ذلك التحالف الذي لا يختلف كثيراً في الأسماء ولا في التوجهات ولا في الأخلاق (في انعدامها بالأحرى)، عائلات 17 ألف مخطوف لبناني من دون الكشف عن مصائرهم. لقد طحن أعمار وحيوات أمهات وزوجات وأبناء وإخوة المخطوفين من دون أن يتنازل بتحمل المسؤولية عن تسوية أوضاعهم القانونية ناهيك بالكشف عن أماكن دفنهم وكيفية اختفائهم. ليحرم بذلك أسراً لبنانية من كل الطوائف والمناطق من حقها الإنساني بإقامة العزاء على أحباء ابتلعهم وحش الحرب ورفض أبطال السلام إنارة قبورهم.
جريمة مخطوفي الحرب الأهلية قابلة للتكرار مع ضحايا تفجير مرفأ بيروت. السلوك الإجرامي والمافياوي للجماعة الحاكمة لم يتغير. بل زادته الأزمة الحالية سوءاً على سوء، حيث باتت فرص نجاة من صنع الكارثة الحالية من العقاب وإفلاته من السقوط والمحاكمة جراء ما اقترف، ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء اللبنانيين مشغولين بالبحث عن لقمة الخبز وحبة الدواء.
كل هذا يجري في ظل موازين قوى داخلية وخارجية تشجع المجرمين على الإمعان في سحقهم حاضر ومستقبل اللبنانيين.



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.