الصحافة الورقية في العراق... ماضٍ مُختلف عليه ومستقبل مجهول

مع تأهبها للاحتفال بـ«عيدها»

الدكتور طه جزاع
الدكتور طه جزاع
TT

الصحافة الورقية في العراق... ماضٍ مُختلف عليه ومستقبل مجهول

الدكتور طه جزاع
الدكتور طه جزاع

يحرص الصحافيون العراقيون على الاحتفال كل عام بـ«عيد الصحافة العراقية»، الذي يصادف الخامس عشر من يونيو (حزيران) ذكرى إصدار أول صحيفة ورقية اسمها «الزَّوراء» على يد الوالي العثماني مدحت باشا عام 1869. ورغم توالي العصور التي ازدهرت في بعضها الصحف طبقاً للعهود والأنظمة الحاكمة في البلاد فإن الاحتفال بهذا «العيد» لا يزال يمثل رمزية تحترمها الأجيال الصحافية في العراق. وهي تضم الآن جيلاً مخضرماً، بمعنى أنه عاصر حقبة ما قبل 2003، وجيلاً جديداً ولد مع الإنترنت وتوابعه.
مع هذا الجيل الثاني، ولدت أنماط صحافية وإعلامية جديدة، تراوحت بين «ميديا» الإعلامين المسموع والمرئي التي زاحمت نسبياً الصحافة الورقية خلال العقود الماضية، ومواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) التي تراوحت بين الصحافة الإلكترونية وما بات يسمى «المواطن الصحافي»، وهذه بالطبع باتت حالة عامة لا ينفرد بها العراق وحده. ولكن، بينما لم تتأثر الصحافة الورقية في العراق مع دخول أول راديو للعراق عام 1936 وأول تلفزيون عام 1956. ويومذاك كان العراق الرائد العربي الأول في كليهما، فإنها بدأت تتأثر مثل سواها من الصحف الورقية في كل بلدان العالم تقريباً إلا ما ندر.
في العراق تركت أنظمة الحكم تأثيراتها المتباينة على الصحافة العراقية، وبالذات الورقية منها. فإبان العهد الملكي (1921 - 1958) مرّت الصحافة الورقية بمراحل مختلفة ترنحت خلالها بين الحرية مرة والتضييق مرة أخرى طبقاً للجرعة من الديمقراطية التي كانت تمنحها السلطات آنذاك. ومع ذلك، كان لها دورها الفعال، الذي وصل أحياناً إلى إسقاط حكومات. وهذا جعلها تنتشر بشكل كبير في أوساط الناس، بحيث صارت الصحف في عقدي الأربعينات والخمسينات تصدر بطبعتين صباحية ومسائية، ليس في بغداد فقط، بل حتى في بعض المحافظات الشمالية والجنوبية من البلاد.
إلا أنه بعد «ثورة يوليو 1958» خضعت الصحافة الورقية لطبيعة أنظمة الحكم الجمهورية، وأصبحت عرضة لمتغيرات كثيرة بسبب اضطراب الأوضاع حتى عام 1968... عندما سيطر البعثيون على البلاد لمدة 35 سنة بلا انقطاع. وطوال السنوات الـ35 من حكم حزب البعث سيطرت آيديولوجية واحدة هي آيديولوجية حزب البعث، وانعكست على واقع الصحافة بشكل عام ومنها الورقية. وفي حين كانت تبلغ مبيعات الصحف مئات آلاف النسخ فإن أعدادها كانت قليلة نسبياً. فبالإضافة إلى الصحف الرسمية وهي «الثورة» و«لجمهورية»، صدرت خلال الثمانينات إبّان الحرب العراقية ـ الإيرانية صحيفة عسكرية يومية هي «القادسية» وأخرى أسبوعية هي «اليرموك»، ومجلة عسكرية هي «حراس الوطن». كذلك، كانت هناك صحف للمعارضة التي تشكلت خلال حقبة «الجبهة الوطنية» بين حزب البعث من جهة وكل من الشيوعيين والأكراد. الشيوعيون أصدروا جريدة «طريق الشعب» ومجلة «الفكر الجديد»، بينما أصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة مسعود بارزاني وقبله والده مصطفى البارزاني - المتوفى عام 1977خارج العراق) صحيفة «التآخي»، وأصدر منافسه الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني (توفي عام 2017) «الاتحاد». وكذلك صدرت صحيفة أهلية واحدة هي «الراصد». أما على صعيد المجلات فقد كانت هناك مجلة «ألف باء» وهي أسبوعية ومجلة «فنون»، وهي أسبوعية أيضاً، فضلاً عن صحافة الأطفال مثل «مجلتي» و«المزمار».
بطبيعة الحال، بعد غزو العراق عام 2003، حصل تغيّر في كل شيء في البلاد بما في ذلك الصحافة الورقية. إذ اختفت صحافة النظام السابق تماماً، التي كانت لا تزيد عن 5 صحف تقريباً، وأسس خلال السنتين الأوليين من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 مئات الصحف اليومية حتى باعة بعض الحلويات أصدروا هم أيضاً صحفاً يومية. وبينما حصل هذا «الانفجار الإعلامي» بسبب كثرة أحزاب المعارضة التي دخلت العراق مع الأميركيين، أو نتيجة المنح الأميركية التي كانت تقدر في الفترة الأولى بملايين الدولارات لمن يروم إصدار صحيفة تقترب من المشروع الأميركي تحت عنوان «نشر الديمقراطية». ورغم أن النمو الهائل للصحافة الورقية تزامن مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية ووكالات الأنباء والفضائيات، فإن الأعداد الكبيرة للصحف الصادرة خلال السنوات الخمس الأولى من الاحتلال الأميركي بدأت تتراجع. وبالفعل، احتجب معظمها ولم يصمد إلا عدد قليل ما زال يصدر في ظل صعوبات مادية ناجمة عن شح الموارد الإعلانية التي تكاد تكون المصدر الوحيد. والواقع، أن جلّ أصحاب رؤوس الأموال أو كبار السياسيين اختاروا الترويج لمشاريعهم عبر الفضائيات أو المواقع والوكالات.
اليوم تواصل مجموعة من الصحف الورقية الصدور، كلها ما عدا صحيفة واحدة هي «الزمان» - الذي يملكها مؤسس قناة «الشرقية» سعد البزّاز - صدرت بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وعلى رأس هذه الصحف «الصباح»، وهي الصحيفة الرسمية التي تصدر عن شبكة الإعلام العراقي، و«الزوراء» التي تصدر عن نقابة الصحافيين العراقيين، فضلاً عن صحف حزبية مثل «طريق الشعب» التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي وصحف أهلية مثل «المشرق» و«الصباح الجديد» و«الدستور» و«البينة الجديدة» و«المدى» و«كل الأخبار» و«المواطن» و«المورد».
هنا يمكن التساؤل... هل ماتت أو في طريقها إلى الموت الصحافة الورقية؟ وهل لا تزال لدى الصحافة العراقية طموح في توسيع إمكانيات الانتشار... أم أن الآمال بدأت تتضاءل مع اتساع نطاق القراءة عبر المواقع الإلكترونية حتى للصحف التي لا تزال لديها طبعة ورقية؟
الدكتور طه جزاع، وهو إعلامي معروف وكان ترأس تحرير عدد من الصحف والمجلات، فضلاً عن كونه أستاذ فلسفة في جامعة بغداد، يجيب «الشرق الأوسط»، فيقول إنه «رغم أن معطيات الحاضر تشير إلى سيادة المواقع الإلكترونية الخبرية، وعكوف ملايين القراء عن متابعة الصحف الورقية، وكذلك موت الخبر على أيدي الوكالات الخبرية، ومعها القنوات الفضائية التي تنقل الأحداث مباشرة، وتتقصى الأخبار وتتابع الأحداث أمام أنظار ومسامع المشاهدين في كل بقاع العالم... غير أن ذلك كله لا يعني موت الصحافة الورقية، ولا انسحابها النهائي عن مسرح الحياة، ولو إلى حين لم يحن أوانه بعد».
ثم يتابع: «قد تبدو القضية عاطفية نوعاً ما. إذ من الصعوبة بمكان أن يتصور الصحافي الذي أمضى عمره بين هدير المطابع ورائحة الحبر وسخونة الورق، حلول اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الأرض من دون صحف ورقية. ومن الصعوبة أيضاً أن يغير قارئ الصحف الورقية عاداته القرائية الصباحية حتى في ظل توفرها على المواقع الإلكترونية. هذا الأمر قد لا يكون مستساغاً للأجيال الجديدة من الصحافيين والقراء على السواء الذين استغنوا عن الورق واستعاضوا عنه بشاشة الكومبيوتر أو الهاتف الذكي... يُقَّلبون فيها صفحات الصحف والمجلات بيسر وسهولة مع تحديثاتها المستمرة للأخبار التي لا تتوقف، ناهيك من أخبار الفضائيات والمحطات الإخبارية التي لا يمكن أن يختبئ فيها الخبر مهما كان سرياً حتى مطلع الصباح».
ويضيف الدكتور جزاع أنه «أمام هذه الحقائق، وأيضاً أمام التغييرات السلوكية للبشر التي فرضتها جائحة (كوفيد – 19) وألقت بظلالها الثقيلة على العالم أجمع، اختفت الكثير من الصحف الورقية، أو انخفضت مبيعاتها وتقلصت أعدادها، واكتفى الكثير منها بالموقع الإلكتروني، تقليصاً للنفقات وللجهد البشري. ومن أجل الصمود أمام الغول الإلكتروني الرقمي الذي ابتلع العشرات من الصحف والمجلات، وما زالت شهيته مفتوحة لابتلاع صحف ومجلات أخرى قد تجد نفسها مُجبرة في النهاية على الانصياع لمنطق السوق. إنه منطق العرض والطلب الذي يحدد مدى الحاجة للسلعة، حتى وإن كانت مجلة أو جريدة ورقية. ثم يشير إلى أن «الكثير من الصحف العراقية باتت تكتفي عادة بمواقعها الإلكترونية، ومنها صحف ورقية، تضطر في بعض الإيام للاحتجاب الورقي بسبب نقص الإعلانات التي تغطي تكاليف الطباعة... وهي تصدر في الأيام التي تتوفر فيها تلك الإعلانات». ويختتم حديثه بالقول إن «الصورة تبدو يائسة بالتأكيد، غير أن الحرس القديم للصحف الورقية من الصحافيين والقراء يأبى الاستسلام حتى وإن دخلت محبوبته غرفة الإنعاش، والأمل يحدوهم أنها لن تلفظ أنفاسها الأخيرة، على الأقل وهم على قيد الحياة».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.