إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

يتولى السلطة في جيبوتي منذ 22 سنة... ويبدأ ولاية خامسة «أخيرة»

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب
TT

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

إسماعيل غيلة... «رجل الاستقرار» في محيط إقليمي مضطرب

وسط محيط إقليمي مضطرب للغاية، يقف رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غيلة، مستعرضاً إنجازه الأبرز المتمثل بخلق حالة استقرار في بلاده، تبدو غريبة إذا ما قورنت بجواره المشتعل في القرن الأفريقي.
فعلى مدار 22 سنة أمضاها في السلطة، نجح غيلة في بسط سيطرته على هذا البلد الساحلي الصغير بـ«قبضة من حديد»، مستغلاً موقعه الاستراتيجي على حدود أفريقيا الشرقية وشبه الجزيرة العربية، وعلاقاته المتشعبة والمتنوعة، لكسب دعم دولي واسع، ساعده في الفوز بولاية رئاسية جديدة وأخيرة تمتد حتى عام 2026. فلقد أعيد انتخاب غيلة (73 سنة)، مطلع أبريل (نيسان) الماضي، رئيساً لجيبوتي لولاية خامسة، بعد حصوله على 97.44 في المائة من الأصوات، محققاً أعلى نسبة تأييد منذ دخوله المعترك الرئاسي عام 1999. عندما تولى المنصب، ثاني رئيس للبلاد، خلفاً لسلفه حسن غوليد أبتيدون، أول رئيس بعد إنهاء الاحتلال الفرنسي.
ووفق مراقبين، فإن دور غيلة مهم في رفع مكانة جيبوتي في منطقة القرن الأفريقي، ووجود تأييد دولي يريد الحفاظ على استقرارها، لما لها من موقع استراتيجي مهم؛ أسهم بجانب ضعف المعارضة الداخلية في استمراره بالحكم طوال تلك المدة، حتى غدا أحد أطول الحكام حكماً في القارة الأفريقية. ومعلومٌ أن جيبوتي، التي يجاورها أكثر بؤر العالم اشتعالاً، بينها اليمن والصومال، تستضيف قواعد عسكرية أجنبية للولايات المتحدة وفرنسا واليابان، وأخيراً الصين.

يتميز الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيلة بخلفية تنوع ثقافي واسع، إذ ولد يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 في ديره داوا، إحدى كبرى مدن إثيوبيا؛ حيث كان والده يعمل في شركة السكك الحديدية الفرنسية - الإثيوبية (CFE)، وهي الشركة التي بنت خطاً يربط بين جيبوتي وأديس أبابا، وكان مكتبها الرئيس في ديره داوا.
ومن ثم، تلقى غيلة تعليمه في المعهد الديني في إثيوبيا، وعام 1960 انتقل إلى جيبوتي قبل أن ينهي دراسته الثانوية. بعدها، في عام 1964 بدأ العمل في دائرة الإعلام العام لإقليم العفر والعيسى الفرنسي، كونه يتكلّم اللغات الأمهرية والصومالية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، قبل أن يلتحق بالشرطة الفرنسية حيث وصل إلى رتبة مفتش.
ومع اتساع أفقه السياسي، ترك غيلة الشرطة الفرنسية، وانخرط في حزب «الرابطة الشعبية الأفريقية من أجل الاستقلال» (LPAI) برئاسة قريبه حسن غوليد أبتيدون، الذي يناضل من أجل الاستقلال. وبعد استقلال جيبوتي، أصبح رئيساً للشرطة السرية ورئيساً لمجلس الوزراء في حكومة غوليد.
وفي أعقاب اندماج «حركة استقلال الشعب الأفريقي» مع أحزاب أخرى، ولد حزب «التجمع الشعبي للتقدم» عام 1979. وخلال العام 1983 انتخب للجنة المركزية للحزب وترأس اللجنة الثقافية للحزب في باريس، وعام 1996 انتخب للمرة الثالثة نائباً لرئيس الحزب. وما يُذكر هنا، أنه مُنح «وسام بادما فيبهوشان»، ثاني أعلى جائزة مدنية في الهند في 25 يناير (كانون الثاني) 2019 لدوره في الإجلاء الآمن للمواطنين الهنود من اليمن.

- رئاسة جيبوتي
في 4 فبراير (شباط) 1999، أعلن الرئيس غوليد أبتيدون، الذي حكم جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، إحجامه عن خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، واختار المؤتمر الاستثنائي لحزبه «التجمع الشعبي من أجل التقدم» الحاكم، غيلة مرشحاً رئاسياً بديلاً، بصفته المرشح المشترك عن «حزب العمال التقدمي» والجناح المعتدل لـ«جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية» (FRUD). وبالفعل، فاز غيلة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 9 أبريل من العام نفسه جامعاً أكثر من 70 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على منافسه الوحيد، المرشح المستقل موسى إدريس.
بعدها كان المرشح الوحيد في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 8 أبريل 2005، وفاز بنسبة 100 في المائة من الأصوات المدلى بها وأدى اليمين لولاية ثانية مدتها 6 سنوات، قال إنها ستكون الأخيرة له. إلا أنه مع ذلك، في عام 2010، أقنع غيلة الجمعية الوطنية في جيبوتي بتعديل دستور البلاد، ما يسمح له بالترشح أكثر من مرتين. وقوبلت هذه الخطوة باحتجاجات كبيرة عام 2010 على غرار «الربيع العربي»، ولكن أمكن إخمادها بسرعة. ولاحقاً، بعد التعديل قاطعت أحزاب المعارضة انتخابات 2011. ولم يتبق سوى مرشح واحد غير معروف ضد غيلة في الاقتراع، ما سمح له بالفوز بولاية ثالثة بما يقرب من 80 في المائة من الأصوات.
كذلك، عام 2016، كان غيلة الفائز أيضاً في الانتخابات الرئاسية حاصلاً على نحو 87 في المائة من الأصوات الشعبية، قبل أن يعاد انتخابه لولاية خامسة، العام الحالي.
وبموجب الدستور، الذي لا يسمح لمن تجاوز الخامسة والسبعين من العمر الترشح للانتخابات، يُفترض أن يكون هذا الاقتراع الأخير للرئيس غيلة الذي سيكون قد تجاوز هذا السن بحلول العام 2026.
ولكن، في أي حال، تقول منظمات حقوقية إن الولايات الأربع الأولى للرئيس غيلة لم يفسح فيها أي مجال للاحتجاج أو حرية الصحافة. إلا أنها في المقابل، تميّزت بتحسن الاقتصاد مع تطوير الموانئ والبنى اللوجستية. ثم إن غيلة ساهم في جعل هذه المنطقة شبه الصحراوية، مفترق طرق تجارياً يمرّ من خلاله معظم البضائع المستوردة من قبل «الجارة» الكبيرة إثيوبيا التي لا تملك أي منفذ على البحر. وهذا، بينما تقع جيبوتي على أحد أكثر طرق التجارة ازدحاماً في العالم، وهو خليج عدن، مما يعطيها موقعاً استراتيجياً.

- انتخابات أخيرة محسومة
كما سبقت الإشارة، لم يواجه الرئيس إسماعيل غيلة خلال انتخابات 2021 سوى منافس واحد فقط، هو الوافد الجديد نسبياً رجل الأعمال زكريا إسماعيل فرح (56 سنة). وهذا المنافس رجل أعمال ضعيف الشعبية بدأ العمل السياسي متأخراً، في ظل مقاطعة معظم قوى المعارضة، على رأسها «تحالف الإنقاذ الوطني» (USN)، و«التجمع من أجل العمل والديمقراطية والتنمية البيئية» (RADDE). إذ أعلنت هذه القوى في فبراير الماضي أنها لن تقدّم مرشحاً للانتخابات الرئاسية، مدعية أن العملية الانتخابات لا تلبِّي الشروط والمعايير التي تريدها المعارضة. لكنها مع ذلك لم تَدْعُ الشعب إلى مقاطعة التصويت.
البيانات الانتخابية الرسمية بيّنت حصول فرح على نسبة 2.48 في المائة فقط من أصوات 215 ألف ناخب جيبوتي صوتوا في الانتخابات. هنا نشير إلى أن تعداد سكان جيبوتي يبلغ 900 ألف نسمة. وأجريت العملية الانتخابية تحت رقابة عدد من البعثات الدولية؛ بينها بعثات للاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيجاد)، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي.
وفي حين رحّب غيلة بهذه النتيجة، وألقى خطاب شكر للشعب على تجديد الثقة له، شكّك فرح في صدقية النتائج، ووصف الانتخابات بـ«غير الحقيقية»، مدّعياً أن «مندوبيه لم يكونوا حاضرين في مراكز الاقتراع».
فوز غيلة قوبل بترحيب إقليمي دولي، إذ تلقى برقيات التهنئة من قادة الدول المجاورة، رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ورئيس الصومال محمد عبد الله فرماجو، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بجانب عدد من الرؤساء والملوك العرب، بينهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل المغربي الملك محمد السادس، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. كذلك أعربت الولايات المتحدة عن تطلعها إلى العمل مع حكومة الرئيس غيلة وشعب جيبوتي لتعزيز مصالحهما المشتركة بعد الانتخابات الرئاسية، وتقديرها لعمل بعثات مراقبة الانتخابات.
سياسياً، ثمة مجموعة من العوامل سهَّلت فوز الرئيس غيلة بالانتخابات، تتمثل وفق الباحث في الشؤون الأفريقية، محمد الجزّار، في الدعم القوي من تحالف «الاتحاد من أجل الغالبية الرئاسية»، إذ إنه ما يزال محافظاً على وحدته حتى الآن منذ تأسيسه، وتولّى اختيار الرئيس ليكون مرشحاً له في الانتخابات. وهذا إضافة إلى مقاطعة المعارضة للانتخابات، وانقسامها، وتبنّيها استراتيجيات غير فاعلة.
على صعيد متصل، فإن العامل الأهم، هو حالة الاستقرار السياسي التي تعيشها جيبوتي في ظل محيط إقليمي مضطرب، ذلك أن دول جوار جيبوتي تشهد صراعات وحروباً داخلية. فلو نظرنا إلى إثيوبيا نجد أنها تشهد أزمات داخلية وصراعات إثنية في إقليم التيغراي وإقليم بني شنقول، وأزمات خارجية تتمثل في أزمة «سد النهضة» مع مصر والسودان، والحرب على الحدود مع السودان. وبينما تواجه الصومال أزمة انتخابات رئاسية، ونشاطات الجماعات الإرهابية، تعيش إريتريا في أزمات اقتصادية، وتوترات بسبب الحرب في إقليم التيغراي الإثيوبي. ثم على الساحل الآخر من البحر الأحمر، نجد الأزمة اليمنية أنهكت البلاد وما زالت مستمرة حتى الآن.
فضلاً عن كل ذلك، فإن غيلة يحظى بتأييد دولي يريد الحفاظ على استقرار جيبوتي، لما لها من موقع استراتيجي مهم. إذ يهم القوى الدولية استقرار البلاد لضمان حماية مضيق باب المندب وخليج عدن، الذي يمر عبره 40 في المائة من الحركة البحرية العالمية، بما في ذلك 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً، والحفاظ على حركة التجارة العالمية وحمايتها من القراصنة من خلال القواعد العسكرية الموجودة في جيبوتي.
ثم إن جيبوتي تبنَّت «نموذج التنمية بالعسكرة» من خلال استضافة قواعد عسكرية أجنبية توفّر لها موارد مالية تساعدها على تنفيذ المشروعات التي تطمح إليها في ظل ندرة الموارد الاقتصادية الكبير. إذ تعد إيرادات هذه القواعد العسكرية جنباً إلى جنب مع إيرادات ميناء جيبوتي هي المصادر الرئيسة للدخل، وبالتالي، تنظر القوى الدولية إلى استمرارية الرئيس غيلة على أنها إحدى طرق ضمان الاستقرار في المنطقة.

- رؤية منفتحة
من ناحية أخرى، يتمتع الرئيس غيلة برؤية منفتحة على العالم، معتمداً على سياسة فتح مجال التعاون العربي والأفريقي والدولي على الصعيد الاقتصادي والأمني والعسكري. ويقول الرئيس الجيبوتي إن بلاده لا تخشى من تنافس عسكري بين الدول الكبرى فوق الأراضي الجيبوتية، لأن وجودها موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب وضد القرصنة البحرية ولحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم.
أيضاً يعتبر غيلة الصراعات الدائرة من حوله في الصومال واليمن والقرصنة البحرية والإرهاب من التحديات الرئيسة التي تعاني منها منطقة القرن الأفريقي على الصعيدين الأمني والتنموي. وكان في حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قد قال إن جيبوتي «تضطلع بدور طليعي في الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، لينعكس ذلك إيجاباً على التكامل والتضامن الاقتصادي وتعزيز فرص العيش الكريم لشعوبها».
وهو يرى أن الوجود العسكري للدول الكبرى في جيبوتي هو «مصالح مشتركة... فهو ليس استقطاباً أو تنافساً بين هذه الدول على مصالح اقتصادية واستراتيجية في المنطقة، بل هو موجه في المقام الأول لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة الدولية في هذا الموقع الاستراتيجي المهم من العالم». وعليه، فإنه يسعى إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار والتنمية في بلاده على وجه الخصوص وفي المنطقة على وجه العموم.
وبالفعل، نجح غيلة في رفع مكانة جيبوتي من خلال سعيه لجعلها دولة محورية في منطقة القرن الأفريقي. ويتضح هذا من تدخل جيبوتي لتسوية الأزمة الأخيرة بين كينيا والصومال، واستضافة المباحثات بين الصومال وأرض الصومال، ومحاولة تسوية الأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد استطاع غيلة قيادة جيبوتي لتحقيق نجاح لافت على المستوى الاقتصادي. إذ نما الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي 7 مرات، ليصل إلى ما يقرب من 3.3 مليار دولار عام 2020. كما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في جيبوتي يبلغ نحو 3500 دولار، وهو معدل أعلى من معدلات معظم دول أفريقيا، جنوب الصحراء، وفقاً لتقارير البنك الدولي. وفضلاً عن ذلك، أُطلقت مجموعة من المشروعات في البلاد بتمويل أجنبي، وخاصة من الصين، بينها بناء خط سكة حديدية يربط جيبوتي بأديس أبابا دشّن عام 2017. كما أطلقت البلاد المرحلة الأولى من مشروع أكبر منطقة تجارة حرة في أفريقيا.
وأخيراً، على الصعيد الأمني، نجح في الحفاظ على أمن البلاد ووقايتها من خطر انتشار الحركات والتيارات الإرهابية المنتشرة في المنطقة، خاصة الصومال.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،