«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

الفرع السويسري هز الجذع الدولي لبنك «إتش إس بي سي»

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي
TT

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

«سويس ليكس».. تهز ضمير العالم المالي

بدأت فضيحة ما يعرف بـ«سويس ليكس»، التي تورط فيها مصرف «إتش إس بي سي» البريطاني العملاق، كنار وسط هشيم، سرعان ما اتسع خطرها، واضعة سمعة هذه المؤسسة المالية وفروعها في أنحاء العالم على المحك.
بدأت فصول هذه الفضيحة، التي أثارت عاصفة سياسية قبل الانتخابات العامة في مايو (أيار) المقبل، بادعاءات بوجود تورط في عمليات تهرب ضريبي وغسل أموال، ما زالت تحقيقاتها مستمرة. التحقيقات الجديدة جاءت رغم تأكيدات البنك بأنه قام بتنظيف الممارسات الخاطئة في الفرع السويسري، خصوصا في ما يتعلق بالتهرب الضريبي، منذ ظهور أول تسريبات شبيهة في عام 2008.

الأسبوع الماضي قامت السلطات السويسرية بغارة على الفرع السويسري في جنيف لفحص مزيد من مستندات البنك، ووثائقه، بعد أن تعالت الأصوات وتصاعدت موجة التسريبات لتشمل فروعا في عدد من بلدان العالم. ويواجه البنك حاليا تحقيقات في البرازيل والمكسيك والأرجنتين وفرنسا وبلجيكا والدنمارك، وهي تحقيقات تتعلق بحسابات سرية بعضها يخص قضايا فساد واختلاس وغسل أموال.
لم تتوقف الأمور عند حد.. وتصاعدت التطورات أخيرا بعد كشف مزيد من الوثائق السرية تؤكد إحداها أن المدير العام للمصرف، ستيوارت غاليفر، الذي تعهد بإصلاح هذه المؤسسة المالية التي طالتها الفضيحة، كان هو نفسه يملك ملايين الدولارات في حساب في سويسرا.
وبحسب الصحف البريطانية، فإن المدير العام للمصرف كان من عملاء فرعه السويسري المتهم بمساعدة زبائن أثرياء على التهرب من دفع الضرائب. وأفادت الصحف أن ستيوارت غاليفر كان يملك نحو 7.6 مليون دولار عام 2007 في حساب باسم «ورستير إيكويتيز»، وهي شركة مسجلة في بنما.
وكانت الصحف البريطانية نشرت قبل أيام رسالة اعتذار من غاليفر على أنشطة فرع «إتش إس بي سي» السويسري. وأكد غاليفر في رسالته أنه تمت «إعادة هيكلة كاملة» للفرع السويسري للمصرف بعد2007 بعدما سرب مهندس معلوماتي فرنسي يدعى ارفيه فالشياني قوائم بعملاء المصرف الذين يملكون حسابات في سويسرا وسلمها إلى السلطات الفرنسية.

* جذور القضية
تعود جذور قضية بنك «إتش إس بي سي» إلى ما قبل 7 سنوات، ولكنها انفجرت مرة أخرى قبل أيام عندما حصلت عدة وسائل إعلام من فرنسا وبريطانيا وحول العالم على وثائق سرية قررت معها نشر تفاصيل جديدة حول نشاط البنك في مساعدة عملائه على التهرب من دفع الضرائب وعلى غسل الأموال. وتأتي التفاصيل الجديدة في وقت حرج قبل الانتخابات البريطانية في شهر مايو المقبل حيث تستغلها الأحزاب البريطانية سياسيا.
وفي بريطانيا، يبحث الإعلام في سر تعيين رئيس البنك السابق ستيفن غرين وزيرا للتجارة، وعما إذا كان رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون يعلم بفضيحة البنك في وقت التعيين عام 2010.
وقائع قضية بنك «إتش إس بي سي» بدأت عام 2008 حينما قام محلل برامج اسمه ايرفي فالشياني كان يعمل في الفرع السويسري للبنك بسرقة بيانات سرية لأكثر من 30 ألف عميل للبنك يملكون في حساباتهم أكثر من مائة مليار دولار. وتعود هذه الحسابات إلى الفترة ما بين 2005 و2007، وذلك في أكبر عملية تسريب مصرفية في العالم تشبه عملية «ويكيليكس» لتسريب المعلومات الدبلوماسية الأميركية.
هرب فالشياني بالوثائق الإلكترونية إلى فرنسا. وفي فرنسا سلم فالشياني المعلومات للسلطات الفرنسية مقابل حمايته من طلب الاعتقال السويسري.
وفي عام 2009، بعثت وزيرة المالية الفرنسية آنذاك كريستيان لاغارد لائحة بعملاء البنك المذكورين في قوائم حسابات البنك إلى السلطات البريطانية وإلى حكومات عدد من الدول الأخرى.
ورغم علم السلطات البريطانية بفضيحة البنك، فإنها قامت بتعيين ستيفن غرين رئيس بنك «إتش إس بي سي» خلال فترة المخالفات وزيرا للتجارة، ثم رفعته إلى مجلس اللوردات في عام 2011.
القضية التي عادت إلى الظهور مرة أخرى متعددة الجوانب وتمس مجالات الضوابط المالية على البنوك خصوصا في مناطق الـ«أوفشور»، وأيضا الجوانب السياسية والإعلامية في الدول المتأثرة بالفضيحة، وما إذا كانت هناك جهود تبذل تحت الستار لإخفاء التحقيقات.
«الشرق الأوسط» اتصلت بهيئة الإشراف المصرفي (FCA) لمعرفة ما إذا كانت تقوم في الوقت الحاضر بتحقيقات حول وضع «إتش إس بي سي»، فكان رد المكتب الصحافي فيها أن «الهيئة تبحث في ممارسات البنك، ولكنها لا تقوم بتحقيق في الوقت الحاضر». وأضافت المتحدثة أن التسريبات في الفرع السويسري «أظهرت أهمية أن تعمل البنوك وفق الضوابط نفسها في كل المواقع والفروع». وأكدت الهيئة أنها تتعاون مع «بنك إنجلترا» ومع مصلحة الضرائب «من أجل معالجة أي قضايا إشرافية تظهر جراء الممارسات الحالية في «إتش إس بي سي».
وقال رئيس الهيئة مارتن ويتلي أمام هيئة برلمانية بريطانية إن الادعاءات ضد البنك تعود إلى أحداث وحسابات في الفترة ما بين 2005 و2007 وتخص الفرع السويسري وحده، وأضاف أن الهيئة تتابع ممارسات البنك جيدا وتعتقد أنها تحسنت بدرجة ملحوظة.
من ناحية أخرى، رفض «بنك إنجلترا» التعليق على القضية أو تأكيد ما إذا كان الجهاز الرقابي في البنك يقوم بمراجعة ممارسات بنك «إتش إس بي سي». كذلك رفضت مصلحة الضرائب البريطانية الإجابة عن أسئلة حول مجرى التحقيقات حاليا في حالات العملاء البريطانيين للبنك من المخالفين لقوانين الضرائب. وقال متحدث من المصلحة إنها لا تعلق على قضايا خاصة بأفراد أو بشركات فردية مثل «إتش إس بي سي».

* تداعيات إعلامية وسياسية
من أهم تداعيات القضية إعلاميا كانت استقالة كبير المحررين السياسيين في صحيفة «تلغراف» البريطانية بيتر أوزبورن، في نزاع مع ناشر الصحيفة حول محاولات منع نشر مقالات سلبية عن بنك «إتش إس بي سي» خوفا من منع إعلانات البنك عن الصحيفة. وطالب أوزبورن بالتحقيق في مدى تحكم أقسام الإعلان في السياسة التحريرية للصحف، وقال إن تغطية الصحيفة لموضوع بنك «إتش إس بي سي» هي فضيحة في حد ذاتها وغش للقراء. وكشفت صحيفة الـ«غارديان» البريطانية أن الأخوين باركليز حصلا على قرض قيمته 250 مليون إسترليني (375 مليون دولار) من بنك «إتش إس بي سي» لشركات أخرى غير الصحيفة مما يثير الشكوك في ادعاءات المحرر أوزبورن الذي استقال.
ويستغل حزب العمال المعارض هذه القضية سياسيا في إبراز تعيين رئيس «إتش إس بي سي» السابق ستيفن غرين وزيرا للتجارة في عام 2010، وأيضا لأن التحقيقات البريطانية لم تسفر إلا عن قضية تهرب ضريبي واحدة. ويلعب الحزب على أوتار الاعتقاد السائد بأن الفقراء فقط هم الذين يعاقبون على التهرب الضريبي في بريطانيا. وقدم الحزب استجوابا لوزير الخزانة جورج أوزبورن عن مدى معرفة وزارته بتوجه مصلحة الضرائب لعدم محاكمة مخالفي قوانين الضرائب وعما إذا كانت الوزارة سمحت بذلك.
أما حزب المحافظين فيرفض إجراء تحقيق علني، ويقول المتحدث باسم رئيس الوزراء إن مصلحة الضرائب البريطانية تصرفت بعقلانية عندما فضلت تحصيل الضرائب والغرامات بدلا من رفع قضايا جنائية.
من ناحيتها، تقول وزارة الخزانة التي تلقت المعلومات من فرنسا إن السلطات الفرنسية وضعت بعض القيود على استخدام المعلومات وهي قيود لم ترفع إلا أخيرا.

* جوهر القضية
جوهر الفضيحة كما عرف من الحسابات السويسرية للبنك هو أن بعض العملاء المذكورين يملكون حسابات سرية لا تعرف عنها مصلحة الضرائب البريطانية شيئا، وأن البنك ساعد هؤلاء العملاء على التهرب الضريبي مع معرفته بذلك، بل وسهل لبعض العملاء استخدام أموالهم بطرق غير مشروعة للتهرب الضريبي.
في إحدى الحالات طلب أحد العملاء البريطانيين من الفرع السويسري إرسال شحنة مالية نقدية سرية إليه في لندن مع موظف من البنك، فطلب منه البنك التوجه إلى فرع لندني لتلقي المبلغ المطلوب نقدا.
في حالة أخرى صرف البنك السويسري مبلغ 2.5 مليون إسترليني (3.75 مليون دولار) نقدا لعميل ذهب لسويسرا لتسلم المبلغ في حقيبة.
عميل ثالث في بريطانيا طلب وسيلة للوصول السهل إلى حسابه السري، فصرف له البنك بطاقة ائتمان يمكن بها صرف أي مبالغ نقدية فورية من أجهزة الصرف الآلي حول العالم.
وبعد كشف هذه المعلومات منذ عام 2009 في بريطانيا حول حسابات سرية لأكثر من 5 آلاف عميل بريطاني، لم تسفر التحقيقات إلا عن توجيه الاتهام لشخص واحد بالتهرب الضريبي، بينما تم تحصيل مبلغ 135 مليون إسترليني (202 مليون دولار) من بقية عملاء البنك المتهربين من الضرائب، وهو مبلغ أقل مما حصلته دول أخرى لديها عدد أقل من العملاء في بنك «إتش إس بي سي». فالتسريبات أدت إلى تحقيقات جنائية وعمليات اعتقال في كل من فرنسا وبلجيكا والأرجنتين.
وتدل عملية الاقتحام والتفتيش من السلطات السويسرية لفرع البنك في جنيف أخيرا على أن سويسرا تعتبر التهرب الضريبي جريمة أكبر من السرقة التي أدت إلى الكشف عن هذا التهرب، فقد كانت في السابق تلاحق سارق المعلومات فالشياني وحده، أما الآن فهي تلاحق البنك والسارق معا، وتقول إنها قد تحاكم فالشياني غيابيا.
البنك نفسه يقول إنه يتعاون مع السلطات السويسرية منذ علمه بسرقة معلومات الحسابات في عام 2008. ويشير البنك إلى أن القضية قديمة وأن ما يثار حولها الآن يجري لأغراض أخرى. وأكد بيان من البنك أنه منذ عام 2008 قام البنك بتغيير شامل لتعزيز المراقبة ومعرفة هوية المودعين، مما أدى إلى خفض عدد المودعين في البنك السويسري بنسبة 70 في المائة منذ عام 2007.
وفي الأسبوع الماضي نشر البنك إعلانات على صفحات كاملة في الصحف البريطانية يعتذر فيها عن ممارسات الفرع السويسري، ويشير إلى أن المخالفات وقعت قبل 8 سنوات وأن مناخ وضوابط العمل في البنك قد تغيرت منذ ذلك الحين.
ويقول المتحدث الإعلامي في الفرع الرئيسي للبنك إن عدد الموظفين المشرفين على الالتزام الضريبي زاد 4 أضعاف إلى 6 آلاف موظف. وفي عام 2012 وقع البنك اتفاقية مع السلطات الأميركية للالتزام بقواعد منع غسل الأموال، وذلك بعد دفع أكبر غرامة في تاريخ المصارف الحديث، قدرها 1.9 مليار دولار لمخالفته قوانين الحظر على إيران وشبهة غسل أموال لشبكات مخدرات مكسيكية.

* سر عودة قضية «إتش إس بي سي» إلى واجهة الأحداث.. وحقائق أخرى
* رغم أن قضية «إتش إس بي سي» تعود إلى عام 2008 وتتعلق بحسابات مصرفية بين عامي 2005 و2007، فإنها انفجرت إعلاميا في عام 2015، لسبب بسيط؛ وهو أن بعض وسائل الإعلام حصلت على التسريبات المصرفية وقررت نشر الوقائع. من هذه الوسائل كل من صحيفة «لوموند» الفرنسية التي كانت المصدر الأصلي قبل توزيعها معلومات الحسابات السرية على كل من «بي بي سي» والـ«غارديان» البريطانية ونحو 50 صحيفة أخرى حول العالم.
* هناك فارق قانوني مهم في قضايا الضرائب، حيث تساهم معظم البنوك الخاصة في مساعدة عملائها على كيفية تجنب دفع الضرائب، وهو نشاط يسمى (Tax Avoidance) ويعتبر قانونيا تماما رغم أن بعض البنوك تذهب إلى أبعاد خيالية لتجنب الضرائب. أما إخفاء الأموال أو تهريبها من أجل التهرب الضريبي (Tax Evasion) فهو أمر مخالف للقانون وتعاقب عليه بعض الدول بالسجن وبعضها بالغرامة.
* ما لم تذكره التقارير حول تسريب الحسابات السويسرية لبنك «إتش إس بي سي» هو أن معظم العملاء على اللائحة يتمتعون بوضع قانوني سليم؛ حيث اتضح من الأرقام أن المخالفين لقوانين الضرائب كانوا أقل من عميل واحد من كل 7 عملاء على اللائحة البريطانية. وتفتح الحسابات المصرفية السويسرية لكثير من الأسباب وليس فقط للتهرب الضريبي. وصرح مصرفي بريطاني أنه فتح حسابا سويسريا بمبلغ 10 ملايين دولار من أجل إخفاء حجم عمولته عن زملائه.
* تكتسب عملية الإشراف المصرفي أهمية إضافية في الوقت الحاضر مع جهود ضبط ومنع مصادر تمويل الإرهاب. ومن المتوقع أن تعزز السلطات السويسرية من التزام البنوك السويسرية بقواعد منع غسل الأموال والتهرب الضريبي ومعرفة هوية أصحاب الحسابات المصرفية.

* وسائل «إتش إس بي سي» الست للتهرب الضريبي
* استخدم بنك «إتش إس بي سي» 6 وسائل من أجل تحقيق أهداف تجنب دفع ضرائب أو التهرب منها، لعملائه: وهي تشمل إحدى أو بعض الخطوات التالية:
- الحصول على الإقامة السويسرية عن طريق الإقامة في البلد لعدة أشهر كل عام ودفع معدلات الضريبة المنخفضة فيها. ولكن هذا الأسلوب يخص كبار الأثرياء فقط، وهو قانوني تماما.
- استخدام حق «غير المقيم» في الدول التي يعمل فيها عميل البنك. وفي بريطانيا، يحق للمواطن الذي يقيم في الخارج لفترات معينة من العام أن يتجنب دفع ضرائب على كل استثماراته وممتلكاته خارج بريطانيا.
- تأسيس صناديق «أوفشور»، وهو أيضا من الممارسات القانونية، ولكن تغييرات في قوانين الضرائب شملت هذه الصناديق ضمن الأصول غير المعفاة ضريبيا أدت إلى خفض شعبيته حاليا.
- أسلوب آخر هو تحويل الحسابات الشخصية إلى حسابات شركات لتجنب الالتزام بدفع ضرائب وفق اتفاقية وقعتها السلطات السويسرية مع الاتحاد الأوروبي في عام 2005.
- الأسلوب السهل وإن كان غير قانوني هو فتح حساب مصرفي سويسري سري وعدم إبلاغ السلطات الضريبية به.
- الوسيلة الأخيرة هي سحب الأموال نقديا وشحنها مع المسافر من الخارج إلى موقع إقامته. وإذا زادت هذه الأموال عن حدود معينة ولم يتم الإفصاح عنها فهي تصبح أيضا وسيلة غير قانونية.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».