لم ينتظر الرئيس الأميركي جو بايدن انتهاء الأيام المائة الأولى من عهده الرئاسي ليقلب رأساً على عقب المقاربة التي اعتمدها سلفه الرئيس السابق دونالد ترمب لمستقبل علاقات الولايات المتحدة بغيرها من دول العالم. رسم خطاً بيانياً واضحاً لما سماه «أميركا العائدة» إلى موقعها القيادي على الساحة الدولية، واضعاً ذلك في سياق أولوياته لخدمة المصالح الرئيسية للمواطنين الأميركيين.
تعد الأيام المائة الأولى من عهد كل رئيس أميركي محطة اختبار رئيسية للنهج الذي يعتمده، ومقياساً لما ستكون عليه السنوات الأربع التي سيمضيها في البيت الأبيض. وستكون هذه فرصة أيضاً أمام الرئيس الأميركي السادس والأربعين لتعديل الاستراتيجية التي خطّها وعبّر صراحة عنها في أكثر من مناسبة. رأى مبكراً أن التحولات الهائلة التي شهدها العالم في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين لا تسمح بحماية المصالح الاستراتيجية للشعب الأميركي بمجرد الاعتماد على قوة الولايات المتحدة والقرارات الأحادية أو الاستعلائية أو البطّاشة لرئيسها، كائناً من كان. استعاض عن ذلك بالعودة إلى تحالفات أميركا التاريخية وإلى الآليات المتعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التحالفات والشراكات الدولية الأخرى عبر المحيطين الهندي والهادي. نسج بايدن خلال الأيام المائة الأولى عروة وثقى بين الدور القيادي لبلاده دولياً والتأثيرات المباشرة وغير المباشرة لهذا الدور على الأميركيين. وانطلق من ذلك ليحدد مسار سياسته الخارجية بسلسلة وعود أطلقها منذ كان مرشحاً وبعدما انتخب رئيساً. ما كتبه بمقالته الشهيرة في مجلة «فورين أفيرز» في فبراير (شباط) 2019 كرره في خطاب تنصيبه في يناير (كانون الثاني) 2021 ثم في كلمته عندما زار وزارة الخارجية في فبراير 2021 طبق وزير الخارجية أنتوني بلينكن هذه الاستراتيجية التي تعترف بالتحديّات والتهديدات التي تواجه الولايات المتحدة ولا سيما من «التنين الاقتصادي والعسكري» متمثلاً بالصين، ولكن أيضاً من الخصم التقليدي: روسيا، في وقت يسعى فيه إلى منع إيران وكوريا الشمالية من التغوّل نووياً.
أميركا و«الأسرة الدولية»
ليست هذه هي العناوين الوحيدة للتحديات والتهديدات التي تقع في صلب رفاهية المواطنين الأميركيين، ديمقراطيين وجمهوريين وغير حزبيين، أوصلوا بايدن إلى البيت الأبيض. ولذلك لم يكتف السياسي الأكثر تمرساً في واشنطن بنقض سياسات سلفه ترمب ونهج «أميركا أولاً»، بل ذهب أيضاً إلى أبعد من مجرد متابعة سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما (بايدن كان نائب الرئيس آنذاك) في التعامل مع القضايا الدولية الساخنة. أعاد بايدن الاعتبار لانخراط الولايات المتحدة مع «الأسرة الدولية» بعد سنوات الجفاء مع الأمم المتحدة والعديد من المنظمات والهيئات المتعددة الأطراف، مثل منظمة الصحة العالمية واتفاق باريس للمناخ، وغير ذلك من تحديات القرن الحادي والعشرين. ركز أولاً على إعادة الدفء إلى العلاقات مع الجارين: كندا والمكسيك. ثم اجتهد من أجل توثيق العلاقات عبر المحيط الأطلسي، ولا سيما مع دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى بريطانيا. وشدد على توطيد الأواصر الأميركية عبر المحيطين الهادي والهندي، مع أستراليا واليابان والهند وكوريا الجنوبية، وهي الدول التي يمكن أن يصب التحالف معها في خانة جهود الولايات المتحدة لاحتواء «مبادرة الحزام والطريق» لتمديد نفوذ الصين عبر العالم.
الصين وروسيا
تنذر التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين بمرحلة أكثر صعوبة في العلاقات بين العملاقين الاقتصاديين، ولا سيما في ظل استمرار انتقادات الولايات المتحدة لنهج الصين مع كل من تايوان وهونغ كونغ وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الخاصة بالأويغور المسلمين في إقليم شينجيانغ وغيرهم من الأقليات في التيبت، فضلاً عن ادعاءاتها الملاحية في بحر الصين الجنوبي. غير أن الرئيس بايدن ترك الباب مفتوحاً للتعاون على غرار اتفاق البلدين على المصلحة المشتركة في مواجهة تغيّر المناخ. وعلى غرار الصين، أحيا بايدن أيضاً «معاهدة ستارت الجديدة» للحد من الأسلحة النووية مع روسيا، رغم اتهاماته الحادة لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، بالتدخل عسكرياً ضد أوكرانيا وانتهاكاته المتواصلة لحقوق الإنسان، ولا سيما ضد المعارض أليكسي نافالني. ولم يتردد في فرض عقوبات على الخصم الرئيسي في زمن الحرب الباردة، رداً على هذه الاعتداءات وعلى الهجمات الإلكترونية التي تعرضت لها الولايات المتحدة والتي يقول المسؤولون الأميركيون إن عملاء المخابرات الروسية يقفون وراءها.
خريطة مصالح معقدة
كانت الأسابيع الأولى من رئاسة بايدن بمثابة مجهر يظهر تفاصيل خريطته المعقدة للمصالح والقيم الأميركية. ينشد التعاون مع بقية مكونات الأسرة الدولية لمواجهة التهديدات العالمية المشتركة، كتغيّر المناخ وتفشي الجوائح والأوبئة وأخطار الإرهاب. لكنه يلجأ إلى حشد الحلفاء والشركاء لصون المبادئ والقواعد المرعية للنظام الدولي. لم يفرق في ذلك أحياناً بين الحلفاء والشركاء والخصوم.
في الوقت ذاته، لا يزال السجال الأميركي الداخلي محتدماً حيال محاولات بايدن وضع أسس جديدة للتخلص من أعباء حربين رئيسيتين خاضتهما الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية. هناك تساؤلات في شأن نهاية الطريق في جهود إدارته لإنهاء النزاع في اليمن والتوصل إلى تسوية سياسية للحرب الطاحنة في سوريا.
ورغم أن أصابع إيران مرئية في هذه النزاعات، لم ينفد صبر المسؤولين الأميركيين الحاليين مع النظام الإيراني، محاولين أن يلجموا - من دون جدوى حتى الآن - طموحاته النووية، على أمل التفاوض في مرحلة لاحقة على إيجاد حلول لترسانة إيران من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ودعم الجماعات المصنفة إرهابية أو متطرفة لزعزعة استقرار الشرق الأوسط.
الأميركيون أولاً
لم يترك وزير الخارجية الأميركي شاردة أو واردة في غالبية البلدان الأخرى إلا ويسجل مواقف حولها. توقف عند محطات مختلفة، تارة مع الأحداث الكبرى كالانقلاب العسكري في ميانمار والتقارير عن ارتكاب فظائع في إقليم تيغراي في إثيوبيا، وتارة عند ملفات حقوق الإنسان والحكم الرشيد في جورجيا وتشاد وجنوب السودان، مروراً بالترويج للسلام بين الدول العربية وإسرائيل وكذلك بين الأطراف المختلفة داخل بلدان مثل لبنان والسودان. أدت مقارباته للملفات الساخنة في أكثر مناطق العالم اضطراباً إلى ارتفاع حدة التوترات مع تركيا، وهي عضو في «الناتو»، بسبب علاقاتها الملتبسة مع روسيا، ودورها في الشرق الأوسط. وكذلك أدت إلى انزعاج واضح من حليف آخر في المنطقة: إسرائيل.
الأيام المائة الأولى لبايدن رئيساً هي مجرد مؤشر لا لبس فيه إلى أن إدارته ستعمل دائماً مع الأصدقاء، وأحياناً حتى مع الخصوم، تعزيزاً للقيم الأميركية ومصالح الولايات المتحدة والمواطنين الأميركيين.