نشرت دارة الملك عبد العزيز كتاباً للدكتور عبد اللطيف بن ناصر الحميدان، رصد فيه تاريخ البصرة والأحساء والقطيف، في الفترة من عام 1501 إلى عام 1552، مقدماً معلومات مهمة عن حكم المنتفق البصرة القديمة التي كانت بعيدة عن سلطة بغداد في القرن الخامس عشر الميلادي، وكشف الغطاء عن حكم هذه الإمارة في البصرة الجديدة خلال القرن السادس عشر الذي شهد منذ بدايته تحولات كثيرة ذات بعد عالمي وإقليمي، انعكس أثرها بقوة على الأوضاع المحلية، مشيراً إلى ظهور سيطرة البرتغاليين على الطرق التجارية البحرية، ودخولهم الخليج العربي، إضافة إلى ظهور الدولة الصفوية، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تحاول أن تتزعم العالم الإسلامي بالاستيلاء على أراضيه. وفي هذا المناخ، ظهرت إمارة المنتفق التي اتخذت من البصرة الجديدة مقراً لها على رأس الخليج العربي، حيث شط العرب الامتداد المائي للخليج، إضافة لوقوعها عند رأس جسر بري يربط الخليج بامتداده إلى بلاد الشام وبلاد نجد والأراضي المقدسة في الحجاز، وهذا هيأ لها وضعاً مكنها من التعامل مع القوى الكبرى المختلفة، إضافة للقوى المحلية في محيطها.
نجحت إمارة المنتفق في تثبيت وجودها، وسيطرتها على الأحساء والقطيف، وتحقيق ازدهار لتجارتها مع الأطراف كافة. وإذا كانت قد نجحت في علاقتها مع البرتغاليين في هرموز، فإن استيلاء العثمانيين على بغداد أوجد وضعاً بالغ الدقة والخطورة، فسعى الشيخ راشد بن مغامس (حاكم البصرة) للاتصال بإسطنبول، ليحصل منها على اعتراف يمكنه من المحافظة على إمارته، ولو إلى حين. إلا أن وفاته وهو زعيم الإمارة القوي قد ولدت انشقاقاً بين ابنه مانع وأبناء أخيه محمد، وهو ما دفع البرتغاليين إلى انتزاع القطيف من مانع، في وقت كان فيه الشيخ يحيى بن محمد بن مغامس موالياً للبرتغاليين، ويتخوف من خطر العثمانيين الذي كانوا ينتظرون الفرصة السانحة لمد سيطرتهم على البصرة، والاستفادة من موقعها في الحصول على المنافع الكبيرة من المتاجرة مع الهند، إلى أن نجحت في ذلك، وسط مقاومة محلية شديدة. الأمر الذي ولد مخاوف شديدة لدى البرتغاليين في الهند وهرموز، فلجأوا إلى فرض حصار تجاري على البصرة، من دون أن تجدي محاولة العثمانيين السياسية نفعاً في رفع ذلك الحصار.
في هذا الواقع، رأى العثمانيون ممارسة الضغط العسكري عسى أن يؤدي إلى نتائج مفيدة. فاستولوا على القطيف، بدعم وترحيب من زعمائها، فرد البرتغاليون على ذلك على وجه السرعة بالاستيلاء على القطيف وتدميرها، ثم الانسحاب منها. كما قاموا في الوقت نفسه بمهاجمة البصرة للاستيلاء عليها، إلا أن مساعيهم باءت بالفشل الذريع. فرأى العثمانيون ضرورة مواجهتهم بقوة، فأرسلوا أسطولاً كبيراً انطلق من السويس، بقيادة بيري ريس، لمهاجمة قاعدة البرتغاليين في هرموز، في الوقت الذي أعاد فيه العثمانيون استيلاءهم على القطيف، وضموها إلى ألوية البصرة. لم تحقق حملة بيري ريس الهدف المرجو منها، إلا أنها جعلت البرتغاليين يعيدون حساباتهم تجاه القوة العثمانية، ووجودهم في الخليج.
وأخيراً، استعان العثمانيون بقوة قبيلة المنتفق الموالية لهم للاستيلاء على الأحساء، ثم تحويلها إلى ولاية عثمانية بعد ضم لواء القطيف المحتل إليها. وهكذا، دخلت كل من البصرة والأحساء ضمن دائرة الاحتلال العثماني في وقت متقارب، مثلما استقلتا في مطلع القرن السابع عشر الميلادي في وقت متقارب أيضاً.
وسلط الكتاب الضوء على سلطة المنتفق، وصلة البرتغاليين بالإمارة، وسقوط الدولة في يد العثمانيين عام 1546، وطبيعة حكم المنتفق بين الأعراف القبلية وسلطة الدولة. كما رصد الكتاب التركيب السكاني في البصرة، معرجاً على سقوط القطيف والأحساء في يد العثمانيين عام 1552، وأحصى التركيبة السكانية في مدن الأحساء والقطيف. وتضمن الكتاب وثائق في غاية الأهمية عن الإمارة، والمراسلات مع البرتغاليين والعثمانيين في أوقات مختلفة، ومنها رسالة حاكم البصرة القوي راشد بن مغامس إلى ألفونسو بوكيرك نائب ملك البرتغال في الهند، سطرها باللغة البرتغالية عام 1515، وجاء فيها: «وصل إلى علمنا -أيها القبطان العظيم- أنكم تعملون على إقامة العدل، وأن يسود ذلك في البر والبحر، وهذا ما يتمناه الجميع، وإن أوامركم يجب أن تُطاع. فأرجو التفضل علينا بالمراسلة، مثلما تفضلتم على ابن جبر والأمير بو إسحاق، لأننا نرغب في خدمتكم بكل الأمور التي ترغبون فيها، فالبلاد بلادكم، والرعية رعيتكم، والأولاد أولادكم. وسوف ننفذ ما تأمرون به».
«إمارة المنتفق»... الخلاف الأسري أسقط الدولة ودفع البرتغاليين والعثمانيين إلى احتلالها
مثلت قوة تجارية وعسكرية قبل 500 عام ومدت نفوذها إلى الأحساء والقطيف
«إمارة المنتفق»... الخلاف الأسري أسقط الدولة ودفع البرتغاليين والعثمانيين إلى احتلالها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة