أحزاب من دون قواعد شعبية.. ورئيس شعبي بلا حزب

في تحقيق تنشره في الشقيقة {المجلة}.. محاولات حثيثة لملء الفراغ السياسي في مصر قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة

الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
TT

أحزاب من دون قواعد شعبية.. ورئيس شعبي بلا حزب

الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي
الرئيس السيسي يتحدث الى رؤساء بعض الاحزاب المصرية وإلى جواره رئيس حزب الوفد السيد البدوي

المحاولات الحثيثة التي يقوم بها كثير من القوى السياسية المصرية لملء الفراغ وتشكيل تكتلات لخوض انتخابات مجلس النواب خلال الأسابيع المقبلة، كشفت عن وضع شائك في هذه الدولة التي عرفت العمل السياسي والبرلماني منذ أكثر من قرن من الزمان.. يتلخص هذا الحال اليوم في أنه أصبحت توجد أحزاب، لكنها من دون قواعد شعبية تذكر. وفي المقابل، هناك رئيس شعبي، هو الرئيس عبد الفتاح السيسي، لكنه بلا حزب سياسي.
ويوضح تحقيق نشرته الشقيقة {المجلة} الدستور المصري الجديد، الذي وافق عليه الشعب العام الماضي، يحظر انخراط رئيس الدولة في الأحزاب أو رئاسة أي حزب منها طالما كان في موقعه في القصر الجمهوري. وأكد السيسي نفسه هذا الأمر حين التقى رؤساء الأحزاب الشهر الماضي، وطلب منهم التوقف عن الخلافات التي ظهرت على خلفية الإعداد للتكتلات الحزبية التي ستتنافس على مقاعد البرلمان، ودعاها إلى تشكيل تكتل واحد لخوض الانتخابات، إلا أن التضارب في المصالح بين السياسيين عرقل مرة أخرى إيجاد قوة واضحة المعالم يمكن التعويل عليها في مجلس النواب المقبل.

منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أصبح يوجد في مصر نحو 90 حزبا، شارك معظمها، مع غالبية الشعب، في الثورة ضد حكم جماعة الإخوان في 30 يونيو (حزيران) 2013. لكن لم يتمكن إلا عدد قليل منها أن يثبت هذه الأيام على تكتل بعينه من أجل خوض الانتخابات المقبلة التي تعد أول انتخابات نيابية في عهد الرئيس السيسي، وهي الخطوة الثالثة والأخيرة في خطوات خارطة الطريق التي وافق عليها الشعب عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
ومن أبرز الأسماء التي حاولت جمع السياسيين في تكتل واحد وكان من أكثرها تداولا، اسم رئيس وزراء مصر الأسبق، الدكتور كمال الجنزوري، ثم حل محله اسم الضابط السابق في المخابرات المصرية، سامح سيف اليزل، على رأس تحالف «في حب مصر». وهناك أيضا تكتلات أخرى يظهر منها «ائتلاف الجبهة المصرية» الذي يدعمه من الخارج المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق. وكذا التحالف الذي يقوده السياسي المعروف عبد الجليل مصطفى تحت اسم «تحالف صحوة مصر» الذي يضم 6 أحزاب، هي: «الكرامة»، و«مصر الحرية»، و«التحالف الاشتراكي»، و«الدستور»، و«العدل»، و«التيار الشعبي (تحت التأسيس)».
ووصل إلى القاهرة قادما من عدة محافظات عشرات من المرشحين المحتملين لإعداد أوراقهم، بينما كانت الاجتماعات منعقدة في مقار عدة أحزاب، منها حزب الوفد الذي حسم أمره وقرر الترشح على الفردي وعلى القوائم أيضا، لكن من خلال تحالف «في حب مصر». وعقب اجتماع آخر، قال مجدي شرابية، الأمين العام لحزب التجمع: «سنشارك في الانتخابات، رغم أن رؤية القوائم لم تتضح بعد».
وحيث إن الوقت أزف، فإن القوائم كلها ستكون قد أعلنت خلال ساعات. ويضيف شرابية أن غالبية قائمة الجنزوري (السابقة) موجودة في قائمة «في حب مصر» التي يتحدث باسمها حاليا سيف اليزل. وأمضى سيف اليزل ساعات طويلة على مدى أسابيع لإقناع الأحزاب بالانضمام لقائمته.
ويقول محمد سامي، رئيس حزب الكرامة، عن نظرته للتكتلات الكثيرة التي ظلت على مدى أسابيع تراوح مكانها دون أن تحسم أمرها: «أعتقد أن مصر في مرحلة سيولة بعد فترة طويلة من التجريف للقوى السياسية والأحزاب في العقود الماضية». ويتابع قائلا: «وبالتالي أنت أمام اجتهادات (قد تصيب)، وذلك في شكل أحزاب جديدة تعبر عن رؤية جديدة، (أو تخيب) في شكل أحزاب وهمية أو كرتونية يمكن أن تخرج من معادلة الحضور الحزبي في الانتخابات المقبلة».
ويضيف أن هذه المعادلة موجودة وتحمل الاحتمالين: إما النجاح، أو الفشل، «لأن الحالة الحزبية بمصر لم تتماسك بعد، ولم تتشكل بعد.. الساحة السياسية فيها ما يقرب من 90 حزبا مرخصا له بالعمل رسميا (إضافة لأحزاب ما زالت تحت التأسيس)، والفترة المقبلة ستكون مرحلة تصفية من جانب، واندماج بين أحزاب من جانب آخر».
ومطلوب من كل تكتل أو تحالف حزبي، أن يعد قائمة تضم 120 مرشحا، من بينهم مرشحون من الشخصيات العامة وممثلون للأقباط والمصريين بالخارج والمعاقين والمرأة، بالإضافة إلى 420 مرشحا بنظام الانتخاب الفردي. ويقول سامي: «لا مجال للدخول إلا على القوائم بأكملها، وليس بنصف قائمة أو ربع قائمة.. نحن نخوض الانتخابات على النظامين؛ أي بالقوائم وبالفردي أيضا».
ويبدو أن الأحزاب لا تتفق إلا على شيء واحد هو الالتفاف حول رئيس الدولة بسبب شعبيته الكبيرة، مقارنة بعشرات الأحزاب التي لا يعرفها أحد، بمن في ذلك عائلات مَنْ لقوا حتفهم خلال أحداث ثورتي يناير ويونيو، مثل السيدة فاطمة التي تدير محلا صغيرا لبيع الخضراوات والدجاج في شارع العروبة، خلف برج القانونيين قرب كورنيش المعادي بجنوب القاهرة.
تعلق هذه المرأة صورة كبيرة لابنها الشاب الذي قتل في اضطرابات سياسية شهدها ميدان التحرير قبل 3 سنوات. وتقول السيدة فاطمة، وهي تقف في واجهة المحل، حيث تبدو صورة الرئيس السيسي معلقة على الباب، إنها لا تستطيع أن تتذكر أسماء أكثر من 3 أو 4 أحزاب مثل حزب الوفد، ربما بسبب كونه حزبا عريقا يعود اسمه إلى النصف الأول من القرن الماضي.
ولا تشغل فاطمة بالها بموضوع الانتخابات النيابية المقبلة وهي تثق في رئيس الدولة فقط. وترى أن الرئيس لن يسمح بوجود برلمان يمكن أن يعمل ضد رغبة الشعب أو العودة للسياسات التي ثار عليها في يناير ويونيه. وتعكس حالة فاطمة المقولة التي أصبحت شائعة في البلاد هذه الأيام وهي أن الرئيس السيسي له شعبية، لكن ليس له حزب، بينما الأحزاب موجودة، لكن ليس لها شعبية.

* التجربة الحزبية حديثة العهد
* ويعود رئيس حزب الكرامة ليعلق على هذه الواقعة قائلا: «هذا صحيح، لأن التجربة الحزبية في مصر حديثة العهد، ولا يمكن أن يكون هناك حزب شعبي أو غير شعبي إلا برصيد يتوالى على مدى الأداء في السنين المقبلة.. غالبية هذا النوع من الأحزاب، كلها تقريبا حصلت على تراخيص من لجنة شؤون الأحزاب خلال السنوات الـ3 الأخيرة، أي بعد ثورة 25 يناير.. وبالتالي لم يتح لها الفرصة لأن تكون أحزابا شعبية بالمعنى الكامل، مع وجود بعض الاستثناءات بطبيعة الحال (تخص عددا من الأحزاب القديمة)».
ويضف محمد سامي: «نحن نزعم أن حزب الكرامة لديه قوام حزبي منتشر على مستوى الجمهورية، وإلا ما كنا قد أكملنا الشرط الخاص بترشيحنا لحمدين صباحي لرئاسة الجمهورية، حيث كان الترشح يتطلب جمع 30 ألف توقيع من الناخبين».
وخاض صباحي، وهو من مؤسسي حزب الكرامة ذي التوجه القومي، تجربة الانتخابات الرئاسية مرتين.. المرة الأولى في 2012 وكان ضمن 12 مرشحا من بينهم محمد مرسي وأحمد شفيق، وحصل صباحي فيها على 4.8 مليون صوت بنسبة نحو 20.7 في المائة. والمرة الثانية كانت في 2014 وكان المنافس الوحيد أمام السيسي، وحصل صباحي فيها على أقل من مليون صوت بنسبة 3.9 في المائة.
وعما إذا كان تكتل «تحالف صحوة مصر» سيعتمد على ما تركه صباحي من رصيد شعبي في الانتخابات الرئاسية، يقول رئيس حزب الكرامة: «نحن، مع تقديرنا الكامل لحمدين صباحي، نسعى لأن تكون هناك مؤسسة حزبية لها تقاليدها ولها برنامجها ولها وجودها على مستوى المحافظات بدرجة متوازنة.. المرحلة التي بدأت بمؤسسها الأول، حمدين صباحي، ينبغي أن تتجاوز هذا الأمر، وتكون تعبيرا عن مؤسسة وليست تعبيرا عن فرد».
ويقول السيد البدوي، رئيس حزب الوفد، إن الأحزاب أصيبت بالتجريف طول الـ30 سنة الماضية.. وكانت ممنوعة من العمل، وكانت تحارب، لكن شعبية الرئيس السيسي جاءت في ظروف استثنائية.
وعن معالجة ضعف الأحزاب، يوضح أن هذا يأتي من خلال البرامج السياسية وزيادة التوعية في الشارع والدعاية.. وأن يكون هناك تماس مع الجماهير أكثر من السابق. ومن جانبه، يقول ياسر حسان، عضو الهيئة العليا لحزب الوفد: «مفروض أن شعبية الرئيس لا تتدخل في البرلمان، لأننا نحن أمام انتخابات برلمانية لا رئاسية.. ولو استغل الرئيس هذه الشعبية لصالح تيار معين، فهذا سيكون سابقة غير جيدة.. وستترك أثرا غير طيب».
ويشير حسان إلى أن شعبية الرئيس جاءت في ظروف معينة.. «السيسي في 30 يونيو 2013 ارتبط برغبة الشعب في إيجاد نظام جديد بعد أن مل المصريون من حكم جماعة الإخوان».
ويجري التحضير للانتخابات النيابية المقبلة على قدم وساق. وقدم المجلس القومي للمرأة مائتي اسم لقيادات نسائية من محافظات مختلفة لكي تختار الأحزاب مرشحات من بينهن. ومن هذه الأسماء ورد اسم الدكتورة درية شرف الدين، وزيرة الإعلام السابقة، التي قالت إن «ورود اسمي في قوائم المجلس القومي للمرأة لا يعني أنه جرى إدراجنا في قوائم الأحزاب الانتخابية بعد».
وأجابت موضحة عن ضعف شعبية الأحزاب، بقولها إن هذا «قد يكون لأنها غير موجودة في الشارع بشكل جدي.. أفرادها لا يقدمون أنفسهم للناس بشكل فيه الجدية المطلوبة.. كما أن الأمر يرتبط بتفاعل، ولا أقول بتقديم خدمات، بين المواطن والأحزاب».
وأعربت الدكتور شرف الدين عن اعتقادها في أن «كثرة عدد الأحزاب جعلت المواطن غير قادر على تحديد هذا من ذاك. لا يمكن خلال أقل من 4 سنوات أن يكون لديك نحو 85 حزبا سياسيا. هذا كثير، وكنا نأمل أن يتقلص العدد إلى 4 أو 5 أحزاب. وإذا كانت مصر تتطلع بالفعل لحياة حزبية جيدة، فأعتقد أنها لن تحتمل أكثر من 5 أو 6 أحزاب».
وعما إذا كان ضعف الأحزاب وعدم وجود تفاعل بينها وبين الشارع، يمكن أن يؤثر بالسلب على البرلمان المقبل، قالت الدكتورة درية شرف الدين، إن هذا مؤكد، خصوصا أن البرلمان له سلطة كبيرة في التشريعات.
ومن خلال المناقشات مع المواطنين العاديين، يقول سائق سيارة الأجرة، ويدعى جمال (في العقد الخامس)، ويعمل موظفا بإحدى المصالح الحكومية في أول النهار، إن الأحزاب أصبح عددها أكبر من قدرته على تذكرها أو إحصائها. وهو يرى أن الأحزاب وحدها لا تستطيع أن تتحالف للتأسيس لبرلمان يستطيع أن يعضد الرئيس ولا يعانده في القرارات التي يريد أن يتخذها. ويتخوف هذا السائق من أن يتسبب الإنفاق المالي للمرشحين في عودة النواب الذين كرههم الشعب في السنوات الماضية، و«كانوا السبب في المشكلات التي حدثت سواء أيام الرئيس مبارك أو بعده».

* تيار الإسلام السياسي
* ومن محافظة الإسكندرية في شمال غربي البلاد يقول ياسر فراويلة، وهو شخصية قريبة مما يعرف بـ«تيار الإسلام السياسي،» وكان يعتزم الترشح في انتخابات الرئاسة عام 2012، إن المطلوب من البرلمان المقبل القيام بعدة خطوات عاجلة. أولا إنهاء حالة الفوضى الحكومية.. «بمعنى ترتيب البيت من الداخل والانتهاء من ملف العمليات الأمنية وأجور العاملين في الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء التهديد الخارجي، سواء ما يتعلق بالأمن المائي أو الاقتصادي أو السياسي».
ويضيف فراويلة أنه يتمنى من البرلمان المقبل أن يتمكن من تحديد هدف للوطن «لأننا أمة تسعى بلا هدف يجمعنا.. نريد أن نتمكن من تحديد مصالحنا وتحديد من هم أعداؤنا، وكذلك من ينبغي أن نعتمد عليهم. لدينا أولويات في الملف الأمني والعسكري والحدود والاقتصاد والزراعة والصناعة».
لكن يبدو أن مثل هذه الطموحات سابقة لأوانها، لأن فراويلة نفسه يتخوف من التربيطات الحالية بين المرشحين في دائرته بالإسكندرية، ثاني أكبر المحافظات المصرية من حيث عدد السكان، ولا يرى في التحالفات الحزبية القائمة قدرة على حسم الموقف في الانتخابات النيابية المقبلة بالطريقة التي يأملها المواطن المصري البسيط بعد أن انتظر انفراج الأوضاع عقب سنوات الاضطرابات منذ الإطاحة بمبارك.
وعن هذه المفارقة يقول المحامي محمود عبد الله، عضو لجنة الحريات في حزب التجمع اليساري، إن «الناس بالفعل تتطلع إلى حياة أفضل، لكنها لا ترى كيانا سياسيا تستشعر معه أن هذا الحزب أو ذلك يعرف الطريق إلى المستقبل، إلا فيما ندر. لا تجد في الوقت الحالي، غالبا، قوى سياسية منظمة أو واضحة أو موجودة في جسم المجتمع وقادرة على التعبير عن طموحاته وآماله.. الشعب كان محاصرا لفترة طويلة من تاريخه.. والأحزاب والقوى السياسية هي الأخرى كانت مهمشة طوال العقود الماضية».
والمحامي عبد الله، صاحب شهرة في الأوساط السياسية والقانونية المصرية، لأنه صاحب الدعوى القضائية التي صدر بناء عليها حكم بحظر جماعة الإخوان والتعامل معها كجماعة إرهابية، العام الماضي. ويضيف وهو يشرح السبب في تفوق شعبية السيسي على شعبية الأحزاب، أنه «في آخر عهد مبارك كانت تشغلنا قضية الإجابة عن سؤال محدد وهو الفجوة بين الجماهير والقوى السياسية.. كانت بالطبع توجد فجوة واسعة، لكن للأسف الشديد، رغم قدرة هذه الأحزاب على استشراف المستقبل، فإنها كانت قد تعرضت للحصار منذ وقت مبكر».
ويتابع قائلا إنه «للأسف أيضا، ورغم ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، فإن هذه القوى السياسية والحزبية لم تكن منظمة بالقدر الذي يعبئ الجماهير الغاضبة في اتجاه طريقها وفي اتجاه أن تبني مستقبلها. وبعد سقوط نظام مبارك قفز على حركة الجماهير وأحلامها جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الكيانات الدينية التي ارتدت ثوب السياسة».
في ذلك الوقت؛ أي بعد مبارك، استشعرت قطاعات من الجماهير أن الفصيل الذي يرفع الشعارات الدينية هو الذي يستطيع أن يحقق أحلامها. ويضيف: «رأينا كلنا في انتخابات برلمان 2012 كيف تكتل الناس أمام صناديق الاقتراع. وكان الناخبون يقولون عن مرشحي التيار الإسلامي: إنهم الأقرب إلى الله، وإنهم سيحققون العدل ويعملون على الاهتمام بالفقراء ويمنحون الشعب الحرية ويحققون مطلب العيش بكرامة. لكن للأسف، وبعد مرور سنة، تبين للجماهير أن هذا الفصيل رغم قدرته وتنظيمه فإنه غير قادر على إدارة الدولة ولا تشغيل الاقتصاد».
وفي ذلك الوقت أيضا، ظهرت قوة صلبة أخرى ممثلة في القوات المسلحة المصرية، التي كان على رأسها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. ويزيد عبد الله موضحا: «عندها كانت غالبية المصريين قد أدركت أن القوات المسلحة هي القوة التي تستطيع أن تحميها وأن تحقق أمانيها. وقتها كان الشعب قد فقد الثقة في كل الكيانات السياسية الأخرى، فتدافع في الشوارع والميادين وأيد عزل مرسي والإطاحة بحكم الإخوان، واختار هذا الشعب السيسي رئيسا للجمهورية ووافق على الدستور الجديد».
أما الآن، كما يقول المحامي عبد الله، فإن غالبية القوى السياسية تتخبط، فيما عدا بعض الأحزاب التي تبدو متماسكة، إلا أن لديها مشكلات مالية وغير قادرة على تمويل مرشحيها في الانتخابات النيابية المقبلة، مشيرا إلى أن الجماهير تراقب الآن القوى السياسية، لكنها لم تر بعد أي فصيل سياسي أو حزب، يوحي لها بقدرته على التعبير عنها أو تحقيق طموحاتها. ولهذا ترى كل يوم تكتلات انتخابية تنشأ وتكتلات تحل.. ومرشحون يذهبون لأحزاب ثم يتركونها ويتجهون لأحزاب أخرى، وهكذا.

* شعبية الرئيس
* وعن الطريقة التي يمكن للرئيس السيسي أن يستفيد بها من شعبيته قبيل انتخابات البرلمان، يقول محمود عبد الله: «الرئيس ينبغي أن يتعلم من حركة التاريخ.. لديه شعبية؟ نعم، لكن إذا لم يتزامن مع هذه الشعبية تنفيذ برنامج اجتماعي يلبي متطلبات الشعب، فرأيي هو أن المصير سيكون تراجع هذه الشعبية والفشل الذي لا يريده أحد».
ويضيف أن الرئيس يدرك هذا الأمر جيدا، وهو سبق وقال: «إن الجماهير لها مطالب لا بد من تحقيقها.. وللأسف الحكومة الحالية تتصرف تصرفات مناقضة لرغبة الرئيس.. إذا لم تكن هناك حكومة قادرة على تلبية مطالب الشعب، فإن هذا سيؤثر بالسلب على السيسي».
ويضيف أن الشعبية الكبيرة التي يحظى بها رئيس الدولة ليست «صكا على بياض»، لأن الشعب اختاره من أجل تحقيق الأمن والأمان والاستقرار وانتعاش الاقتصاد، بعد المعاناة التي مر بها خلال السنوات الأخيرة. الجماهير اختارت السيسي لأنه وقف معها بجرأة وهو يواجه الإخوان حين كان وزيرا للدفاع. وفي الوقت نفسه، هو ينتمي لمؤسسة عريقة، هي الجيش، وهي مؤسسة ذات ماض ضارب في قلب التاريخ المصري وتستطيع أن تحمي هذا الشعب.
لكن كيف يمكن للسيسي أن يستفيد من شعبيته؟.. هل يمكن أن يؤسس لكيان سياسي بشكل غير مباشر، حتى لا يكون قد عارض الدستور برئاسته لأحد الأحزاب؟ يجيب المحامي عبد الله محذرا من تكرار تجارب الرؤساء السابقين في تبني الكيانات السياسية أو الأحزاب.
وكان رؤساء مصر القادمون من خلفية عسكرية، منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، يترأسون الأذرع المدنية للكيانات التي يعتمدون عليها في الحكم، وفي المجلس التشريعي. ومعروف أن تجربة مصر تقول إن الرئيس عبد الناصر ترأس تنظيما سياسيا وكان له الأغلبية، وعندما توفي انتقل غالبية أعضاء تنظيمه السياسي لتدشين تنظيم جديد مع الرئيس السادات رغم أن هؤلاء كانوا يقفون مع القوانين الاشتراكية لعبد الناصر ثم وقفوا مع قوانين الانفتاح الاقتصادي أيام السادات.

* الوطني الديمقراطي
* وكان آخر هذه الكيانات المدنية «الحزب الوطني الديمقراطي» الذي ترأسه مبارك، وشغل نجله جمال موقع الأمين العام المساعد للحزب لشؤون السياسات. لكن الدستور الجديد، حظر على رئيس الدولة في مادته رقم «140» الانخراط في أي من العمل الحزبي، وقال إنه «لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يشغل أي منصب حزبي طوال مدة الرئاسة».
ويضيف عضو لجنة الحريات في حزب التجمع، أن مبارك ترأس الحزب الوطني وتصور أنه حزب الأغلبية الفعلي، إلا أن هذا الحزب اختفى في طرفة عين حين غضبت الجماهير وخرجت وقالت له ارحل.. وكذلك تخيل الإخوان أنهم قادرون على إقصاء جميع القوى الأخرى، وأن الدنيا دانت لهم، وفي لحظة خرج هذا الشعب وطردهم شر طردة بجماعتهم وحزبهم، و«لذلك ينبغي أن يكون السيسي رئيسا لكل المصريين أي أن يكون فوق الأحزاب».
وعن الأولويات التشريعية في البرلمان المقبل، يتوقع محمود نفادي، المتحدث باسم «تحالف نواب الشعب»، أن يجري تعديل الدستور، وقال إنه «أمر وارد، لكن ليس في العام الأول للبرلمان. سيكون بعد فترة.. وسيكون في فترة الولاية الأولى للسيسي».
ويضيف عن شكل هذه التعديلات المتوقعة، أنه «سيتم التعديل في مواد كثيرة، خصوصا تلك التي توصف بأنها مواد ملغمة، مثل صلاحيات البرلمان.. وسيتم وضع ضوابط أكثر لمنع ظهور الأحزاب الدينية لأن الدستور الحالي لم يمنعها بشكل حاسم. سيتم التعديل في كثير من المواد وفقا لمتطلبات المرحلة المقبلة».
ومن بين التعديلات الدستورية المرجحة التي سيتكفل بها البرلمان، كما يتوقع عدد من السياسيين، إلغاء النص الدستوري الذي يمنع انتقال النائب من صفة حزبية أو مستقلة إلى أخرى، وذلك حتى يمكن تحقيق الأمل الذي يراود البعض في جمع مئات من النواب الذين سيفوزون في الانتخابات، في حزب واحد كبير يدعم مؤسسة الرئاسة.
ويقول نفادي: «ربما سيكون من ضمن التعديلات التي ستتم في الدستور النص الخاص بانتقال النائب بين صفته المستقلة وصفته الحزبية، وهذا النص قد يكون من النصوص السريعة في التعديل، لأن النواب المستقلين لن يستطيعوا تشكيل حزب من داخل البرلمان في وجود هذا النص. وحين يتم إسقاط هذا النص سيظهر الحزب الجديد الذي ربما سيكون هو حزب السلطة لسنوات مقبلة».
ويرى نفادي أن العائلات المصرية التي تمثل العمود الفقري للانتخابات النيابية ما زالت تدعم السيسي وتوجهاته، منذ أن نزلت هذه العائلات للشارع في 30 يونيو ضد الإخوان، ومنذ أن نزلت لانتخابه للرئاسة وفي الاستفتاء على الدستور. ويتوقع أيضا أن تتلاشى عشرات الأحزاب بعد الانتخابات النيابية المقبلة. ويقول: «كل الأحزاب التي تراها الآن على الساحة ستذوب وتنتهي وتتبخر. وكل حزب لن يكون له موضع قدم في البرلمان المقبل سيكون كأنه كتب شهادة وفاته.. ومن لن يدخل في الحزب المزمع سينضم للحزب المعارض لكي تدخل مصر في مرحلة الحزبين الكبيرين».
ومن جانبه، يقول كامل عبد الله، الباحث في مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن غالبية الأحزاب الموجودة في مصر ليست أحزابا في الأساس.. أي حزب يفترض أن يعمل مع القواعد الشعبية من أجل السعي للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكن في الحالة المصرية يبدو أن أكثر الأحزاب تقتصر على محاولات لإرضاء أصحاب المصالح وتحقيق المكاسب الوقتية دون الأخذ في الاعتبار الجانب المؤسسي والسياسي الذي يعتمد على الجماهير.
ويضيف أن هذا الأمر للأسف «غير موجود»، مشيرا إلى أن الوحيد الذي كان يقدم نفسه للجماهير كحزب هم الجماعات الدينية المتشددة التي انخدع فيها الشعب بعد تجربة سنة في البرلمان وحكم الدولة أيام مرسي.
ويصف الباحث في مركز «الأهرام» الوضع على الساحة السياسية، قبل أسابيع من فتح باب الترشح لانتخابات البرلمان، بأنه يوجد فيه ارتباك كبير.. «ارتباك في التحالفات الانتخابية. لم نلاحظ أي استقرار على أي تحالف حتى الآن، رغم أنه جرى الإعلان عن تحالفات بالفعل، إلا أن معظمها عاد وتفكك من جديد ليأخذ أشكالا أخرى من التحالفات المغايرة المرشحة للانقسام مجددا».
حتى الآن الأحزاب غير قادرة على الاصطفاف في خندق واحد، وذلك رغم دعوة الرئيس السيسي لزعماء الأحزاب أخيرا بأن يتحدوا بعضهم مع بعضا، لكن الخلافات الكبيرة بينهم يبدو أنها تمنع وتحول دون تحقيق رغبة الرئيس، كما يوضح الباحث عبد الله، قائلا إنه «طالما ظلت التكتلات الانتخابية غير قادرة على توحيد نفسها، فإن أداءها بعد أن تفوز وتدخل البرلمان لن يكون موحدا. كل منها له نظرة بشأن النموذج الاقتصادي الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة مستقبلا.. لدينا اشتراكيون وليبراليون، وهم منقسمون على أنفسهم ويبدو أنهم لن يكونوا قادرين على خلق نموذج مصري لهذه المرحلة الهامة في تاريخ البلاد». ويلاحظ الباحث عبد الله، أن «الشيء الوحيد الذي تتفق عليه كل هذه الأحزاب هو تأييد الرئيس السيسي، لكن ما يقومون به الآن هو مجرد صراع على من يكون الأقرب من الرئيس وليس الداعم للرئيس، بينما لو كان الهدف هو دعم الرئيس لرأينا وجود تحالفات حقيقية. لكن ما هو موجود على الساحة اليوم تحالفات هشة.. كل يوم نسمع عن أن هذا الحزب خرج من تحالف الجنزوري وذهب لتحالف الوفد المصري أو تحالف الاستقلال أو في حب مصر، وهكذا».
وفي الدلتا والصعيد أيضا هناك أحزاب تتصارع كذلك على الشخصيات العامة.. وقامت أحزاب أخرى بعقد مؤتمرات أعلنت فيها عن تحالفات سياسية للانتخابات، وأعلن البعض أنه قرر الانضمام إليها، إلا أن هؤلاء انضموا إلى قوائم مزمعة مختلفة حين جاءتهم تكتلات مغايرة بتحالفات جديدة، فأعلنوا أنهم سيقفون معها. ولم يستقر معظم المرشحين على قوائم بعينها بعد. ويقول عبد الله: «حتى الجنزوري يواجه هذه المشكلة. هو يريد أن يستقطب شخصيات معينة وهي الشخصيات نفسها التي تتصارع عليها تكتلات أخرى».
والمشكلة كما يراها عبد الله هي أن معادلة، أن «الرئيس الذي لديه شعبية والأحزاب التي ليست لها تلك الشعبية، يمكن أن ينتج عنها برلمان ضعيف، ولهذا أعتقد أن البرلمان إذا لم يعضد الرئيس فإنه سيكون برلمانا غير شعبي»، مشيرا إلى أن الناس تدرك أن مجموعة الأحزاب هذه ليست على ذلك المستوى، وبالتالي أعين الناس معلقة على رئيس الدولة لكي يواصل إدارة الدفة وحماية السفينة من أي فوضى.. «إما أن يكون مجلس النواب شريكا للرئيس ومعاونا له، وإما أن الجماهير ستلفظ هذا المجلس بنوابه».



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».