من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي
TT

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

من التاريخ: الإمبراطور تشي هوانغ داي

تابعنا في الأسبوع الماضي كيف استطاع ملك إمارة «كين» المعروف باسم ينج زينج في غرب الصين الصعود إلى سدة الحكم والقضاء على كل المنافسة التي كانت أمامه، وكيف أنه استطاع أن يُحجم أمه وعشيقها ويقضي على محاولتهما وضع ابنهما في سدة الحكم بدلا منه من خلال انقلاب من داخل القصر، وهكذا أصبح الرجل هو الحاكم القوي والوحيد لهذه الدويلة. وكما تابعنا، فقد استطاع الرجل أن يجهز جيشه ويطوره بشكل فتح له المجال للبدء في تنفيذ حلمه بتوحيد الدويلات الصينية السبع تحت حكمه وأسرته من بعده، وهو الجهد العسكري الذي سمح له بتأمين حدوده مع دويلة «زهاو» الشمالية ثم قيامه بغزو دويلة «هان» الغربية، وهو ما بات يهدد باقي الدويلات بشكل مزعج للغاية، فتحالفت هذه الدويلات ضده بأسرع مما كان يتصور، ولكنه استطاع بهدوء ورجاحة عقل أن يستولي عليها الواحدة تلو الأخرى بمزيج من الدبلوماسية والقوة العسكرية، فلقد قام بشكل منظم بتوجيه جهده الحربي في المرحلة التالية نحو ولاية «ويي» الغربية التي أصبحت في أحضان دولته بعدما استولى على الدويلتين في شمالها وجنوبها، فصارت محاصرة وأصبح الاستيلاء عليها مسألة وقت لا غير. وقد اقترف الملك الكثير من المجازر خاصة مع السجناء لمحاولة كسر عزيمة المقاومة للجيوش التي أصبحت أمامه. وقد جاءت هذه المجازر بأثر عكسي على خطط الملك؛ حيث أصبحت الجيوش الأخرى تخشى أن تلقى المصير نفسه، فزادت من استبسالها وصمودها في مواجهة جيشه، ولكن قوته كانت أكبر واقتصادات بلاده كانت أقوى من منافسيه، خاصة بعد ضم 3 دويلات إلى دولته، فوجه جهده بعد ذلك إلى أقوى الدويلات المتبقية، ولكنها استعصت عليه في البداية وهزمته عسكريا في عام 224 قبل الميلاد، ولكنه استطاع حشد مزيد من القوات، وعاد لينتصر عليها، ثم دانت له ولاية «كيي» بعدما فقدت الأمل في أي مناصرة أو تحالف. وبهذا استطاع الملك أن يوحد الصين في عام 221 قبل الميلاد، فدانت له البلاد تماما وأصبح هو موحد الصين، وبمجرد أن حقق هذا الحلم، قرر الرجل أن يمنح نفسه لقبا إمبراطوريا وهو تشي هوانج داي.
وعلى الفور بدأ الرجل في اتخاذ سلسلة من القرارات الفورية الهادفة إلى السيطرة الكاملة على الدولة الجديدة، فلقد رفض الرجل استبدال إقطاعيين من رجاله وجنرالاته بقيادات نظام الإقطاع، فقد أصبح الملك يتشكك كثيرا فيمن حوله، وكان يخشى الانقلاب عليه أو منح رجاله الكثير من السلطة بما يمكنهم من الانقلاب عليه، خاصة بعد تجربته التعيسة مع أمه وعشيقها، لذلك آثر الاستبدال بهذا النظام نظام الحاكم المركزي الذي يخضع لإمرته المباشرة من خلال تقسيم الصين إلى محافظات وأقاليم وقرى.. إلخ، التي خضعت بدورها لحكمه من خلال تعيين المحافظين بشكل مركزي، ومع ذلك، فهو لم يستطع القضاء على النظام الإقطاعي بوصفه كيانا اقتصاديا، لا سيما على ضوء عدم وجود نظام بديل له، ولكنه طوعه بشكل مركزي قضى من خلاله على فرص القلاقل السياسية. وقد بدأ الرجل سلسلة من الإصلاحات الداخلية هدفت لشق الطرق لربط الإمبراطورية الجديدة بعضها ببعض، كما قام بكثير من الإصلاحات في مجال الري وشق القنوات وغيرها من المشروعات المهمة التي ضمنت نوعا من الاستقرار الاقتصادي.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الإمبراطور تشي هوانج داي رغم أن مشروعه التوسعي مصدره الأساسي شعوره بالعظمة ورغبته في إعلان نفسه إمبراطورا على الصين الموحدة، فإنه بشكل أو بآخر وضع اللبنة الأولى لوحدة الدولة الصينية من خلال كثير من الخطوات المهمة، وعلى رأسها قيامه بتوحيد الكتابة الصينية وتعميمها في كل ربوع الدولة الموحدة، ووضع نظام موحد للعملة الصينية، وكذا وضع نظاما موحدا للمقاييس حفاظا على الوحدة الاقتصادية والتكامل بين أجزاء الدولة الجديدة، وهو ما كان له أكبر الأثر في التوحد الصيني فيما بعد بعيدا عن الأنظمة المختلفة التي تبعته.
وإمعانا في تأمين هذا الهدف، فقد دأب الرجل على محاولة احتواء مملكته الجديدة من خلال بناء سور الصين العظيم الذي كان يمثل فاصلا بين دولته والعالم الخارجي، خاصة أمام القبائل المتنقلة، وهنا استخدم الرجل ما يقرب من مليون عامل صيني بالسخرة أو العبودية لبناء هذا الصرح الضخم في وقت قياسي، فبناء سور بارتفاع قرابة عشرة أمتار لمسافة تقارب خمسة آلاف كيلومتر لم يكن بالمشروع الهين، ولكن الرجل بأساليبه القسرية والعنيفة استطاع على حساب ما يقارب ربع مليون صيني أن يحقق هدفه الثمين.
وعلى الرغم من أن الإمبراطور استطاع أن يحقق حلمه وهو في سن مبكرة، تماما مثلما حدث مع الإسكندر الأكبر، فإن كل المصادر التاريخية تجمع على أن تاريخ الرجل وتجاربه باتت تؤثر على توازنه النفسي والانفعالي بشكل ملحوظ، فلقد بدأ الرجل يشعر بأن ما حققه ليس كافيا، خاصة إذا ما تلازم مع ذلك شعور بالعظمة الممزوج بنوع من «البارانويا» بسبب كثرة المؤامرات ومحاولات الاغتيال، وهو ما ساهم في تشكيل نفسية غير سوية مع مرور الوقت، فلقد بدأ الرجل يسعى مثل الإسكندر إلى تحدى الموت، وإذا ما كان الإسكندر قد اقتنع بأنه كان سيموت في عمر مبكر لأن الآلهة ستسمح له بتحقيق العظمة في سن مبكرة، فإن شيي هيوانج داي لم يكن على هذه القناعة نفسها، فلقد أراد الرجل أن يعيش عمرا أطول مما هو مكتوب له، فكانت محاولاته المستميتة لإيجاد وسيلة تسمح له بعمر مديد، وهو ما قربه من الروحانيين والعرافين الذين اقترحوا عليه كثرة معاشرة النساء لمد عمره فضلا عن تجرع جرعات من «الزئبق» التي كانوا يعتقدون أنها ستمد عمره، وهو ما أتى بنتائج عكسية تماما، حيث ساهم ذلك في إضعاف جسد الرجل تدريجيا إلى أن مات في عام 210 قبل الميلاد.
وهنا كرر التاريخ نفسه بعد موته، فسرعة التوحيد وعدم ترسيخ النظام الجديد لسنوات طويلة غالبا ما يكون من نتائجه تلاشي الحلم الذي بنيت من أجله الدولة الجديدة في وقت سريع، وهذا ما حدث؛ فلقد وقعت الدولة فريسة لمؤامرات القصر، حيث إن رئيس الوزراء لم يكن يميل لأن يتولى ابنه فوسو الحكم من بعد أبيه لأنه كان يأمل في أن يزيد من سلطاته من خلال السيطرة على الابن الأصغر للملك، ولكن في أقل من ثلاث سنوات انهارت الدولة الصينية الأولى، ولكن ليس قبل أن تكون قد رسخت في العقلية الصينية الدولة واللغة والثقافة والعملة الموحدة، وهي المكونات الأساسية التي تبنى عليها القومية في أي دولة.
أما على الصعيد الخاص بموحد الصين، فلقد ثبت من خلال تجربة هذا الرجل أن الاضطراب النفسي كثيرا ما يصاحب القوة التي لا يراجعها أحد والتي تتعرض للموت والمؤامرات، فسرعان ما حولت هذه العوامل الرجل إلى شخص مضطرب عانت من قيادته البلاد في أواخر أيامه أكثر مما استفادت، حيث بلغت به «البارانويا» آفاقا متقدمة، ولعل أكبر رموزها كان المقبرة العظيمة التي بناها الملك لنفسه تخليدا لحياته في العالم الآخر، وهي المقبرة التي تم اكتشافها في عام 1974 والتي احتوت في داخلها على خريطة مصنوعة للصين الموحدة، ومقبرة برونزية له، وما يقرب من سبعة آلاف تمثال لجيشه بالحجم الطبيعي، والمعروفة بالـ«Terracota»، مضافا إليها رفات كثيرين ممن شاركوا في بناء المقبرة والعالمين بمداخلها ومخارجها حفاظا على سرها، فضلا عن كثير من عشيقاته اللاتي آثرن الموت معه أو فرض عليهن الموت ليخففوا عن الملك آلام العالم الآخر وليوفرن له الاستقرار النفسي، وهذه من الحالات التي لم يأت فيها حب الملوك والتقرب منهم بفائدة عليهن!



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.