انطلق قطار الحوار الليبي الذي يشرف عليه برناردينو ليون، ممثل ورئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، واجتاز محطتين خلال نحو خمسة أشهر، لكن ما زالت تقف أمامه عقبات كثيرة. ومنذ بدأ عمله في هذا البلد المضطرب في أغسطس (آب) الماضي، بدا أن ليون يتمتع بشخصية رجل «مرن وصلب» في آنٍ واحد. مرن في الاستماع والنقاش، وصلب في تنفيذ كل ما يجري الاتفاق عليه. وجرى تعيين الرجل لمهمة رأى المراقبون، من البداية، أنها في غاية الصعوبة في هذه الدولة التي تعاني من الفوضى والاقتتال منذ مصرع العقيد معمر القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011. لكنه تمكن بالفعل من جمع الخصوم حول طاولة الحوار مرتين، لكن الطريق ما زال طويلا لإنجاز المهمة ذات العراقيل الكثيرة والتي سبق وتعثر فيها سلفه، طارق متري.
بوصول ليون لطرابلس لأول مرة كانت الأرضية السياسية والعسكرية متصلبة. كل طرف يرفع شعارات متشددة ومتشنجة ضد الطرف الآخر، ولم يكن أحد يصدق أن أيا من هؤلاء يمكن أن يجلس قبالة الآخر. ففي الجبهة الغربية توجد مجموعة مصراتة وبعض البلدات المجاورة للعاصمة التي يهيمن عليها بعض قادة جماعة الإخوان المتطرفين، من خلال رئاسة منتسبين للجماعة لقوة «فجر ليبيا» وإحيائها للبرلمان السابق وتشكيلها لما يسمى حكومة إنقاذ برئاسة عمر الحاسي.
ويرفض أصحاب هذا الفريق التعامل مع الواقع الجديد بعد خسارتهم الانتخابات البرلمانية، كما قرر من فاز منهم في الانتخابات مقاطعة أعمال البرلمان الجديد. أما في الشرق فهناك البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في طبرق بعد أن انتخبه الليبيون الصيف الماضي، في عملية وصفها المراقبون بالنزيهة، وهناك حكومته المنبثقة عنه برئاسة عبد الله الثني والتي تدير أعمالها من مدينة البيضاء، ومعهما الجيش الوطني، الذي ينسق عملياته الحربية انطلاقا من مدينة المرج. وكل من هؤلاء يرفض التعامل مع قوات المتطرفين.
وفي هذا المناخ الملبد بالغيوم، بدأ ليون عمله، وقرر وضع قواعد ينبغي على الجميع الالتزام بها، ومنها الاعتراف بمجلس النواب المنتخب (البرلمان الجديد)، ووضع مبادئ ثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت بحكم القذافي، كأساس للتباحث بشأن الحوار بين الخصوم، وأن يتسع مجلس النواب للجميع واتخاذ إجراءات فورية لمعالجة مخاوف البرلمانيين المقاطعين لجلساته.
لكن المعضلة أمام ليون حتى الآن تتمثل في الزعماء المحسوبين على نظام القذافي. وهؤلاء يمثلون قوة لا يستهان بها للمساعدة في بسط الاستقرار في ليبيا، ولديهم شروطهم أيضا قبل المشاركة في أي حوار.
والتقى ليون مع كل من عقيلة صالح رئيس البرلمان الجديد، ونوري أبو سهمين، رئيس البرلمان المنتهية ولايته. وأجرى اتصالات مع قادة من توجهات مختلفة. وتمكن من خرق السواتر المعتمة التي كانت تحجب الرؤية بين طرفي النزاع، حين أقدم على عقد لقاء في مدينة غدامس الليبية (جنوب) في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي ضم نوابا من مصراتة من المقاطعين للبرلمان الجديد، ونوابا من البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق. كان هذا أول لقاء يقف ليون على رأسه لوضع بداية الخط لطريق طويل على أمل الوصول بالقطار إلى محطة السلام. وبعد أن انتهى لقاء غدامس ظن الكثير من المراقبين أنه فشل. ولم يحقق اللقاء النتائج المرجوة بالفعل، بل إن كل طرف من الطرفين قلل من شأنه. كما أن المتطرفين في طرابلس ومصراتة هددوا من شاركوا فيه، ووصموا اللقاء بأنه «خيانة للثورة».
لكن كان يبدو أن ليون يعرف ماذا يفعل لحلحلة الأمور. فقد كان انعقاد لقاء غدامس في حد ذاته بمثابة العاصفة التي أثارت الجدل في البلاد، خاصة بعد أن شارك فيه نحو 30 نائبا من «النواب الخصوم»، وأدى إلى نقاش مجتمعي وسياسي عن جدوى الاقتتال وعن الفائدة من الصراع المسلح الذي تسبب في وقف معظم صادرت النفط وأكل الأخضر واليابس.
ومما جعل للقاء حوار غدامس قيمة، أنه أعطى اهتماما لقضايا إنسانية ملحة مثل العمل على معالجة الحاجات المعيشية الأساسية وحسم الأمور المتعلقة بعلاج الجرحى عند كل الأطراف، وتسهيل استئناف العمل العادي في جميع المطارات الرئيسة في البلاد بمساعدة الأمم المتحدة.
وبدا أن الرجل يعرف أن ما يحتاجه ملايين الليبيين من حاجات يومية ملحة سيؤدي إلى ضغط من الشارع على الأطراف المتحاربة للجلوس على الطاولة دون شروط مسبقة. ومن هنا بدأت المرحلة الثانية، وهي نقل الحوار إلى مدينة «حنيف»، في سويسرا، ودعوة مزيد من الشخصيات، سواء بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال دعوة ممثلين يمكن أن يعبروا عن القوى المقاطعة للحوار والموجودة في الداخل.. وهو ما حدث بالفعل الشهر الماضي، ما تسبب في زيادة درجة المرونة والقابلية للنقاش والتفكير في «حكومة وحدة وطنية».
وولد ليون في بلدة تقع على البحر المتوسط في 20 أكتوبر عام 1964، هي بلدة «ملقة» في إسبانيا، وكأنه، بأسرته الصغيرة المكونة من زوجة وثلاثة أطفال، كان على موعد مع شؤون الدول التي تطل على هذا البحر المطل على أوروبا وأفريقيا وآسيا.
وارتبط عمل ليون، خريج جامعة «كينجز كوليدج لندن»، والبالغ من العمر نحو 50 عاما، بأجواء البحر المتوسط وبرياح التوجهات الاشتراكية، وكذا بالمشكلات التي تمر بها بلده إسبانيا وجيرانها، إضافة إلى عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط، حيث شغل مواقع حزبية وتنفيذية كثيرة، قبل أن يتحول إلى العمل الأممي. ومنذ وقت مبكر التحق السيد ليون بالسلك الدبلوماسي الإسباني منذ عام 1989، حيث عمل في ليبيريا والجزائر واليونان.
وتلقى الرجل تعليمه في البداية، أي قبل الجامعة، في كل من «ملقة» و«برشلونة» بإسبانيا. ويوجد الكثير من الكتابات التي أنجزها حول العالم العربي وعلاقته مع الغرب.. كما قدم محاضرات حول هذه القضية في جامعات مختلفة حول العالم. وتعد محاضراته من المراجع التي يعتد بها فيما يخص الشؤون العربية وقضايا البحر المتوسط التي تهم الباحثين والمراقبين.
وتبعد المدينة التي ولد فيها وتعلم فيها في صباه أيضا، نحو 100 كيلومترا شرق مضيق جبل طارق. وتأسست المدينة منذ نحو ألف عام قبل الميلاد على يد الفينيقيين، حيث كانت تسمى في ذلك العهد باسم «مالاكة» التي تعني «الملح»، قبل أن يحول العرب اسمها، أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا، إلى «مالاجا». وهي نفس المدينة التي ولد فيها الرسام الإسباني الشهير، بابلو بيكاسو. وهي تتشابه في طبيعتها مع مناخ البحر المتوسط اللطيف، حيث تجتذب، بأجوائها وشواطئها وموانيها وعبق التاريخ الموجود فيها، الكثير من السياح، وتلتقي فيها الكثير من التيارات الثقافية الوافدة من دول العالم. وربما كان هذا أحد أسباب انخراط ليون في بداية شبابه في صفوف حزب العمال الاشتراكي الإسباني. ويوصف التيار الاشتراكي الأوروبي عموما بأنه أكثر انفتاحا واستيعابا لحركة الزمن والتطور في السياسية والاقتصاد من التيارات الاشتراكية العتيقة التي كانت مشهورة في آسيا ووصل كثير منها إلى طريق مسدود بعد أن تجاوزته المعطيات الجديدة.
وعضدت المواقع التي مر عليها ليون، بعد ذلك، من قدرته على إدارة ملفات معقدة كما هو الحال في ليبيا حاليا، حيث تمكن أخيرا من إقناع كثير من الأطراف الليبية للجلوس على مائدة الحوار. ومن المناصب التي شغلها وعززت من خبرته الدولية موقع المستشار الشخصي للممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لعملية السلام في الشرق الأوسط في الفترة من عام 1998 إلى عام 2001.
وفي الفترة من عام 2004 إلى عام 2011 خاض تجارب مختلفة مع المناصب في الحكومة الإسبانية، بما في ذلك السكرتير العام في مكتب رئيس الوزراء، ومن قبلها وزير الدولة للشؤون الخارجية، إلى أن أصبح مستشارا خاصا لمجموعة الـ20 في عام 2009.
ورغم تفاني السيد متري، اللبناني، في عمله كممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، وقيادته للبعثة الأممية في هذا البلد المضطرب، فإن الظروف على الأرض كانت تبدو شديدة التعقيد، وتحتاج إلى نوع من التغيير في قواعد التعامل مع الواقع الليبي. ومن هنا جرى اختيار برناردينو ليون لاستكمال المهمة.
ويحمل ليون خبرة سنوات كثيرة من العمل السياسي والدبلوماسي سواء مع حكومة بلاده، أو مع الاتحاد الأوروبي، حيث كان قد جرى من قبل تعيينه في موقع الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في ليبيا.. أي أنه عمل مع الممثلة السامية للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، كما شغل موقع الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لدول جنوب البحر المتوسط، وذلك في الفترة من عام 2011 إلى عام 2014.
وكان أيضا من المبعوثين الأوروبيين الذين تعاملوا كذلك مع الاضطرابات السياسية التي مرت بها مصر عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وكان من رأيه في هذا الشأن «ضرورة تفادي المواجهات بين التيارات المتنازعة».
وفور الإعلان عن اسم ليون كممثل أممي إلى ليبيا، سارعت الكثير من دول العالم للترحيب بهذه الخطوة التي جاءت، بينما كانت الحرب مستعرة بين الأطراف الليبية حول مطار طرابلس الدولي للسيطرة على العاصمة بين ميليشيات مصراتة وميليشيات الزنتان. كما كانت الحرب قد تفجرت في بنغازي بين تحالف ميليشيات «أنصار الشريعة» و«الدروع» وقوات الجيش الوطني الذي كان اللواء خليفة حفتر ينظم صفوفه لطرد المتطرفين من المدينة.
وقال الاتحاد الأوروبي عن تعيين ابن مدينة «ملقة» كمبعوث خاص للأمم المتحدة في ليبيا، إنه يهنئ ليون بحرارة، وإن هذا القرار «يساهم بشكل أساسي في الدعم الذي نقدمه للأمم المتحدة التي تقوم بتنسيق الجهود الدولية لإنجاح العملية الانتقالية في ليبيا»، لكنه أكد أيضا على أهمية أن يكون في ليبيا حوار سياسي شامل، ودعا الليبيين للتعاون مع البعثة الأممية وممثلها للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وإعادة بعث العملية السياسية.
وحين بدأ عمله في ليبيا مع أواخر أغسطس الماضي، وجد ليون في ليبيا، وفقا لوصفه «عملية سياسية مترنحة قربت البلاد من حافة نزاع مطول وصراع أهلي». وبدأ على الفور في إجراء لقاءات مع أطراف النزاع والاستماع إلى وجهات نظر القادة الميدانيين والسياسيين، في صبر ومرونة وطول بال.. فزار طرابلس ومصراتة والزنتان وطبرق وغيرها والتقى الأطراف الفاعلة على الساحة الليبية.
ويقول ليون عقب كل تلك الزيارات والجولات بين المدن الليبية، إن جميع الزعماء الليبيين اعترفوا بالخلافات السياسية العميقة، وانعدام الثقة، وأنهم أكدوا ضرورة التغلب على هذه الخلافات وإنهاء الاقتتال واستئناف العملية السياسية. وشدد، في لغة حاسمة وموقف صلب، على محاسبة كل من يعطل العملية السياسية ويثبت مسؤوليته عن استمرار الصراع المسلح أو انتهاك حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
وخلال هذه الأيام بدأ التوافق على العودة لعقد جلسات الحوار في ليبيا من جديد. ويشرف ليون، بالتنسيق ما بين الخصوم، على مباحثات لإتمام التحضيرات اللوجيستية والأمنية، وتحديد مكان وزمان الحوار للاستمرار فيه إلى النهاية، بقدر الإمكان.
برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية
فرص مبعوث الأمم المتحدة في إنجاح الحوار الليبي تبدو ضيقة
برناردينو ليون آمال على الرمال الليبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة