الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

رينيه تاتون يرصد عبقريتها في الطب والفلك والرياضيات

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي
TT

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

يضعنا كتاب «تاريخ العلوم في الحضارات القديمة»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أمام عدة إشكاليات، بداية من الغلاف وانتهاء بصفحته الأخيرة، فالعنوان الأصلي للعمل هو «تاريخ العلوم العام». ولم تخبرنا مترجمة العمل هدى حسين، وهي أيضاً شاعرة وروائية، بمبررات تغيير العنوان على هذا النحو الذي قد يراه البعض يتنافى مع تقاليد الأمانة العلمية في الترجمة، وقد يراه آخرون عنواناً مضللاً، حيث لا يتناول الكتاب «الحضارات القديمة»، وإنما يركز على حضارة واحدة فقط هي الحضارة المصرية القديمة. أيضاً يحمل الغلاف مهمة أخرى قامت بها هدى حسين وهي «تبسيط» الكتاب، إلى جانب ترجمته بالطبع، دون أن توضح للقارئ ما هو مفهوم هذا التبسيط ولا حدوده ولا معاييره، ناهيك عن مبرراته أصلاً، ما قد يعطي انطباعاً بنوع من «الوصاية» تمت ممارسته بشكل عفوي على القارئ. كما حمل الكتاب في نهايته تعريفاً جيداً بالمترجمة، وهو شيء محمود، إلى أنه مع ذلك خلا من أي إشارة للتعريف بالمؤلف رينيه تاتون (1915 - 2004) الذي هو بالمناسبة مؤرخ وباحث فرنسي في تاريخ العلوم؛ وساعده في تأليف هذا الكتاب نخبة من الأساتذة المختصين والباحثين.
كل هذا لا ينفي الجهد المبذول في الترجمة عن الأصل الفرنسي بلغة سلسلة ودقيقة وشيقة في موضوع هو بطبيعته جاف، كما لا ينفي الأهمية التي ينطوي عليها هذا العمل، حيث يناقش تفوق المصريين القدماء في الرياضيات والفلك والطب وفق معيار علمي موضوعي بعيداً عن التأثير العاطفي أو المبالغات التي نجدها أحياناً في كتابات العرب عن حضاراتهم القديمة.
ويشير المؤلف في البداية إلى أنه في الألفية الثالثة قبل الميلاد، طور المصريون نظاماً عددياً عشرياً اشتمل على علامات عددية تصل حتى المليون لكن من جهة أخرى لا يبدو أنه اشتمل على علامة خاصة تدل على الصفر. ومع ذلك ظهر أن الكتبة المصريين كانوا في بعض الأحيان يتركون في مدوناتهم مساحة فارغة، حيث نكتب نحن الآن الصفر. لقد كانت الكتابة المصرية القديمة تعتمد على علامات خاصة فيما يتعلق بالآحاد والعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف والملايين، حيث جاء نظام الأعداد واستخداماته من بدايات الحضارة في وادي النيل كنتاج احتياج اقتصادي بحت خاضع للحالة الاجتماعية للبلاد. وكانت مصر آنذاك بلداً ملكياً موحداً شديد المركزية، يمتد من الشمال إلى الجنوب على شريط مائي رفيع لأكثر من ألف كيلومتر، حيث تشكل كل قطعة زراعية فيها خلية من خلايا هذا الجسد المترامي الأطراف، ولكي يصبح من الممكن حصر وإدارة مجموع أراضي هذا البلد ومعرفة ثرواته وتوزيعها، كان على الحكومة المركزية وكذلك على الحكومات الإدارية للقرى أن تقوم بحسابات عينية جمة تعتمد على علوم الرياضيات والهندسة المصرية، لا سيما في غياب أي مرجعية مالية واضحة. وكان النظام الاقتصادي يتطلب حسابات عينية هائلة من جهة للسيطرة على العمليات الخاصة بالإنتاج كتوريد البذور والمعدات والمواد الأولية، ومن ناحية أخرى لتقسيم المواد الاستهلاكية من غذاء وكساء بين مختلف طوائف وأفراد المجتمع، سواء كانت زراعية أو حرفية.

اعتراف إغريقي

أقر المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودت، أن طبيعة الأرض نفسها التي قامت عليها المملكة المصرية ألزمت المصريين القدماء بإيجاد حلول للمسائل الهندسية، وبناء على هذه الملاحظة فقد اعترف الإغريق أن المصريين هم من اخترعوا الهندسة وعلى يديهم تعلم المهندسون اليونان.
ويذكر المؤلف أن المصريين في عصر الدولة الوسطى كانوا يعرفون جيداً كيف يحسبون سطح المستطيل وعلى ما يبدو سطح المثلث أيضاً، وكانت لديهم نسب تقريبية جيدة لسطح الدائرة. ورغم ذلك فإن الهندسة المصرية مثلها مثل العلوم الرياضية كانت تتسم بالطابع العملي قبل أي شيء، كما في احتياجهم لتحديد معايير الوعاء الضريبي على سبيل المثال. كما برعوا في حساب الكتلة متعلقين بتلك التي كانت أكثر نفعاً كما هي الحال في الكتلة الهرمية والأسطوانية، حيث لم يكن المدفن الملكي عبارة عن ناووس «مدفن تحت الأرض» بل كان لا يزال على هيئة هرم، كما أن عملية بناء الأثر الجنائزي، التي كانت تبدأ فور تتويج الملك كانت تستمر طيلة فترة حكمه. ويستلزم ذلك البناء الكثير من العمالة وكميات كبيرة من المواد المستخدمة، وكانت تقع على عاتق الكاتب المصري مسؤولية الدقة في حساب مقاييس الهرم وكتل الحجارة التي يتطلبها، فضلاً عن كل الأعمال المساعدة الأخرى كتمهيد طرق الوصول وتوفير وسائل النقل.
ويرجح المؤرخ الفرنسي تبني قدماء المصريين تقويماً مبنياً على مراقبة الفلك منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وربما منذ الألفية الرابعة، حيث امتلكوا علم فلك له نسق خاص. وعلى سبيل المثال، فقد قسموا السنة إلى 12 شهراً، وكل شهر 30 يوماً، فيما تم توزيع الـ360 يوماً على فصول ثلاثة متساوية يتمونها بخمسة أيام إضافية للسنة، وهي الأيام الخمسة التي سميت لاحقاً بـ«النسيء».
وهذه الفصول أو المواسم كالآتي، الفيضان ويدعى «أخي»، الشتاء ويدعى «بيريت» ويعني خروج الماء من تحت الأرض، الصيف ويدعى «شيمو» ويعني نقص الماء.
وبسبب الحملة الفرنسية على مصر واكتشاف اللغة الهيروغليفية، ذهل الأوروبيون الذين عملوا في وادي النيل من الدقة التي يتصف بها اتجاه البنايات المصرية عامة واتجاه الأهرامات على وجه الخصوص، التي تطل بواجهاتها على الاتجاهات الأربع الأصلية. ويؤكد المؤلف أنه ينبغي الاعتراف بأن المصريين القدماء امتلكوا طريقة ناجحة في تحديد الشمال الحقيقي، علماً بأنهم لم تكن لديهم بوصلة، ويبدو أنهم اعتمدوا على رصد فلكي ما لكننا نجهل طبيعته.

الفلك والطب

ترافق هذا مع ازدهار الطب عن طريق الممارسة مثله مثل كل المهن الأخرى، فقد كان يتم توارثه أباً عن جد وينتقل من الأب للابن بالطريقة نفسها التي كان بها الكاهن يلقن خلفاءه من الأبناء ما يعرفه من أقوال وطقوس. ولم يكن هناك وجود فعلي لمدارس طبية، لكن في بعض المنشآت التي كانوا يدعونها «بيوت الحياة» كان يمكن للممارس الشاب للطب أن يتعلم بواسطة الأبوة التلقينية عبر معاشرة العلماء من الأطباء الذين كانوا يديرون الورش الاحترافية، حيث البعض من الكتبة يقومون بتأليف أو نسخ كتابات مكرسة للطب. من داخل هذه الورش الاحترافية خرجت البرديات الطبية، بينما كانت هناك ورش احترافية مشابهة تنتج مؤلفات ذات طابع ديني مثل «كتاب الموتى».
وتحفظ لنا بعض البرديات - كما يوضح الكتاب - عدة وصفات لعلاج القلب مصحوباً بحواشٍ وهوامش تضيء لنا المقصود من بعض المصطلحات المهنية، كما أن بعضها يعتبر تعليقاً على النص الأصلي. وهكذا نقرأ في إحدى البرديات تحت عنوان «أول سر الطبيب» أنه من الأهمية بمكان معرفة ما هو القلب تشريحياً، وأن هناك أوعية تذهب إلى كل عضو من أعضاء الجسم. ويضع الطبيب أو «كاهن سخمت»، أو الساحر يده على الساقين أو على أي جزء آخر في الجسم فيستشعر الحالة الصحية للقلب من خلال الأوعية التي تذهب إلى ذلك العضو. وتذهب براءة اختراع هذه الملاحظة إلى المصريين حتماً، لكنهم على ما يبدو لم يفكروا في عد نبضات القلب، وكان علينا أن ننتظر حتى القرن الثالث الميلادي حين قاس عدد ضربات القلب يوناني من أصل مصري وهو هيروفيل السكندري، مستعيناً بساعة مائية ذات أبعاد صغيرة لحساب ضرباته.
ويخلص الكتاب إلى أنه مع قصور المعرفة في مجال التشريح والفكرة التي اصطنعها المصريون عن مسيرة القلب ودور الأوعية لم يكن أمامهم إلا التجريب الملموس لوضع التشخيص ووصف العلاج فيما يخص الأعضاء الداخلية المختلفة. وهناك على سبيل المثال علاج لزوال السعال مكون من قشدة وكمون مغموس في عسل النحل يأكله المريض لأربعة أيام. وعلاج آخر لنفس المرض مكون من لبن بقري وثمار الخروب يوضعان في قدر على النار مثلما يطبخ الفول عندما تنضج يمضغ المريض ثمار الخروب هذه ويبتلعها مع اللبن لمدة أربعة أيام.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.