ربما كان جان بول سارتر آخر الفلاسفة الكبار الذين أدخلوا العالم، منفردين، في عواصفهم. فالمدارس الفكرية والفلسفية التي تلته عرفت بوصفها هذا أكثر منها مرتبطة بأشخاصها ورجالها، فيما كانت «الوجودية» قد ارتبطت، أساساً، بشخص سارتر نفسه.
لكن غابة سارتر المجتمعة سرعان ما انحسرت إلى الظل، وبقيت منها أشجار دائمة الخضرة، لا تغيب، في الفكر والنقد الأدبي والمسرح والرواية. وسارتر معروف كفاية في عالمنا العربي، فقد ترجمت أغلبية أعماله، وكان لها، خصوصاً في الستينات من القرن الماضي، ما كان من أثر معروف. غير أن جانباً واحداً ظل خافياً منه في عالمنا العربي، خصوصاً، وأيضاً في الغرب، والعالم عموماً. وقد أخذت الأكاديمية الفرنسية في روما على عاتقها، مهمة الكشف عن هذا الجانب، في معرض أقامته تحت عنوان: «سارتر والفنون»، حيث تم عرض مجموعة من اللوحات الفنية ترافقها ألواح مستطيلة تحمل مقاطع من كتابات الفيلسوف.
يعرف الجميع أن الفيلسوف الفرنسي كان أحول بدرجة قوية، أفقدت في النهاية عينه الحولاء الرؤية كلياً. وكان ذلك الحول مصدر صعوبة عاناها سارتر في النظر إلى الفن التشكيلي، ولكنه مع ذلك، تمكن في أوج نشاطه، من تطوير طريقة غير اعتيادية في النظر (معاينة الرسم). هنا كان يلقي التأويلات الباطنية والفكرية للوحة، ويلقي مهمة رؤية الأعمال على النظر. فالنظر، بحد ذاته، هو عدة الرؤية والرؤيا معاً. وكان ما كتبه سارتر عن الفن التشكيلي عموماً، الرسم خصوصاً، مهماً لدرجة لا تقل عن أهمية ما كتبه عن الأدب.
ويوضح معرض أكاديمية الفنون الفرنسية بروما أن النظرة الجمالية التي تبناها رفضت العوالم الباطنية التي طالما ألهمت السورياليين. وتتخلص هذه النظرة في «أن كل شيء يقع في الخارج». أي أن كل شيء مادة، وهو ما ينفي الحاجة إلى التوغل في أعماق الفنان والفن كما يؤكد ذلك العديد من المدارس الفنية. هذه النظرة قد تكون أغنت النقد الفني، ولكنها في الوقت ذاته حملت النقاد الفنيين على أن يروا أن سارتر كان يعاني أمام الرسم نوعاً من «تواضع الأحاسيس». فهو كان يرى، وهذا صحيح، لكن ما كان يراه قد انطلق من استراتيجية غاية في التعقيد.
الفنانون الذين شغلوا سارتر، هم: جاكوميتي، كالدر، ولز، هاري، ماسون، هيلين دي بوفوار، ريبيروله. وشهادات بعضهم فيه تختلف». إذ يرى أن سارتر لم يكن ذوقياً، الفنان ماسون يقول إن ذوقه يتعارض مع «القواعد» السوريالية. والفنان جاكوميتي والفنان كالدر والفنان ويلز يؤكدون العكس، فيما يتعلق بتذوقه، إذ يقولون إنه كان يتعاطف بصميمية مع الطليعيين، والأعمال الصادقة للرسامين، أو لبعضهم في الأقل. إن المثال الذي يمكننا الحديث عنه حول علاقة سارتر بالفنانين، هو الفنان الأميركي كالدر إذ اكتشفه سارتر بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، حين كان الأخير يقوم بأول زيارة له لمدينة نيويورك، وكما هو معروف فإن كالدر بالإضافة إلى حيويته الفائقة كرسام، فقد توصل في مجال النحت الذي برع فيه هو الآخر إلى ما سمي بفن «المتحركات»، وهذه عبارة عن هياكل معقدة وبسيطة في الوقت ذاته، وتصنع من معدن ملون، وتتحرك فقط حسب تأثيرات الريح. لقد تفحص سارتر بدقة هذا الاختراع، ووصف تلك المتحركات بكونها «مخلوقات غريبة تقد وسط الطريق بين المادة والحياة». أي أنها وسط الطريق، بين الطبيعة (هواء، شمس، ريح، ضوء... الخ) وفبركة آلية للعالم.
مثال آخر هو الفنان ويلز الذي ساعده سارتر مادياً كي يتيح له مواصلة حياته. ففي العديد من لوحاته البديعة التي رسمها بين الأربعينات والخمسينات (وقد عرض العديد منها داخل معرض روما) يشخص سارتر «خلاصة عصيبة لا ترمز إلى أي شيء ولا إلى أي كائن، وتبدو وكأنها تنتمي إلى مملكات الطبيعة الثلاث، وربما لأخرى رابعة مجهولة حتى الآن»... ثم يضيف بأنه حسب تصور ويلز، فإن هذه المواضيع ما هي إلا «هو بذاته خارج نفسه ويراها تكتمل حين يحلم بنفسه». وحين ينسحب بعد إغماضة العينين، ويبحر في «الليل، يجرب الرعب الشمولي لأن يكون في العالم». وبعد هذا الوصف المغرق في الفلسفة لطريقة التقاط الموضوع وتجسيده لدى الفنان ويلز، يصف سارتر طريقة عمل الأول بأنها «سحر وأتوماتيكية».
ويحلل سارتر واحدة من الصور العديدة التي رسمها الفنان جاكوميتي لأخيه (ديغو)، ويتساءل: «كيف يرسم الفراغ؟... قبل جاكوميتي يبدو أن لا أحد قد حاول ذلك... منذ خمسين سنة تكاد تتفجر اللوحات بسبب امتلائها، وفيها أدخل الشمولي بالقوة، من قماش اللوحات يبدأ جاكوميتي بتقشير العالم، وأخوه (ديغو) يبدو في الصورة وحيداً ظامئاً في اليم». إن المسافة والفراغ يصبحان عند سارتر بمثابة المجالات العميقة في أعماله النقدية الفنية، وللأسف يستحيل في هذا المجال تلخيصها بكلمات قليلة. يقول سارتر إنه عبر الفراغ والمسافة «ثمة الدهشة الحقيقية» وهذه فكرة فلسفية، ولكن طريقة التقاط الأشياء عند سارتر تبدو مدهشة وساحرة حين ينتبه إلى أن توقف الفنان جاكوميتي أمام الحقيقي، الذي يرسمه عبر خطوط مضطربة، أن هذا التوقف، هو سر استحواذه على دهشتنا كمتفرجين.
يصف سارتر، ديغو، في اللوحة قائلاً، «إنني أتلفت إلى ديغو، ومن لحظة إلى أخرى ها هو ينام، يستيقظ، ينظر إلى السماء، يسمر نظراته تجاهي، كل شيء حقيقي كل شيء واضح للعيان... لكن حين أخفض رأسي قليلاً، وأعدل وجهة النظر يختفي هذا الوضوح، ويستبدله وضوح آخر». وللأسف لا يمكن إنهاء هذا النص رغم العاطفية الصادقة والمدهشة التي يتحلى بها سارتر تجاه جاكوميتي، وذلك لطول النص.
إن الأمثلة المختارة من شأنها أن تقربنا - ولو قليلاً - من «النظرة الجمالية» لسارتر، التي تتمثل في البحث عن المادة كما هي، أي النقاء الخارجي، وبناء التخيل وطريقة فهمه، أي تقمصه. وهذه الاهتمامات الجمالية لم تنفصل على أي حال عن اهتمامات سارتر الفلسفية العميقة بوجه عام.
لقد كان من الواضح أن نظرة سارتر الجمالية تنطلق من رغبة دفينة وحادة «لأن نقبض على الأشياء ذاتها» كما كان يكرر دائماً.
سارتر ناقداً تشكيلياً
معرض فني عن كتابات نقدية لفيلسوف الوجودية
سارتر ناقداً تشكيلياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة