«كورونا» أعاد المكتبات المنزلية إلى الواجهة

التطور التقني ساهم في تقلص ركن كان مرجعاً للقراءة

الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يوقع عقد التبرع  بمكتبته لمدينة لشبونة في سبتمبر الماضي (غيتي)
الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يوقع عقد التبرع بمكتبته لمدينة لشبونة في سبتمبر الماضي (غيتي)
TT

«كورونا» أعاد المكتبات المنزلية إلى الواجهة

الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يوقع عقد التبرع  بمكتبته لمدينة لشبونة في سبتمبر الماضي (غيتي)
الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل يوقع عقد التبرع بمكتبته لمدينة لشبونة في سبتمبر الماضي (غيتي)

ممتنون نحن لجائحة فيروس كورونا المستجد، لأنها أعادت للمكتبة وأرفف الكتب، حضورها البهي، وهي تظهر خلفية في برامج المحادثة أو لضيوف التلفزيون، الذين يتحدثون من بيوتهم، ضمن تدابير الوقاية من الوباء. أرقب تلك الخلفيات باهتمام وأنشغل بتأمل إطلالة المكتبة، أنيقة كأنها لم تمس منذ زمن، أم مستها فوضى النقل والإعادة؟ وأرقب ما وضع على الأرفف، من صور لأحبة أو مبدعين ملهمين، أو تحفة من مقتنيات السفر.
من خلال تلك الإطلالة، بتنا نرى تصاميم مختلفة للمكتبات المنزلية، أو لزوايا، قد لا ينطبق على بعضها، اسم «مكتبة»، لكنها أرفف تحتضن الكتب، في بيوت أطباء وعلماء وصحافيين وسياسيين، أمهات وآباء، تعكس ذوق كل منهم في تخصيص ركن للكتب، يتموضع في الصالة، وأحياناً في غرفة النوم، أو حتى في المطبخ، بحسب ما نرى. هذا الركن، وإن كان محدود المساحة، يشي بمنزل يحترم ساكنوه وجود الكتاب في فضاء البيت، بعد أن ابتلعت برامج الألعاب ومواقع التواصل، اهتمام الأجيال الجديدة، وبعد أن راجت نسخ ديجيتال وألواح قراءة، بديلاً لنسخ ورقية من الكتب والصحف والمجلات، ما ساهم في تقلص أو اختفاء ركن داخل البيت، كان مرجعاً أساسياً للقراءة.
في العادة، كان يتم توريث المكتبة المنزلية إلى الأجيال اللاحقة، فتكون مصدر تعلق بالقراءة، وربما، لاحقاً، بالكتابة. في مقتبل التسعينات، حظيت بزيارة لبيت الباحث محمد سعيد القاسمي، في حي المهاجرين بدمشق، حفيد علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي، حيث استقبلني في حجرة المكتبة الواسعة التي ورث فيها كتب ومخطوطات جده، رجل الدين الإصلاحي ومؤرخ صناعات دمشق ورجالها البارزين. حدثني محمد سعيد عن صداقة جده بالعلامة اللبناني رشيد رضا ولقائهما في القاهرة ودمشق، عن نسخ من الرسائل التي تبادلاها، وعن أعداد من مجلة «المنار» التي نشرا فيها المقالات وكانت تسترخي على أرفف المكتبة العتيدة في ذلك البيت. أثناء بحثي بينما أكتب هذا المقال، قرأت أن محمد سعيد توفي مطلع عام 2019. وأول ما خطر ببالي، التساؤل عن مصير تلك المكتبة التي يعود كثير من محتوياتها إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خصوصاً في ظل الأوضاع المزرية التي تمر بها سوريا.
وكي نكون واقعيين، ليس كل جيل بقادر على تحمل عبء صيانة مكتبة جمعت خلال عقود، فقد تفسد بفعل الحرارة أو الرطوبة أو الاستخدام السيئ للمخطوط، لذا، يفضل الورثة التبرع بها لجامعات أو مراكز بحثية قادرة على صيانتها، من أن تترك لأجيال يزداد تعدادهم مع الوقت، وقد يتسرب بعض هذا الإرث إلى بسطات الكتب المستعملة أو الأفراد، بالإهداءات التي عليها أو الملاحظات التي خطها مالك الكتاب، وهي آثار تعدها الأمم المتحضرة من موروثها القومي الذي تحتفظ به، وتطلق حملات التبرع لشرائها ومنع خروجها إلى بلد آخر.
تروي السيدة فايزة شاويش، زوجة الكاتب المسرحي السوري البارز سعد الله ونوس، كيف كان في آخر أيامه وهو يصارع السرطان، قلقاً على مصير مكتبته التي تضم نحو 4500 كتاب، وأنها أعطته الوعد بالاهتمام بها. لكن بعد وفاته بعقدين، وعندما لم تعد قادرة على حراستها في دمشق، من نيران الحرب أو السطو أو حتى الانتقام، وبعد متابعة ثلاث جهات، بينها مكتبة الأسد «الوطنية»، اضطرت عام 2017 للتبرع بها إلى الجامعة الأميركية في بيروت. ولهذه الجامعة صيت أكاديمي يدفع للثقة بها، لأن أكثر من كاتب في المنطقة، ترك إرثه في جنبات جدرانها، فقد أعلن عمرو العظم، نجل المفكر السوري صادق جلال العظم، ووفقاً لرغبة والده الراحل، التبرع بمجموعة من الأوراق ومقتطفات الصحف والوثائق التي كان لها علاقة بكتابة «نقد الفكر الديني» والقضية المرتبطة به، وكل ما كتب عن هذا الموضوع، لمكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، وكذلك التبرع بعدد من الكتب والمجلات التي كانت جزءاً من مكتبته الخاصة في دمشق. وهو الكرم الذي استقبلته الجامعة، باعتذار متأخر عن تخليها عن الكاتب قبل 47 عاماً، في القضية التي وصلت للمحاكم بسبب الكتاب ثم تبرأ فيها العظم.
الجامعة الأميركية، في القاهرة، احتضنت هي الأخرى، إرث شخصيات معروفة، مثل مجموعة بطرس بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، والكاتب أنيس منصور. ويختار بعض المشاهير أو ورثتهم، التبرع للمكتبات الوطنية أو المحلية، المكان الذي تثق أنه سيحافظ على مخطوطات وأوراق، وحتى نسخ من الكتب اقتناها الراحل.
في حوار أجريته معه قبل سنوات قليلة، سألت الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، وهو الذي كتب عن مئات الكتب وعن المكتبات وفلسفة القراءة، حاملاً لعالم النشر تخصصاً جديداً، عن حجم مكتبته الآن؟ فأجاب أن لديه في حدود 40 ألف عنوان. وكان من الفضول الصحافي أن أسأل الكاتب الستيني، عما ينوي أن يفعله بهذا الكم من الكتب، إن كان سيهديه لمكتبات وطنية أم سيورثها لعائلته؟ قال مانغويل إنه لم يفكر بالموضوع بعد، «لكن من المؤكد أن عائلتي لا تريد أن تتورط بعبء مكتبة بهذا الحجم». غير أن الأخبار حملت لنا في سبتمبر (أيلول) الماضي، خبر توقيع مانغويل على إهداء ثروته من الكتب، إلى مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، لتكون بذرة «مركز دراسات تاريخ القراءة».
وعلى سيرة البرتغال، قرأت في «يوميات» الكاتب خوزيه سراماغو، الحاصل على نوبل، التفاتة مهمة عن خلو المسلسلات الأميركية الشهيرة من أي حضور للمكتبة المنزلية، مذكراً بأن الأعمال ممولة من قبل شركات المال في وول ستريت.
إذا حاولنا أن نفكك ملحوظته، نلحظ تركيز تلك المسلسلات، على الأثاث، مثل التلفزيون والكنبة الواسعة، المطابخ الحديثة بتصميم لافت للخزائن والأجهزة الكهربائية، علب رقائق الفطور والحليب والعصائر، ثم علب الآيس كريم والمشروبات الغازية أو البيرة، إلخ. وكلها منتجات سينجذب لها المتفرج في أول تسوق قريب بعد أن تم تخزينها في ذاكرته. وهكذا فإن أمكنة المسلسلات الخفيفة، مفروشة بأسلوب يستثمره المعلنون، ويصدف أن دور النشر ومحلات بيع الكتب، ليست بينهم.
في المسلسلات العربية حضور باهت للمكتبة المنزلية، لأنها لا تستوقف صناع العمل، وإن ظهرت، تكون مرتبطة بشخصية تعمل في الكتابة أو التدريس، شديدة الجدية أو «معقدة». وإن صدف وتمت استضافة شخص في بيته، يكون تركيز الاهتمام على إظهار تحف أو قطعة أثاث لافتة، حتى لو كانت لوحة فنية من البوب آرت، ونادراً ما نرى رف كتب خلف الضيف. وحدها برامج تصور عاملين في الكتابة، داخل منازلهم، تكشف عن «مكتبة» أو أرفف كتب، فالكاتب يقرأ ويكتب، وغداً سيحار ورثته ماذا يفعلون بالإرث الثقيل.
ستحتاج البشرية في المستقبل، لموجة وباء آخر، وتباعد اجتماعي يستدعي الكلام، من البيت، لنتأكد إن كان لا يزال للمكتبة المنزلية حضور أم أنها اختصرت داخل جهاز كومبيوتر


مقالات ذات صلة

كيف يبدو مستقبل «كوفيد-19» في 2026؟

صحتك سجَّلت بريطانيا أحد أعلى معدلات الوفيات المرتبطة بجائحة «كورونا» في أوروبا إذ حصد «كوفيد-19» أرواح نحو 226 ألف شخص (رويترز)

كيف يبدو مستقبل «كوفيد-19» في 2026؟

يتوقع خبراء استمرار «كوفيد-19» في 2026، مع هيمنة متحوِّرات «أوميكرون» وأعراض مألوفة، محذِّرين من التهاون.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك فيروس «كورونا» تسبب في وفيات بالملايين حول العالم (رويترز)

دراسة مصرية تثبت قدرة أدوية الالتهاب الكبدي على الحد من وفيات «كوفيد - 19»

كشفت دراسة طبية مصرية عن نجاح دواء يستخدم في علاج مرضى فيروس (التهاب الكبدي الوبائي سي) في الحد من مضاعفات الإصابة بفيروس «كوفيد - 19» المعروف بـ«كورونا»

نصري عصمت (لندن)
أوروبا سجّلت بريطانيا أحد أعلى معدلات الوفيات المرتبطة بجائحة كورونا في أوروبا إذ حصد «كوفيد - 19» أرواح نحو 226 ألف شخص (رويترز)

أكثر من 14 مليار دولار تكلفة الاحتيال المتعلق بـ«كوفيد - 19» في بريطانيا

بلغت تكلفة الاحتيال المتعلق ببرامج الدعم الحكومي خلال جائحة كوفيد - 19 في بريطانيا 10.9 مليار جنيه إسترليني (14.42 مليار دولار).

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق امرأة ترتدي الكمامة خلال فترة انتشار الجائحة في كندا (رويترز)

كيف أثّر وباء «كوفيد» على مرحلة البلوغ لدى الفتيات؟

تسبب الإغلاق الذي فُرض بعد انتشار جائحة «كوفيد - 19» في توقف شبه تام للحياة، وشهد مئات الملايين من الأشخاص تغيُّرات جذرية في أنماط حياتهم.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك طفلة تتلقى جرعة من لقاح «موديرنا» لفيروس «كورونا» بصيدلية سكيباك في شوينكسفيل - بنسلفانيا (رويترز)

تقرير أميركي: وفاة 10 أطفال بسبب جرعات التطعيم ضد فيروس «كورونا»

قال مارتي ماكاري، مفوض إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية، اليوم (السبت)، إن البيانات أظهرت وفاة 10 أطفال؛ بسبب جرعات التطعيم ضد فيروس «كورونا».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.