لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

يلقب بالجنرال «غير المرئي» ولا يحب التحدث مع الإعلام في الشؤون العسكرية

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة
TT

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

لويد أوستن يدخل التاريخ كأول وزير دفاع أسود في الولايات المتحدة

دخل الجنرال المتقاعد لويد أوستن، يوم 22 يناير (كانون الثاني) الحالي، التاريخ كأول وزير دفاع للولايات المتحدة الأميركية من أصول أفريقية. واعتبر تعيين أوستن في هذا المنصب إنجازاً جديداً في الجهود التي تبذلها المؤسسة السياسية الأميركية لنزع صفة التفرقة العنصرية، ليس فقط في الدوائر السياسية، بل والعسكرية، وترجمتها في أكبر وأقوى جيش في العالم. وأيضاً، جاء تعيين أوستن تنفيذاً لوعد انتخابي قطعه الرئيس الأميركي الديمقراطي الجديد جو بايدن، بأن يقدّم إدارة هي الأكثر تنوعاً عرقياً وجنسياً في تاريخ الإدارات الأميركية.
بايدن كان يعلم أن اختياره لأوستن سيحظى بموافقة مجلس الشيوخ، على الرغم من التحفظ الذي يثيره عادة قرار تعيين عسكري لم يمضِ على خروجه من الخدمة 7 سنوات في منصب مدني، خصوصاً على رأس المؤسسة العسكرية. وقال بايدن خلال الإعلان عن ترشيح وزيره الجديد «لقد رأيته يقود القوات الأميركية المقاتلة في ميدان المعركة. شاهدته أيضاً ينفذ بأمانة أوامر القيادة المدنية لهذه الأمة... أعرف هذا الرجل. أعرف احترامه لدستورنا. أعرف احترامه لنظام حكمنا».

نص الدستور الأميركي واضح لجهة تشديده على الحفاظ على سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية؛ بهدف ضمان إشراف السياسيين على قرارات تلك المؤسسة ومنع تقويض الديمقراطية. لكن استثناءات عدة شهدها هذا المنصب، وسمح بها الدستور نفسه عندما أجاز لمجلسي الشيوخ والنواب منح بعض العسكريين السماح بتخطي هذه العقبة في تصويت خاص قبل الموافقة على تعيينه وزيراً للدفاع.
وبالفعل، شغل العديد من العسكريين السابقين هذا المنصب، إلّا أن اثنين فقط قبل الوزير الجديد الجنرال لويد أوستن، هما الجنرال جورج مارشال والجنرال جيم ماتيس كانا من كبار الضباط المحترفين في الجيش الأميركي. وحصل أوستن في التصويت الخاص بالاستثناء من شرط مرور 7 سنوات على ترك الخدمة الفعلية لتعيينه على 69 صوتاً مقابل اعتراض 27 في مجلس الشيوخ، وعلى 326 مقابل 78 صوتاً في مجلس النواب، بينهم نواب ديمقراطيون على رأسهم سيث مولتون الذي حارب في العراق. ومن ثم، جرى تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ بغالبية 92 صوتاً ضد صوتين فقط. وبعد التعيين غرّد الوزير الجديد «إنه لشرف وامتياز أن أكون وزير الدفاع 28 لبلدنا، وأنا فخور بشكل خاص لكوني أول أميركي من أصل أفريقي يتولى هذا المنصب. لنبدأ العمل».

- سجلٌ عسكري حافل
تقاعد لويد أوستن من الجيش عام 2016 بعد 41 سنة أمضاها في الخدمة. وهو يتمتع بسجل طويل في المهمات العسكرية، وتربطه علاقة طويلة الأمد بالرئيس جو بايدن حين كان الأخير نائباً للرئيس السابق باراك أوباما. ولقد خدم أوستن قائداً للقوات الأميركية وقوات «التحالف» في العراق إبّان فترة ولاية أوباما الرئاسية الأولى، ثم صار عام 2012 أول أسود يشغل منصب نائب رئيس أركان الجيش، وهو ثاني أعلى مناصب الخدمة العسكرية. وبعد ذلك بسنة غدا أول قائد أسود لـ«القيادة الأميركية الوسطى» (السينتكوم) عندما حلّ محل الجنرال جيم ماتيس الذي تقاعد عام 2013. وبقي أوستن في منصبه هذا حتى 2016، حين أشرف على وضع استراتيجية عسكرية لقتال مسلحي تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وتولى تنفيذها. هذا، ووُصف نهجه كقائد للقيادة الأميركية الوسطى بأنه نهج «جنرال غير مرئي»، بسبب إحجامه عن التحدث علناً في الأمور العسكرية. وهو الأمر الذي قد يستمر معه في الفترة المقبلة وزيراً للدفاع، في مرحلة سياسية يطبعها الغموض والترقب في العديد من الملفات الحساسة، من إيران إلى أفغانستان، وكوريا الشمالية، وروسيا، والصين.

- «حرب العراق»
شارك لويد أوستن في «حرب العراق» من البداية إلى النهاية. فقد شغل منصب مساعد قائد فرقة المشاة الثالثة أثناء غزو العراق في مارس (آذار) 2003 وأشرف على الانسحاب عام 2011. وعندما تقاعد عام 2016، أشاد أوباما بـ«شخصيته وكفاءته»، فضلاً عن حكمته وقيادته. ولكن على الرغم من إشادة بايدن بقدرة أوستن العسكرية، فإنه تعرض للانتقاد من زميل عسكري مثله، هو السيناتور الراحل جون ماكين، إبّان جلسة استماع شهيرة وسيئة لأوستن في الكونغرس عام 2015 خصصت لمناقشة توصيته بشأن كيفية التعامل مع الحرب ضد «داعش» في سوريا. ويومذاك قال ماكين في الجلسة «بشكل عام، ما تقوله لنا يتناسب مع الأحوال العادية حين يكون كل شيء على ما يرام، غير أن ما نراه هو أن مئات الآلاف من اللاجئين يغادرون ويغمرون أوروبا، كما قُتل 250 ألف سوري». وجاء ذلك رداً على قول أوستن، كقائد للقيادة الأميركية الوسطى: إنه لن يفعّل التوصية بإنشاء «منطقة عازلة» للسماح للاجئين السوريين بالهرب إليها؛ لأن ذلك يتطلب وجود قوات أميركية. وأضاف ماكين لأوستن الذي بدا عليه الإحراج «لم أرَ قط في جلسة استماع من رأي خبير خارجي انفصالاً عن الواقع كما أرى منك الآن».
عام 1975 تخرّج أوستن في الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت (بولاية نيويورك) وحصل على بكالوريوس العلوم بدرجة ملازم ثان، ليختم مهمته الأولى في فرقة المشاة الثالثة الآلية في ألمانيا. وبعد ذلك حصل على دورة تدريبية متقدمة لضباط المشاة، وعيّن بعدها في الفرقة 82 المجوقلة (المُقلّة جواً) في قاعدة فورت براغ بولاية نورث كارولينا، حيث تولى قيادة سريّة الدعم القتالي، الكتيبة الثانية مشاة المجوقلة، وعمل مساعد عمليات للواء الأول الفرقة 82 المجوقلة.
وعام 1981، عيّن أوستن في مدينة إنديانابوليس، عاصمة ولاية إنديانا، بمنصب ضابط العمليات لقيادة التجنيد في المنطقة، ثم تولى قيادة كتيبة التجنيد بالجيش. والتحق بعد ذلك، بجامعة أوبورن (في ولاية آلاباما)، حيث أكمل دراساته للحصول على درجة الماجستير في التربية. ومن ثم جرى تعيينه في ويست بوينت، حيث عمل كضابط تكتيكي.
بعد اختياره وإكماله علومه في كلية قيادة الجيش والأركان العامة في فورت ليفنوورث بولاية كانساس، عيّن أوستن في الفرقة الجبلية العاشرة مشاة خفيفة في فورت دروم بنيويورك، حيث شغل منصب قائد العمليات، وبعد ذلك ضابط تنفيذي للكتيبة الثانية مشاة ومدير خطط التدريب والتعبئة والأمن فيها.
في عام 1993، عاد أوستن إلى الفرقة 82 المجوقلة في فورت براغ بولاية نورث كارولينا، حيث قاد الكتيبة الثانية المجوقلة، ويتولى لاحقاً قيادة اللواء الثالث في الفرقة. وبعد فترة وجيزة من قيادة اللواء، جرى تعيينه في مبنى البنتاغون بمدينة أرلينغتون (ضواحي العاصمة واشنطن) بولاية فيرجينيا، حيث شغل منصب رئيس قسم العمليات المشتركة، في هيئة الأركان المشتركة. وبعدها كانت مهمته التالية هي مساعد قائد الفرقة للمناورة فرقة المشاة الثالثة ميكانيكية في قاعدة فورت ستيوارت بولاية جورجيا. ومن منصبه هذا ساهم في قيادة مهام الفرقة في غزو العراق في مارس 2003، وحصل على «النجمة الفضية» عن هذه المهمة.

- مع «القيادة الوسطى»
خدم لويد أوستن من سبتمبر (أيلول) 2003 حتى أغسطس (آب) 2005 قائداً عاماً للفرقة الجبلية العاشرة، وقائداً لقوة المهام المشتركة 180 أثناء الحرب في أفغانستان. وكان منصبه التالي هو رئيس أركان «القيادة الوسطى (السينتوم) للولايات المتحدة» في تامبا بولاية فلوريدا، من سبتمبر 2005 حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2006. في نهاية ذلك العام رقّي أوستن إلى رتبة جنرال، وتولى قيادة الفيلق الثامن عشر المجوقل في فورت براغ بولاية نورث كارولينا. ثم في بداية 2008، أصبح أوستن ثاني أعلى القادة في العراق رتبة، حين تولى قيادة الفيلق المتعدّد الجنسيات. وكقائد للقوات المتعددة الجنسيات في العراق، أشرف وأدار عمليات ما يقرب من 152 ألف جندي من القوات المشتركة وقوات «التحالف» في جميع أنحاء العراق.
عام 2009 سلم أوستن قيادة الفيلق الثامن عشر ليصبح مدير هيئة الأركان المشتركة. وجاءت هذه الترقية بتوجيه من الأدميرال مايكل مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة في ذلك الوقت، الذي طُلب منه زيادة التنوع في هيئة الأركان المشتركة. وأقرّ أوستن أن ترقيته هذه دفعت مسيرته المهنية قائلاً «بعد هذه الترقية بدأ الأشخاص في التعرف على لويد أوستن».

- الحرب ضد «داعش»
عندما تولى أوستن قيادة القوات الأميركية وقوات «التحالف» في العراق عام 2010 أشرف على الانتقال من عملية «حرية العراق» والعمليات القتالية، إلى عملية «الفجر الجديد» وعمليات الاستقرار التي تركز على تقديم المشورة والمساعدة وتدريب قوات الأمن العراقية. وشارك على نطاق واسع في المناقشات الأميركية الداخلية ثم المفاوضات مع الحكومة العراقية التي أدت إلى توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية. ولقد عارض أوستن الانسحاب الكامل من العراق، مفضلاً احتفاظ الولايات المتحدة بأكثر من 10 آلاف جندي بعد الانسحاب عام 2011. كذلك أوصى بخطط لإبقاء ما يصل إلى 20 ألف عسكري هناك. وفي النهاية أشرف على سحب وإعادة نشر 50 ألف جندي ليغادر مع الآخرين العراق نهاية ذلك العام.
ومما يذكر، في هذا السياق، أنه بعد سيطرة تنظيم «داعش» على مدينة الموصل في يونيو (حزيران) 2014، أشرف أوستن على تطوير وتنفيذ خطة الحملة العسكرية لمواجهة التنظيم في كل من العراق وسوريا. واعتباراً من أكتوبر 2014، جادل أوستن بأن التركيز الأساسي للجيش الأميركي في العمليات ضد «داعش» يجب أن يكون العراق وليس سوريا. وأقر عام 2015 خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، بأن برنامج تدريب مسلحي المعارضة السورية لمحاربة «داعش» لم يكن ناجحاً. ليتحول التركيز بعد ذلك على تعزيز دور المسلحين الأكراد وتشكيل ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» التي خاضت الحرب في سوريا ضد التنظيم.
كالعديد من الجنرالات المتقاعدين، عمل أوستن - الذي يصفه عارفوه بأنه رجل «شديد الخصوصية» ويكره التحدث إلى وسائل الإعلام، وغالباً ما كان يتحدث عن نفسه بصفة الغائب – في القطاع الخاص. وشملت حياته العملية بعد التقاعد من الخدمة الفعلية، انضمامه إلى مجالس إدارة عدد من الشركات. إذ انضم بعد تقاعده عام 2016 إلى مجلس إدارة شركة المنتجات العسكرية العملاقة «رايثيون تكنولوجيز». واعتباراً من أكتوبر 2020، قدّرت قيمة ممتلكاته من أسهم الشركة وتعويضاته 1.4 مليون دولار. وفي سبتمبر 2017، عُيّن في مجلس إدارة شركة «نوكور»، وعام 2018 أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة «تينيت هيلث». ثم إنه إلى جانب إدارته شركة استشارية، فهو شريك في «باين أيلاند كابيتال» وهي شركة استثمارية تضم أيضاً وزير الخارجية الجديد أنتوني بلينكن ونائبة وزير الدفاع السابقة ميشيل فلورنوي. بيد أنه قال خلال جلسة الاستماع الخاصة بتثبيته وزيراً للدفاع، إنه سيتنحى عن تلك المناصب لمدة أربع سنوات، حسب ما ينص عليه القانون، وهو التعهد الذي أعلن بلينكن التزامه به أيضاً.

- بطاقة هوية
ولد لويد جيمس أوستن يوم 8 أغسطس (آب) عام 1953، في مدينة توماسفيل بولاية جورجيا، حيث نشأ على يد أم كاثوليكية متديّنة، ولا يزال يصف نفسه بأنه مؤمن ويمارس واجباته الدينية.
· تخرّج عام 1975 ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ، حاصلاً على بكالوريوس علوم من الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت بولاية نيويورك.
· حصل عام 1986 على درجة الماجستير في التربية من جامعة أوبورن بولاية آلاباما. ثم عام 1989 على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة وبستر في ولاية ميزوري.
· تزوج منذ أكثر من 40 سنة من شارلين دينيس بانر أوستن التي كانت أماً لطفلين من زواج سابق. وعملت زوجته مديرةً في مؤسسة غير ربحية وفي مجلس إدارة معهد أبحاث الأسرة العسكري في جامعة بورديو بولاية إنديانا.
· حصل أوستن على أوسمة عسكرية عدة في مسيرته المهنية الطويلة، منها «وسام الخدمة الدفاعية المتميزة» و«النجمة الفضية» وميدالية إشادة من الجيش وجوائز أخرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.