انتخابات أميركا في صميم اهتمام العراقيين

المرشح الديمقراطي جو بايدن والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب)
المرشح الديمقراطي جو بايدن والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب)
TT

انتخابات أميركا في صميم اهتمام العراقيين

المرشح الديمقراطي جو بايدن والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب)
المرشح الديمقراطي جو بايدن والرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب)

> هذه هي المرة الأولى التي تحتل فيها الانتخابات الأميركية الرئاسية والتشريعية أولوية لدى العراقيين. وجاءت لتفوق حتى الانتخابات العراقية الدورية كل أربع سنوات، التي كثيراً ما تتعرض بنسب عالية ولا تجري متابعتها من قبل معظم الناس.
وطبقاً لتسلسل الأحداث، فإن الولايات المتحدة احتلت العراق عام 2003 على عهد جورج بوش الابن. وبعد سنة، فاز الأخير بفترة رئاسية ثانية. ثم، في عام 2008 تنافس الجمهوريون والديمقراطيون على البيت الأبيض فحلّ ضيفاً عليه لسنوات ثمانٍ تالية أول رئيس من أصل أفريقي هو باراك أوباما. وبقدر ما كان وصول أوباما «طفرة جينية» في التاريخ الأميركي، فإن السياسات التي رسمها ونفّذها طوال فترة حكمه تركت، ربما لعقود آتية من الزمن، تأثيراتها على العراق والمنطقة العربية. ففي عهد أوباما تحوّل العراق إلى ساحة مفتوحة لتصفية حسابات بدت مؤجلة لبعض الوقت بين واشنطن وطهران.
وإذا كان باراك أوباما قد منح إيران كل ما كانت تريد عبر «الاتفاق النووي» معها، فإن القيادة في طهران لم تتنازل حتى اللحظة عن تسمية أميركا «الشيطان الأكبر». غير أن استفادة إيران من سياسات أوباما «الناعمة» اهتزت؛ إذ سرعان ما قلب سلفه الجمهوري دونالد ترمب سياسة واشنطن تجاه طهران رأساً على عقب، بدءاً من تمزيقه «الاتفاق النووي» الذي راهنت طهران عليه ولا تزال تراهن، لجهة إمكانية العودة إليه في حال دخل جو بايدن، نائب أوباما السابق، البيت الأبيض.
بالنسبة لتفكير طهران، قد لا يختلف توقيتها في ترقب الانتخابات ونتائجها عن ترقب بغداد. إذ لا فارق زمنياً أو ربما واقعياً بين توقيتي بغداد وطهران. القاسم المشترك بينهما، حقاً، هو التوقيت الأميركي وحصيلة الانتخابات والدروس المستفادة من الماضي. والقصد هو إما ستبقى إيران تحت وطأة العقوبات في حال ظل ترمب رئيساً، مع ما يمكن أن يتركه ذلك من آثار مختلفة بشأن وجودها ودورها في العراق، أو تتنفس الصعداء في حال فاز بايدن بالبيت الأبيض واستأنف سياسات أوباما. وهذا، مع أن الأخير سيحتاج إلى مائة يوم أولى لتقييم سياسته.
في أي حال، ستنتظر طهران - وحلفاؤها والموالون لها في المنطقة - متغيّرات تحلم أنها ستكون لصالحها.
في العراق، تنقسم المواقف بين من يخشى بقاء البلاد ساحة لتصفية الحسابات بين الأميركيين والإيرانيين، وبين من يرى أن السياسة الأميركية مؤسساتية لن تتغير كثيراً على صعيد الثوابت. ولقد تحدث أكاديميون ومحللون عراقيون لـ«الشرق الأوسط» بشأن مستقبل العلاقة بين بغداد وواشنطن بعد الانتخابات الأميركية، وكانت لنا معهم هذه الحصيلة:
- الدكتور حسين علاوي، رئيس «مركز أكد للشؤون الاستراتيجية والدراسات المستقبلية» وأستاذ الأمن الوطني في جامعة النهرين، قال إن «الولايات المتحدة الأميركية دولة مؤسسات، وستبقى استراتيجياتها لأمن القومي الأميركي واحدة ولن تتغير. لكن التغير سيحدث بوسائل استخدام وإدارة المصالح الوطنية الأميركية من قِبل الإدارة الفائزة». وأردف أن «كلا المعسكرين لديهم الخبرة والمنظور الاستراتيجي في إدارة الدولة». وفي حين يرى علاوي أن «المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن عهد دونالد ترمب سجل نمواً مقبولاً، فإن المواطن الأميركي المصوّت يريد مكاسب اقتصادية أكثر ما تكون سياسية». وبشأن ما يمكن أن يفعله الرئيس الفائز، يقول علاوي، إن «الرئيس الفائز ستكون له عقيدة يسعى للبوح بها خلال الـ100 يوم الأولى من عمله، وبالتالي هنا التجارب تشير إلى، هل العقيدة ستستخدم في ميل السياسة (التكتيك والمناورة) أم في اتجاه السياسة الأساسي (الاستراتيجية). ولذلك؛ نشهد ما يقال في الـ100 يوم الأولى قد يكون ميلاً سياسياً أكثر من اتجاه استراتيجي، أم العكس هو الصحيح؟». ويوضح علاوي، أن «مؤسسات الدولة الأميركية، في البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون والخارجية الأميركية ووزارة الخزانة، تحدد المسارات الاستراتيجية ومظلة عمل الاستراتيجية، ولكن يظل الرئيس، وأفكاره وعقائده في تعريف الأصدقاء والحلفاء والأعداء والمارقين، هي الفيصل في تحديد مسارات العمل للحكومة الأميركية ولن تتجاوز المصالح الأميركية قناعات المصوّتين».
- الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي»، قال إنه «بحكم غياب الرؤية والتشظّي الداخلي للطبقة السياسية، وارتهانها أيضاً لمسارات خارجية، يبدو أن الوضع العراقي مرتبك الآن وإلى حين ظهور نتائج الانتخابات... حيث إنه الآن منقسم بين الجمهوريين من جهة والديمقراطيين من جهة أخرى». ويضيف الشمري، أن «عملية الانقسام هذه ستؤثر على توجّهات العراق إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، ذلك أن قسماً من الطبقة السياسية ينظر إلى ترمب على أنه أكثر انغماساً في الشأن الداخلي العراقي لجهة الحد من النفوذ الإيراني، بينما ثمة من يرى أن بايدن وفريقه سيكونان أقل تدخلاً في الشأن الداخلي العراقي». ويبيّن الشمري أن «كلاً من نظرة ترمب أو بايدن إلى العراق هي من خلال المشكلة مع طهران، وهو خطأ كبير. وهذا على الرغم من أن الطبقة السياسية العراقية ساهمت في تعميق مثل هذه النظرة». ثم يؤكد «صعود ترمب مرة أخرى سيلقي بظلاله على القوى الحليفة لإيران، وبالتالي هي الخاسرة الأكبر، في حين أن فوز بايدن يعني أن مساحة المعادلة ستكون بمناصفة النفوذ، مع أن الأمر يبقى رهناً بما يحصل بين واشنطن وطهران». وفي المطلق، يتوقع الشمري «ثباتاً نسبياً في المواقف الأميركية باعتبار أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات. وبالتالي، فإن أي تغيير قد يحصل لن يكون على حساب مصالح الولايات المتحدة... وربما يفاجئ بايدن الجميع (في حال فوزه) ويتخذ قرارات أكثر حدة، لا سيما أنه صاحب مشروع تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث».
- الدكتور فاضل البدراني، أستاذ الإعلام في الجامعة العراقية، قال «إن انعكاسات الوضع الرئاسي في أميركا، سواءً جاء بايدن رئيساً أو ظل ترمب في موقعه، لن يطرأ عليها تغيير جوهري. وسيبقى العراق يعاني انتكاسات اقتصادية وسياسية وحتى أمنية». وتابع «إن السبب في ذلك يعود إلى أن السياسة الخارجية الأميركية محكومة بالنظام المؤسساتي، الذي لا يجعل السلطات كلها بيد الرئيس وله حرية مطلقة في التعامل مع الملفات المطروحة حسب توجهاته... هذا من حيث الثوابت في السياسات والبرامج الأميركية حيال العراق». ويضيف البدراني، أنه «مع ذلك هناك مؤشرات بأنه في حال فاز بايدن قد يذهب العراق إلى الفيدرالية وتطبيق ما طرحه قبل سنوات، في حين أنه في حال بقاء ترمب في البيت الأبيض فربما نشهد تدخلاً محدوداً يتعلق بمواجهة القوى والأحزاب المعارضة للوجود الأميركي عسكرياً ودبلوماسياً. وقد يعمل لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.