صراع أذربيجان وأرمينيا في قره باغ إلى أين؟

الاستقطابات الإقليمية تنذر باتساع نطاق الاشتباكات إلى حرب واسعة

صراع أذربيجان وأرمينيا في قره باغ إلى أين؟
TT

صراع أذربيجان وأرمينيا في قره باغ إلى أين؟

صراع أذربيجان وأرمينيا في قره باغ إلى أين؟

خيّمت سُحُب الحرب من جديد على إقليم ناغورني قره باغ بعد هدوء استمر منذ عام 2016، قبل أن يتجدد بشكل مختلف في يوليو (تموز) الماضي في منطقة بعيدة عن الإقليم المتنازع عليه والخاضع لسيطرة المتمردين الأرمن منذ تسعينات القرن الماضي.
عاد التوتر إلى جنوب القوقاز مرة أخرى، عندما قامت أرمينيا في 12 يوليو بمهاجمة أذربيجان بشكل مفاجئ، لكن بطريقة مختلفة. إذ كان مسرح الهجوم مدينة توفوز التي تقع بالقرب من ممر يصل بين أذربيجان وجورجيا وتركيا، وبجوار طرق النقل والشحن والطاقة. إذ يُنقل النفط والغاز من بحر قزوين إلى تركيا عبر هذا الممر من خلال خط أنابيب النفط «باكو - تبليسي - جيهان»، وممر الغاز الجنوبي لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا في إطار مشروع «تاناب»، بالإضافة إلى خط السكك الحديدية «باكو - تبليسي – كارص» الرابط بين الدول الثلاث. ولقد فتح هذه الهجوم الباب أمام كثير من التساؤلات، لأنه أعقب فترة هدوء وجاء بعد لقاء، عقد للمرة الأولى وجهاً لوجه خلال مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن في فبراير (شباط) الماضي، بين الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، الذي أعلن بعد ذلك عن خطط للحل السياسي للنزاع المزمن مع باكو حول ناغورني قره باغ.
الاشتباكات الدائرة حالياً، توسعت رقعتها في الأيام الأخيرة بعد أن طال القصف مدناً كبرى، بينها ستيباناكرت عاصمة إقليم ناغورني قره باغ، ومدينة غنجة ثانية كبريات مدن أذربيجان. ويتبادل الطرفان اتهامات بقتل المدنيين، في حين أعلنت إدارة الإقليم نزوح نحو نصف سكانه من الأرمن بسبب الضربات الأذرية. وراهناً، تحتل أرمينيا منذ عام 1992 نحو 20 في المائة من الأراضي الأذرية التي تضم إقليم ناغورني قره باغ المكوّن من 5 محافظات، إضافة إلى 5 محافظات أخرى غرب البلاد، وأجزاء واسعة من محافظتَي آغدام وفضولي. ولقد تسبب النزاع بين الجانبَين في تهجير أكثر من مليون أذري من أراضيهم ومدنهم؛ فضلاً عن مقتل نحو 30 ألف شخص.

اشتعال الأزمة
استمر التوتر بين أذربيجان وأرمينيا على مدى السنوات الست الماضية حول إقليم ناغورني قره باغ، الذي يشكل أساساً لصراع لن ينتهي إلا بحل النزاعات المجمدة. وكانت الاشتباكات الخطيرة والمحدودة بين القوات العسكرية للبلدين تحدث بشكل شبه يومي منذ صيف العام 2014. وظل الطرفان على حالة تأهب دائم بعد حرب الأيام الأربعة عام 2016، عندما قتل 94 أذرياً، بينهم مدنيان، و84 جنديا أرمنياً. ثم ساد نوع من السكون، تبين أنه كان هدوءاً يسبق العاصفة التي اندلعت مجدداً في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي، والتي تتوسع دائرتها حالياً لتثير مخاوف من حرب إقليمية بسبب دعم قوى إقليمية لطرف ما على حساب الآخر.
أحد أسباب اندلاع الاشتباكات مجدداً على خط الجبهة في ناغورني قره باغ أرجعته حكومة أرمينيا في يريفان إلى «التحرك التركي المكثف لدعم أذربيجان»، الذي تطور إلى استعراض قوة في مواجهة أرمينيا عبر مناورات عسكرية واسعة أجريت ليوم واحد في جمهورية نخجوان الذاتية الحكم في 5 سبتمبر. ولقد شارك في هذه المناورات 2600 جندي و200 دبابة ومدرعة و180 نظاماً صاروخياً ومدفعية وقذائف هاون، و18 مروحية وأكثر من 30 نظاماً للدفاع الجوي، لتحييد أهداف عدوة مفترضة جرى تدميرها بالصواريخ وقذائف المدفعية. ثم نفذ الجنود عمليات هجومية، وقامت الوحدات العسكرية بعمليات إنزال وسيطرة على نقاط، وتدمير مدرعات وطائرات من دون طيار تابعة للعدو. وفي نهاية المناورات، نفذت المروحيات العسكرية طلعات استعرضت خلالها العلمين التركي والأذري.
رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان اتهم تركيا بتأجيج المعارك في إقليم ناغورني قره باغ من خلال دعمها لأذربيجان. وبدورها، حذّرت إيران من تحوّل النزاع إلى «حرب إقليمية»، منددة بانتشار جماعات مسلحة عند حدودها، بعد اتهام دول عدة لتركيا بنقل عناصر من مجموعات موالية لها في شمال سوريا للقتال إلى جانب قوات أذربيجان. أيضاً دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وقف «المأساة»، وعبّر عن أمله في أن يتوقف هذا النزاع في أسرع وقت ممكن. وجاء موقف بوتين بعد قول موسكو إن نقل مقاتلين مرتزقة إلى المنطقة «ينذر بفتح جبهة جديدة للإرهاب»، وإعلانها أنها تدرس تصريحات للرئيس السوري بشار الأسد حول نقل تركيا عناصر مسلحة من الفصائل السورية الموالية لها إلى قره باغ على غرار ما فعلت في ليبيا. وحسب كلام باشينيان: «لولا التحرك الكثيف لتركيا لما بدأت هذه الحرب».

رفض التهدئة
في هذه الأثناء، جددت الأمم المتحدة مطالبتها الأطراف المعنية بضرورة الوقف الفوري للقتال على طول خط الجبهة بين أذربيجان وأرمينيا. إلا أن تركيا وقفت مع أذربيجان في صف رفض كل دعوات التهدئة ووقف إطلاق النار والتوجه إلى المباحثات بين طرفي الصراع. بل قللت تركيا من جدواها وركزت هجومها على «مجموعة مينسك» التي تقودها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا. ورأت أن دعوة «المجموعة» لوقف «غير مشروط» لإطلاق النار تساوي بين المحتل (أرمينيا) والضحية (أذربيجان). كذلك، توجه وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو إلى باكو، الثلاثاء، غداة لقائه في أنقرة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ناتو» ينس ستولتنبرغ، وهناك جدد دعم بلاده لأذربيجان والتأكيد على أن الحل الوحيد هو انسحاب أرمينيا من إقليم ناغورني قره باغ. وبينما أطلق ستولتنبرغ من أنقرة دعوة لوقف فوري لإطلاق النار، ردّ جاويش أوغلو بأن على «ناتو» أن يتصدر المجتمع الدولي في مطالبة أرمينيا بالانسحاب من أراضي أذربيجان.
في سياق متصل، أكد الاتحاد الأوروبي على لسان ممثله الأعلى للأمن والسياسة الخارجية جوزيب بوريل، أمام البرلمان الأوروبي الأربعاء، أنه لا يمكن حل النزاع في قره باغ إلا بجهود «مجموعة مينسك» (التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا)، مشدداً على ضرورة إعلان وقف إطلاق النار من الطرفين في أقرب وقت ممكن، والعودة إلى المفاوضات. ومع إقراره بأن المفاوضات خلال السنوات الـ30 الماضية لم تكن ناجحة، شدّد بوريل على أنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للنزاع. وبينما حثت الدول الغربية تركيا، الحليف القديم الوثيق لأذربيجان، على استخدام نفوذها لدى باكو لاستعادة الهدوء، ردت أنقرة بأن «على قادة العالم أن يلقوا بثقلهم خلف أذربيجان، وأن وضعها مع أرمينيا على قدم المساواة يعني مكافأة المحتل».

مخاوف الحرب الإقليمية
في المقابل، فإن روسيا وإيران اتخذتا موقفاً مخالفاً للموقف التركي. إذ طالبتا بوقف إطلاق النار وحذرتا من نشوب حرب إقليمية وظهور بؤرة إرهابية جديدة في منطقة القوقاز، في إشارة إلى تأكيد كثير من الدول على قيام تركيا بنقل مرتزقة سوريين للقتال في ناغورني قره باغ إلى جانب أذربيجان، على غرار ما فعلت في ليبيا لدعم «حكومة الوفاق الوطني» في طرابلس.
من جهته، حاول الرئيس الأذري إلهام علييف تهدئة مخاوف إيران، مؤكداً لنظيره الإيراني حسن روحاني، في اتصال هاتفي بينهما الأربعاء، أن قواته سيطرت على مناطق محاذية لإيران وتنوي إقامة مراكز حدودية ونشر حرس الحدود. وبدوره، شدد روحاني على أن بلاده لن تتساهل مع وجود «إرهابيين» على حدودها بسبب نزاع ناغورني قره باغ، محذراً من تحوله إلى «حرب إقليمية». أيضاً قال روحاني، في كلمة متلفزة خلال اجتماع للحكومة الإيرانية: «من غير المقبول بالنسبة لنا أن يرغب البعض بنقل إرهابيين من سوريا وأماكن أخرى إلى مناطق قريبة من حدودنا تحت ذرائع مختلفة. كنا واضحين في إبلاغ جارتينا أذربيجان وأرمينيا بذلك... لا يجوز أن تتحول هذه الحرب إلى حرب إقليمية. الذين يقومون، من جهة أو أخرى، بصب الزيت على النار، لا يخدمون أحداً. يجب على الجميع القبول بالحقائق، القبول بحقوق الأمم، واحترام وحدة أراضي الدول».
من جهته، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الأذري علييف إلى وقف «المأساة» الجارية التي لا يوجد أي مؤشر على تراجع حدتها. واعتبرها الزعيم الروسي «مأساة هائلة. هناك أناس يموتون. نأمل أن يتوقف هذا النزاع في أسرع وقت ممكن»، وقال لعلييف إنه «إن كان من غير الممكن وقف هذا النزاع بشكل نهائي، لأننا بعيدون عن ذلك، فإننا ندعو على الأقل، وأشدد على ذلك، إلى وقف لإطلاق النار»، مؤكداً أنه «ينبغي تحقيق ذلك في أقرب وقت ممكن». وبالفعل، وفي مقابل تأكيد تركيا دعمها لأذربيجان، أبدى رئيس الوزراء الأرميني «ثقته بأن روسيا ستساعد بلاده إذا ما تعرضت لهجوم مباشر». ومعلومٌ أن أرمينيا ذات الغالبية المسيحية، تنضوي في تحالف عسكري يضم دولاً سوفياتية سابقة بقيادة روسيا، التي تملك قاعدة دائمة في أرمينيا، لكنها لم تبدِ رغبة في التصعيد العسكري.
هذا، ووفقاً للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، يجب على القوات المحتلة الأرمينية مغادرة منطقة قره باغ، لكن الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا ليست متحمسة لفكرة انسحاب الأرمن. ويعتقد الخبراء أن سبب تساهل الدول الثلاث في التعامل مع أرمينيا، مرده نفوذ الشتات الأرمني الكبير الذي تستضيفه الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.

الصمت الأميركي
وفي المشهد الدولي أيضاً، مع تواصل الاشتباكات في ناغورني قره باغ وتصاعد احتمالات تحولها إلى حرب شاملة، تثور تساؤلات بشأن الصمت الأميركي غير المعتاد، الذي يرجعه مراقبون «جزئياً» إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكن الأمر قد يحمل دلالات أكثر عمقاً بشأن الدور الأميركي على المسرح الدولي.
كاري كافانو، السفير الأميركي السابق الذي كان مكلفاً بالمساعدة في حل النزاع بين الجمهوريتين السابقتين في الاتحاد السوفياتي (أذربيجان وأرمينيا) عبّر عن الحزن، ليس بسبب تجدد الاشتباكات في حد ذاته، وإنما لرؤيته تراجع الدور القيادي لبلاده على المسرح الدولي. إذ إن ذلك النزاع الذي يرجع أصله لنحو قرن من الزمان أدى لتشكيل لجنة من الأمم المتحدة عام 1993 تضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا بهدف المساعدة في حسم الصراع بالطرق الدبلوماسية، في إطار «مجموعة مينسك»، لكن الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت قبل أسبوعين تشهد غياباً أميركياً كاملاً عن المشهد.
كافانو، الذي تحدث لصحيفة «التايمز» البريطانية، قال إن الولايات المتحدة لم تشارك في المناقشات ولا التنسيق ضمن اللجنة المعروفة باسم «مجموعة مينسك». وبذا ينضم السفير الأميركي السابق إلى مجموعة من المراقبين يرون في هذا الغياب تراجعاً للدور الأميركي على المسرح الدولي منذ وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض ورفعه شعار «أميركا أولاً».
وبدوره، تهكم توماس دي فال، الباحث البارز في معهد كارنيغي - أوروبا، على موقف واشنطن، قائلاً: «إن الأميركيين انسحبوا من تلك القضية، ولو كان ترمب سمع عن أذربيجان من الأصل، فالسبب هو أنه أراد بناء أحد أبراجه على أراضيها»، في إشارة لجهل الرئيس الأميركي بالمنطقة وأسباب الصراع فيها بين البلدين. وحقاً، كان صمت إدارة ترمب لافتاً بالفعل، حتى إن وزير الخارجية مايك بومبيو لم يعلق على الاشتباكات التي أوقعت عشرات القتلى، بينهم كثير من المدنيين، إلا عندما سئل عنها خلال إحدى مقابلاته التلفزيونية وكانت إجابته محايدة تماماً ولم تحمل أي التزام بمحاولة التدخل.
واللافت أنه منذ وصول ترمب إلى البيت الأبيض، انسحبت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان من قضايا دولية، بعكس الإدارات السابقة، وخاصة في المناطق التي تقع ضمن نطاق التأثير الروسي. وتجنب ترمب إصدار أي بيانات قد تزعج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يعود الانسحاب الأميركي من النزاع بشأن إقليم ناغورني قره باغ، الذي تحتله أرمينيا منذ 30 سنة، وهو سبب الصراع في المنطقة، والذي تصر أذربيجان على تحريره، إلى أغسطس (آب) عام 2017. أي في العام الأول لترمب في البيت الأبيض، عندما عيّنت الإدارة ممثلاً جديداً لها في «مجموعة مينسك»، هو أندريه شوفر، ولكن من دون أن تمنحه لقب سفير ما جعله أقل رتبة من نظيريه الروسي والفرنسي.
واعتبر كافانو في ذلك خطراً كبيراً على الجهود الدبلوماسية في منطقة مضطربة وتشهد نزاعاً مسلحاً ممتداً؛ حيث إن الحفاظ على التوازن في التعامل مع القضية من الجانب الأميركي يعطي ثقة لأذربيجان وأرمينيا في حيادية وجدية «مجموعة مينسك». أما هذا التراجع الأميركي فقد أعطى إشارات خاطئة كانت نتيجتها تجدد الاشتباكات المسلحة.

مكمن الخطورة
تدعم روسيا أرمينيا، بالأساس، رغم أنها الطرف المعتدي والرافض لـ4 قرارات أممية تطالبها بالانسحاب من الإقليم وأراضي أذربيجان الأخرى التي تحتلها، والتي تبلغ 20 في المائة من مساحة أذربيجان. وبالتالي، كان الدور الأميركي يمثل توازناً مطلوباً لإقناع الجانبين بالتوصل لتسوية سلمية للنزاع.
وبإضافة الانحياز الفرنسي لأرمينيا في الاشتباكات الدائرة حالياً لأسباب لا علاقة لها بأذربيجان بشكل مباشر، بل لموقف شخصي للرئيس إيمانويل ماكرون المعادي لتركيا ورئيسها رجب طيب إردوغان، يصبح الانسحاب الأميركي أكثر خطورة. لأن هذا الوضع لا يترك مجالاً للدبلوماسية، بل يهدد بتحول الاشتباكات إلى حرب شاملة قد تنضم لها قوى إقليمية أخرى كتركيا الداعمة لأذربيجان وروسيا وإيران الداعمتين لأرمينيا في صراع معقّد ومتشابك الجذور.
ومكمن الخطورة في صراع ناغورني قره باغ هو أن الحدود بين أذربيجان وأرمينيا هي أكثر المناطق تسليحاً وسخونة في أوروبا والعالم. ومع وجود مصالح لروسيا وإيران وتركيا، فإن استمرار الاشتباكات الحالية وتطورها قد يدفع الأمور للخروج عن السيطرة كما حدث في الحرب العالمية الأولى لينقلب الصراع الثنائي إلى نزاع إقليمي واسع.
وللعلم، تعد منطقة جنوب القوقاز شرياناً حيوياً للغاز والنفط من أذربيجان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا وباقي أسواق العالم. وتوفر أذربيجان نحو 5 في المائة من حاجة أوروبا من النفط والغاز وتساعد على تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على روسيا. وعام 2016 كادت الاشتباكات في المنطقة تصل إلى عدد من خطوط الأنابيب، وهو ما تكرر في الحرب الحالية.



ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».