حين تنعزل الذات تنتفخ القصيدة

شعراء تقمّصوا أدواراً أكبر من أحجامهم

الجواهري - عبد الله الغذامي
الجواهري - عبد الله الغذامي
TT

حين تنعزل الذات تنتفخ القصيدة

الجواهري - عبد الله الغذامي
الجواهري - عبد الله الغذامي

يروي أحدُ العراقيين الذين طلبوا اللجوء في كندا أنه في الأيام الأولى أدخلوهم في معهد لتعلم اللغة، وكانوا من جنسيات شتى. يقول هذا العراقي: «بدأ الأستاذ يسألنا واحداً واحداً: من أي بلد أنت؟ ليتعرف علينا، وعلى ثقافاتنا، وحين وصل الدور إليّ، أجبته بأنني قادمٌ من أعظم نهرين في العالم. استغرب الأستاذ إجابتي فأعاد عليّ السؤال، وأعدتُ الجواب نفسه، فقال لي: ماذا يعني أعظم نهرين؟ بدأت أشرح له عن دجلة والفرات، وحين أكملتُ قال لي الأستاذ: ابني، نحن هنا في كندا لدينا 600 نهر مثل هذين النهرين، فضلاً عن المحيطات والبحار التي تُحيط بنا، ولكننا لا نجرؤ أنْ نقول إن هذه الأنهر عظيمة». أردتُ أنْ أورد هذه الحكاية لتكون مدخلاً لانتفاخ القصائد لدى عدد من الشعراء، وواقع الحال أنَّ صاحبنا الذي لجأ إلى كندا لم يرَ العالم من قبل، ولم يكتشف أناساً مختلفين عنه وعياً وثقافة، هو ابن العزلة، لذلك أنتج مثل هذا الخطاب الأحادي والدوغمائي.
المشكلة في الشعر لدينا مشكلة مزدوجة، لأن الشاعر يُخلق بيننا وهو يشعر أنَّه متفوق على أقرانه، وأنَّه منّة بعثها الله لهذه الأمة، لذلك قديماً ذبحوا له الإبل، وأقاموا الولائم حين يولد شاعر في قبيلة ما.
ورغم تغيُّر الزمان والسلطان والناس، لكن الشعر بقي يكتنز مثل هذه الأدوار الرسالية، وبقي الشاعر متقمصاً دوراً ربما أكبر من حجمه الطبيعي، منتشياً بقرقعة اللغة، وضجيجها، في بعض الأحيان، وهكذا بقي الشاعر منتفخاً بذاته المتعالية، وفارشاً ريش جناحه أينما ذهب، ولا نريد أنْ نتحدث عن المتنبي، وماذا شكلت ذاته من تعالٍ كبير في الشعر، فهو في حد ذاته مدرسة للانتفاخ، وحين نفتح دفاتر الشعر العراقي الحديث، نجد عشرات الحكايات عن الجواهري، وعن شعره الذي رهن ذاته عالياً معها، رغم أنَّه كان مع الجماهير ومطالبهم.
شاخ الجواد، ولم تزل، تعتامه صبوات مهرِ
طلق العنان، فإنْ كبا، نفض العنان، وراح يجري
سبحان من جمع النقائض في من خيرٍ وشرِّ
عندي كفاف حمامة، وإذا استثرتُ فجوعُ نمرِ
الجواهري بعمر السبعين، عمر الحكمة والمراجعة للذات، يكتب بهذه الطريقة، وبهذه الروحية الجارحة، وأنا لا أتحدث الآن عن فنية العمل الشعري وجودته، فهذه مسألة أخرى، فعلى الرغم من التحول الكبير الذي أحدثه السياب في خطاب الشعر بكامله، وتحوُّل مرآته إلى أشد حالات النفس انكساراً وحزناً وشكوى، لكنه لم يستطع بخطابه الانكساري لجوهر الشعر أنْ يعمم نموذجه على الأجيال التي تلته، فما إنْ بزغ نجم الستينيين إلا وتوهجت لديهم فكرة أنْ يأخذوا دور الأنبياء، وأنْ يصلحوا العالم، فامتلأت دواوينهم بالشعر الرؤيوي، وبالنصائح المغلّفة باستعارات، وبأقنعة متعددة؛ ذلك أنَّهم حاولوا أنْ يُعيدوا الروح المنتفخة لذات الشاعر، ولكنها ذاتٌ حداثية هذه المرة، وهو ما أشار إليه الشاعر فوزي كريم في مُفتتح كتابه «ثياب الإمبراطور» عن مرايا الشعر الخادعة، حيث تساءل عن كيفية انبثاق شعر حداثي من بيئة متخلفة، وواضح ما أفصح عنه بيان 69 حيث يقول في بعض فقراته «لقد آن للقصيدة العربية أنْ تغيّر العالم من خلال نسف أضاليل الماضي والحاضر، وإعادة تركيب العالم داخل رؤية شعرية جديدة»، هذا في بعض من توجهاتهم التنظيرية، أمَّا شعرهم فغارقٌ بهذه الروح الرؤيوية، التي تنبئ بأنَّ شاعرها شخصٌ رساليٌّ، وأنَّ قصيدته هي بنت المستقبل الذي يرى، ولا مشكلة في هذا التوجه، لأنَّ الحداثة ربما فتحت شبابيكها، فدخلت مغذياتٌ جديدة للذات، يختفي خلفها الشاعر، في أقنعة تاريخية، وشخصيات عظيمة، يبث من خلالها الشاعر ما يشاء من همومه المعاصرة، والأمثلة عديدة وكثيرة جداً، لا مجال لذكرها في هذه المقالة، ولكنّ المشكلة الكبرى في الموضوع هي في خطاب الجيل التسعيني، أعني أنا وزملائي وأصدقائي الشعراء، حيث كنَّا نعيش أيام الحصار، والجوع، والعزلة عن العالم، في حين كانت قصائدنا في تلك الفترة تشبه النهرين العظيمين في فم اللاجئ العراقي، فحين أسمع وليد الصراف أشعر بمدى تفوق اللغة، ولكن في نفس الوقت أشعر بعزلتنا عن العالم حيث يقول:
البرق من ريبتي، والرعد من حنقي
والنسم من هدأتي، والريح من قلقي
والبحر من غيمتي، أمواجه ولدتْ
من حكمتي صمته، والغيظ من نزقي
ولا يطلُّ الضحى ما دمت في سِنة
ولا يطول الدجى، ما لم يطل أرقي
والشمس لو أبطأتْ في أفقها كسلاً
لجرَّها نحوه من شعرها أفقي
ولا أعرف بصراحة أمام هذا النص، وهو طويل نسبياً، وعلى نفس هذه الوتيرة من الذات العالية المتحكمة بالعالم كله وبحركته وسكونه، كأنَّه يضع نفسه بدلاً عن الإله، وأنا أذكر كتابة هذه القصيدة في بداية التسعينات، حيث يضغط كل شيء على العراق بجوعه وعزلته، ونحن لا حول لنا ولا قوة، وقد كان «صدام» يسوق الشباب إلى المعسكرات حتى في عطلهم الصيفية، ولا يستطيع أحدٌ أنْ يسأله سؤالاً، فضلاً عن الاحتجاج، وحين أبصر مثل هذا النص فأنا أمام حالة عزلة حقيقية يعيشها الشاعر، حيث يتحكم في اللغة فقط، ولكن الواقع بمنأى عنه، والغريب أنَّ هذه الظاهرة متفشية في معظم الشعر التسعيني الموزون، وفي البدايات تحديداً يعني في أشد حالات العراق خنقاً للحريات، وفي أشد مراحل جوع العراقيين، وفي أقسى مراحل العزلة عن العالم كله، فيما نصوصنا كانت منتفخة، كأنَّ العالم بأيدينا، نحركه كيفما نشاء.
إنها الروح المتعالية التي تتقمص الأجواء الدينية، وتلتف بالطقوس المقدسة، التي يكيلها الشاعر لذاته، بوصفه سماءً لكل هذه الطقوس، من طُهر وبراءة ونقاء. فمثلاً، نجد في نصوص عديدة للشاعر حسين القاصد هذه الذات المتعالية، التي بقيت على عادتها من أيام الحصار إلى ما بعده، وانفتاح العراق على العالم، نصوص تدور في فلك الذات التي لا ترى إلا نفسها. يقول:
وصرت شعاراً صرت آمال أمة
وصرت حطاماً في نهايات مشهدي
أنا سرمديُّ الآه أحتاج أمة
لفرحي فمن مثلي مع الآه سرمديّ؟
أقلّدني دوماً وغيري مقلِّد
لظلِّي، وظلِّي بعض نصف مقلِّدي
وما زلت قيد النخل والماء واللَّظى
أنا قاصد النهرين والطُّهر مقصدي
وواضح ما لهذا النص من تصريح عالٍ بانتفاخ القصيدة التي لا تدع مجالاً للتأويل، فبعض المرات قد يتقمص الشاعر روح الأمة أو البلد فيصرح باسمها ويختفي خلف عظمتها، ولكن هذا النص لا يدع مجالاً للتأويل لأنه تصريح واضح باسم الشاعر القاصد، وهناك نصوص أخرى لأصدقاء وزملاء مجايلين لنا، لا تنفك قصائدهم تتغزل بذاتها حتى تصل إلى مرحلة الانتفاخ، ومنهم الشاعر نوفل أبو رغيف، حيث يقول في «ضيوف في ذاكرة الجفاف»:
نثرت على الرياح عبير جرحي
فلقحت السحائب والفصولا
سمعت العمر يشكو إنَّ ليلا
على أكتافه أرخى السدولا
فجئتُ ألملم المدن السبايا
وأزرع حول لمّتها نصولا
وأعيد ما ذكرته في بداية المقالة من أن رؤية هذه المقالة لا تعالج الجانب الفني من الاستعارات ومن البناء المحكم والعالي، إنما تعالج خطاب هذه النصوص وما تحتويه من رؤية ارتبطت في مرحلة من مراحل العراق، وهي لا تختلف كما أظن عن الخطاب السياسي في تلك المرحلة، حيث يهدد العالم بالنسف والموت وكل شيء، فيما كان النظام خاوياً على عروشه، أو أنه يهدد يومياً بتحرير فلسطين، فيما كانت خطوط الطول والعرض قد قصمت شمال العراق كاملاً وأخرجته من سيطرة بغداد.
ولكي أكون منصفاً فأنا لم أكن مختلفاً عن أبناء جيلي في هذه النزعة، وأتذكر أن اتحاد أدباء فلسطين في دمشق، عمل لي ولشعراء عراقيين أمسية في نهاية 2003 وقد قرأتُ وقتها قصائد عنترية، منها:
آتٍ إلى وإنْ لفَّ السنينَ كرى
وإنْ غفا هاجسي في الريح أو عثرا
آتٍ وفي مقلتي فجرٌ وفي شفتي
هذا الذي يغزل الأنهار والشجرا
آتٍ ألمُّ عيون الشمس، حيث رمتْ
عيونها، وأدارتْ خدَّها صعرا
آتٍ لأزرع في أنفاسها مقلاً
كي يعلموا أنَّ شمس الجائعين ترى
وقد أُعجب الجمهور كثيراً بالقصيدة، ولكن بعد انتهاء الأمسية جاءني أحد الحضور وسألني: كيف تكتبون مثل هذا الشعر ذا الروح العالية، ونحن نعيش في بلدانٍ مُحتلة؟
وبصراحة كان سؤاله أشبه بالصدمة الكهربائية، التي جعلتني أبتعد قدر المستطاع عن هذه الطريقة في الكتابة، إذ من غير المعقول والمنطقي أنْ نعيش حياة أقلَّ من عادية، فيما نكتب شعراً يناطح السحاب، ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً، فأي غربة كنَّا نعيشها نحن الشعراء، وهي غربة لغوية بالأساس، إذ نعيش داخل الكلمات فقط، لذلك لم تصب تلك الكلمات بشمس الواقع، قدر ما كانت مبللة بأصوات المتنبي، والجواهري، وعبد الرزاق عبد الواحد، وأعتقد أنَّ هذه الظاهرة تحوَّلت في ما بعد إلى سؤال النقد الثقافي المركزي، ونسقه المضمر الذي تفتّح على يدي الدكتور عبد الله الغذامي.



افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
TT

افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

نحو إثراء المشهد العالمي لفنون الوسائط الجديدة عبر تقديم وجوه إبداعية من المنطقة، تجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والابتكار، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل أبوابه رسمياً، اليوم (الثلاثاء)، بوصفه أول مركز مخصص لفنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، متخذاً من منطقة الدرعية التاريخية المسجّلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي موقعاً له.

ويأتي المركز في مبادرة تجمع بين وزارة الثقافة، وهيئة المتاحف، وشركة الدرعية في السعودية، في الوقت الذي انطلق ببرنامج متنوع يشمل أنشطة ومعارض فريدة ومبادرات تفاعلية مع الجمهور، مع التركيز على تمكين الفنانين والباحثين ومتخصصي التكنولوجيا من داخل المنطقة وخارجها، في بيئة إبداعية مجهزة بأحدث المختبرات والاستوديوهات الرقمية ومساحات العرض المبتكرة.

وقالت منى خزندار المستشارة في وزارة الثقافة السعودية إن «مركز الدرعية لفنون المستقبل يجسّد التزامنا بتطوير الإنتاج الفني المبتكر واحتضان أشكال جديدة من التعبير الإبداعي، فمن خلاله نسعى إلى تمكين الفنانين والباحثين ودعمهم لإنتاج أعمال بارزة والخروج بأصواتهم الإبداعية إلى الساحة العالمية».

وأشارت إلى أن المركز سيُوظّف مساحاته للتعاون والإبداع لترسيخ مكانة المملكة في ريادة المشهد الثقافي والتأكيد على رؤيتها في احتضان أشكال التعبير الفني محلياً وعالمياً.

من جانبه، بين الدكتور هيثم نوار مدير مركز الدرعية لفنون المستقبل أن افتتاح المركز يمثّل منعطفاً في السردية القائمة حول فنون الوسائط الجديدة، لكونه يخرج بالمرئيات والتصوّرات الإقليمية إلى منابر الحوار العالمية.

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

وقال: «إن المركز سيتجاوز حدود الإبداع المتعارف عليها نحو آفاق جديدة، وسيقدّم للعالم مساحة للابتكار والنقد الفني البنّاء عند تقاطع الفن والعلوم والتكنولوجيا».

وتتزامن انطلاقة مركز الدرعية لفنون المستقبل مع افتتاح معرضه الأول بعنوان «ينبغي للفنّ أن يكون اصطناعياً... آفاق الذكاء الاصطناعي في الفنون البصرية» خلال الفترة من 26 نوفمبر (تشرين ثاني) إلى 15 فبراير (شباط) المقبل، حيث يستكشف المعرض، الذي أشرف عليه القيّم الفني جيروم نوتر، تاريخ فن الحاسوب منذ نشأته في ستينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، من خلال أعمال فنية متنوعة تحمل توقيع أكثر من 30 فناناً إقليمياً وعالمياً.

وسيحظى الزوار بفرصة استكشاف أعمال من صنع قامات في الفن أمثال فريدر نايك (ألمانيا) وفيرا مولنار (هنغاريا/فرنسا) وغيرهما من المُبدعين في ميادين الابتكار المعاصر مثل رفيق أناضول (تركيا) وريوجي إيكيدا (اليابان).

وسيكون للفنانين السعوديين لولوة الحمود ومهند شونو وناصر بصمتهم الفريدة في المعرض، حيث يعرّفون الزوّار على إسهامات المملكة المتنامية في فنون الوسائط الجديدة والرقمية.

وبالتزامن مع الافتتاح، يُطلق المركز «برنامج الفنانين الناشئين في مجال فنون الوسائط الجديدة»، بالتعاون مع الاستوديو الوطني للفن المعاصر - لوفرينوا في فرنسا. ويهدف البرنامج، الذي يمتد لعام كامل، إلى دعم الفنانين الناشئين بالمعدات المتطورة والتوجيه والتمويل اللازمين لإبداع أعمال متعددة التخصصات.

وأعلن المركز عن برنامج «مزرعة» للإقامة الفنية، المخصص لفناني الوسائط الرقمية، في الفترة من فبراير (شباط) حتى أبريل (نيسان) 2025، ويهدف إلى استكشاف العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا والمجتمع من خلال موارد المركز.

ويجسد مركز الدرعية لفنون المستقبل «رؤية السعودية 2030»، التي تسعى إلى تعزيز الابتكار، والتعاون العالمي، وترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة رائدة في الاقتصاد الإبداعي العالمي.