مات صالح بشير موتين وعاش حيوات كثيرة. وفاته الأولى كانت رحيل نجله الشابّ التي مهّدت للوفاة الثانية - رحيله هو. لكنّ كلّ مدينة كان يسكنها كانت حياة أخرى يحياها، وصالح عاش في مدن عدّة. فهو لا يزور الأمكنة، بل يستقرّ فيها ويستوطن، مدقّقاً في تفاصيلها الصغرى، نافذاً إلى ما خلف جدرانها وواجهاتها، مشكّكاً برواياتها السياحيّة عن نفسها، مولعاً بالبلوغ إلى المخفيّ من تناقضاتها.
لقد فعل هذا في بغداد والجزائر وبيروت وباريس وروما والدار البيضاء، ولا بدّ أنّه فعل الشيء نفسه في تونس التي عاد إليها بعد تغريب وتشريق طويلين، إلا أنّه غادر دُنيانا قبل أن يُخبرنا شيئاً عمّا نقّبه هناك.
وأغامر بالقول إنّ هذا الإنسان الكبير الآتي من الغموض إنّما شكّلته المدن. فتحوّلات المدينة وتقلّباتها وتعدّد أوجهها كانت تعصمه عن ثبات وثبوتيّة لم يكنّ لهما شيئاً من الودّ. هكذا مارس حبّه للأشياء عن طريق الشكّ والمساءلة الدائمين. وفضلاً عن تكوينه الفضوليّ، كان وراء ذلك، فيما أظنّ، صدوره عن الهزائم والإحباطات التي عرفها جيلنا، في بلده وفي البلدان التي قصدها، وعن انهيار المنظومات الفكريّة الكبرى، ما قلّص اليقين عنده وأعطى للشكّ جناحين عريضين.
هكذا بات الخبر الأساسيّ عن صالح يدور حول فكرة نبذها أو فكرة طوّرها أو فكرة كيّفها على فكرة أخرى. خارج هذا المدار، كان من الصعب أن يُعرف شيء عنه: عن أهله، عن أحواله العاطفيّة، عن أصوله. فهو، بكثير من الكبرياء، أحكم الإقفال على نفسه، بحيث بدا التعرّف إلى نزر يسير من حياته مشروطاً بحصول مأساة كوفاة نجله. وليس من المبالغة القول إنّ صالح كان المَنفيّ، بألف ولام التعريف، وكان المنشقّ الكامل. إلا أنّه من النادرين الذين لم يتبجّحوا بالكلام عن نفيهم، وربّما لم يكتب حرفاً واحداً عن المنفى.
حين أقام في بيروت لم أعرف إلا بعد عامين أين يسكن بالضبط، وعلى امتداد سنوات الصداقة بيننا، نادراً ما سمعته يتحدّث عن أغانٍ يحبّها، أو أكلات يستطيبها، أو صعوبات مادية يواجهها، وهو عاش في مواجهة صعوبات كهذه، حتّى إنّ صديقاً، بات هو الآخر في عداد الموتى، تساءل ممازحاً: هل أنتم متأكّدون من أنّ صالح بشير هو الاسم الحقيقيّ لصالح بشير؟ فصالح كان قد ترك في تونس اسمه الحقيقيّ، صالح صلّوحي، كما لو أنّه ينسلخ عن كلّ ما ورثه وأعطي له، مخترعاً هويّته كلّها بيديه.
فوق هذا فغريب الغرباء الذي كانه، لم يُعرف بكثرة الأصدقاء، وأزعم أنّ حظّاً كبيراً حالفني بأنّني كنت واحداً من أصدقائه القلّة. ذاك أنّ الأسباب التي ردعته عن تكثير الأصدقاء هي نفسها التي حفّزتْه على مصادقة المدن والكتب. فالمعرفة عنده لا تتحصّل إلا في تجربة شخصيّة حميمة، وأكاد أقول سرّيّة، لا يسمع أحد صوتها، ولا يشوّش عليها صوت أحد. وصالح كان، في المدينة، يسبر الشوارع وحده، متنفّساً حرّيّته، هو الكائن الحرّ، مُعزّزاً ما تلتقطه العين بكتاب أو كتابين قرأهما حول ما يشاهده أو ما تحمله قدماه إليه. وفي هذا وفي سواه كان كاتباً أوّلاً وأخيراً. فهو لم يعمل بغير الكتابة مطلقاً، لكنّه قبل هذا وبعده، كان يعيش ككاتب ويهاجر ككاتب ويتحدّث ككاتب، وككاتب لازمه السعي دائماً إلى الحرّيّة وتوسيع مساحاتها.
هذا الكاتب المحض كان في ما يكتبه يحترف كسر المألوف والمتّفق عليه، فلا تقنص عينه إلا المسكوت عنه أو المُحال إلى الهامش. لا يستعرض ما يقرأه أو يعرفه، هو الصَموت والخجول الذي بالكاد يُعثَر على صورة فوتوغرافيّة له، ولا يستشهد بما قاله أو كتبه، ولا يسعى متوسّلاً به إلى موقع أو منصب، ولا يحاول لفت النظر إليه باستفزاز أو بادّعاء أو بحركة نافرة، لكنّ النظر يلتفت إليه كلّما جدّ الجدّ. فعند الحديث، مثلاً، عن بلد ما، كان يصمت ويستمع، فإذا ارتكب واحد من أبناء البلد خطأ مهولاً، أو تبجّح متشجّعاً بأنّ سامعه تونسيّ غريب، علّق صالح بعبارة أو عبارتين هادئتين تعيدان الأمور إلى نصابها.
وكان، في كتاباته، كثير الأسئلة، قليل الأجوبة، لا سيّما القاطع منها، مقيماً دوماً على تخوم الفلسفة، وفي الآن نفسه مكثّراً في نصوصه كلمات كـ«قد» و«ربّما» و«لعلّ». وهو كان ينفذ، إذا ساجل، إلى قلب المنطق الذي يساجله، هابطاً إلى ما تحت الكلام، وحائكاً فكرته كما يحيك المهرة من صانعي السجّاد سجّادهم، بلا خطابة ولا إنشاء ولا ديماغوجيّة أو شعبويّة. ولا أبالغ إذا قلتُ إنّ دقّة المفردة في مقالة صالح تجعل استبدال أيّ مرادف لها بها يسيء إلى المعنى الذي قصده.
مع هذا فصالح لم يكن حالة فكرانيّة. فهو أحد أكثر من عرفتهم امتلاءً بالمشاعر، وأظنّه كان من صنف أولئك الذين يخافون فيضان مشاعرهم بما يطيحهم، فيغدون رقباء عليها، قامعين لتعبيرها، كما يخشون أن يُثقلوا بها على الآخرين. وهو لم يكن يضنّ بوقته أو بماله القليل، الذي يستحيل أن يكثر، على صداقة وصديق. وأذكر حين زرته في روما كيف تحوّل إلى «دليل ثقافيّ» إذا جاز التعبير، فرُحنا نمشي معاً لنهارات طويلة «فوق الإمبراطوريّات»، كما كان يحبّ أن يقول.
وكانت «إمبراطوريّة» إسرائيل وظلّت حرقة صالح الأولى، لا بالمعاني النضاليّة المبتذلة والسائدة للكلمة، لكنْ كتحدٍّ تجتمع فيه جملة من الأسئلة السياسيّة والفكريّة التي تدفعنا إلى التنقيب في أنفسنا والتنقيب في العالم وفي موقعنا كعرب منه. ومثلما دفعه الاقتراب من هذا التحدّي إلى بيروت، في زمن المقاومة الفلسطينيّة، فهو ما حمله على تعزيز اهتمامه بالمشرق ودوله وعصبيّاته، مُستفتياً جدّه التونسيّ الكبير ابن خلدون. ولم يكن اهتمام صالح بالعالم والعولمة أقلّ، لا سيّما في المرحلة البوشيّة الممتدّة ما بين ضربة بن لادن وحرب العراق. فآنذاك كانت تُرسم للعالم خريطة ظُنّ أنّها وريثة الخريطة التي رسمتها الحرب الباردة، أمّا نحن فلم يكن واضحاً أي مرتبة من مراتب العبوديّة ستُكتب لنا، وأيّ «دعم» سوف نقدّمه طائعين لذاك الانتساب الجديد.
وما يضاعف الألم بفَقد صالح، الذي كان من عشّاق مراحل الانتقال، أنّه لم يعش المرحلة الانتقاليّة الكبيرة للثورات العربيّة التي افتتحتها ثورة بلده. وأتخيّله لو عرف تلك المرحلة لقدّم إضافات بالغة الجدّيّة إلى فهمنا أنظمةَ الاستبداد ومصادر قوّتها وضعفها، فضلاً عن أحوال مجتمعاتنا على تفاوتها.
والحال أنّ المقالات المنشورة هنا، التي تغطّي الطور الأخير من حياة صالح، تنمّ عن راهنيّة مدهشة توسّع قدرتنا على افتراض ما كان ليقوله لو بقي بيننا. ولا أكتم ما أصابني من ألم لدى قراءتي الثانية لهذه المقالات، وبعضُها كنتُ أنا ناشره، وهو ألم شخصيّ وفكريّ لم يخفّف منه إلا شيء واحد: إنّ الجهد النبيل والمضني الذي بذله الصديق عبد الله الحلاق، بجمعه هذه المقالات وترتيبها وتبويبها، قد يمنح صالح حياة أخرى تضاف إلى حيواته الكثيرة.
- النصّ أعلاه مقدّمة لكتاب سوف يُنشر قريباً ويضمّ بعض مقالات الكاتب الراحل صالح بشير. الكتاب سيصدر
عن «منشورات المتوسّط» في ميلانو، إيطاليا، بعنوان «أوطان الأمر الواقع».