بدا المشهد لافتاً في جمهورية بيلاروسيا السوفياتية السابقة خلال الأيام الأخيرة. إذ اهتزت البلاد بقوة على وقع أوسع احتجاجات تخللتها مظاهر عنف واستخدام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين، وترافقت مع تزايد الضغوط الخارجية عبر التلويح بعقوبات غربية جديدة ضد السلطة الحاكمة في عاصمتها مينسك.
هذه التطورات أعقبت الإعلان عن فوز كبير للرئيس ألكسندر لوكاشينكو وظفره بولاية رئاسية جديدة تكرسه رئيسا مدى الحياة، وهو الذي تربع على عرش السلطة منذ العام 1994. ليغدو، بالتالي، الزعيم الأطول بقاءً في السلطة في الفضاء السوفياتي السابق.
لم تحمل نتائج الانتخابات في جمهورية بيلاروسيا (روسيا البيضاء) السوفياتية السابقة مفاجأة لأحد. إذ حصل «الأب» - كما جرت العادة على تسميته - من جانب مؤيديه على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين في انتخابات مثيرة للجدل أجريت يوم الأحد الماضي، وسط غياب مراقبين دوليين وتصاعد سخونة الوضع الداخلي، ولا سيما، مع الإعلان «الرسمي» عن إحباط «مؤامرات خارجية» تهدف إلى قلب الأوضاع في البلاد.
أيضاً، لم يحمل جديداً، التنكيل بالشخصيات المعارضة واعتقال أربعة من المرشحين المنافسين على مقعد الرئاسة بتهم المشاركة في المؤامرة الخارجية.
أما الجديد حقاً فكان في تصاعد مزاج التذمر الشعبي، وانطلاق احتجاجات غير معهودة في حجمها، بل وفي طبيعة الشعارات التي رفعتها، ما جعلها تطوراً استثنائياً في صغرى الجمهوريات السلافية السوفياتية السابقة الثلاث - بعد روسيا وأوكرانيا - التي لم تشهد منذ عقود أي اضطرابات أو تغييرات تُذكر.
المثير أن الاستخدام الواسع للعنف ضد المتظاهرين، والإعلان عن اعتقال آلاف الناشطين، والدفع نحو نشر قوات الجيش في المدن، واتخاذ تدابير غير مسبوقة على الحدود، وملاحقة وسائل الإعلام واحتجاز موظفيها، بما في ذلك إعلاميون مستقلون من بلدان أخرى، بينها روسيا. ولكن كل ذلك، لم يؤتِ النتائج المرجوة على صعيد ضبط الموقف وإنهاء حالة الاحتجاج. بل على العكس من ذلك، دفع إلى اتساع رقعة الاحتجاجات، وظهور وضع غير مسبوق في البلاد، من خلال إعلان استقالات لعسكريين ومدنيين على شبكات التواصل الاجتماعي في مشهد ذكر بالوضع في بعض مناطق الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا في بداية أزمتها الدامية.
هذا الوضع المضطرب تزامن مع الإعلان عن «رحيل طوعي» لزعيمة المعارضة البيلاروسية سفيتلانا تيخانوفسكايا، التي خسرت السباق الرئاسي أمام لوكاشينكو إلى جمهورية ليتوانيا المجاورة. بيد أنه اتضح لاحقاً أن نصف فريقها الانتخابي يقبع في السجن، وأنها أجبرت على توجيه رسالة مصورة تعلن فيها مغادرة بيلاروسيا بشكل «طوعي».
- دور لافت للمرأة
أكثر من هذا، برزت خلال الاحتجاجات مظاهر غير مسبوقة، مثل تنظيم مجموعة من النساء وقفات تضامن مع المعتقلين في وسط العاصمة مينسك. ولقد حملت المشاركات شعارات تندد بـ«العنف المفرط» من جانب أجهزة الدولة، وطالبن بإطلاق السجناء. وفي مسعى واضح للفت الأنظار ارتدت الناشطات ملابس بيضاء اللون بزي يكاد يكون موحداً، وحملن باقات من الزهور وبطاقات بريدية بيضاء على شكل قلوب. ثم توجهت المسيرة النسائية إلى مقر أكاديمية العلوم الوطنية في شارع الاستقلال بالمدينة، على وقع تحيات صوتية أطلقها سائقون عبر أبواق تنبيه سياراتهم ترحيبا بهن. وبالفعل، هذا المشهد كان غريبا على مينسك التي لم تشهد تحركات مماثلة منذ عقود.
وبالتزامن، سرع ناشطون يعيشون خارج بيلاروسيا وتيرة تحركاتهم لممارسة مزيد من الضغط على الرئيس لوكاشينكو، وبرز هذا من خلال انضمام شخصيات بارزة إلى الاحتجاجات، ومنها ظهور سفيتلانا ألكسييفيتش، الكاتبة الحائزة جائزة نوبل في الأدب لعام 2015. التي أكدت دعمها للمتظاهرين، ودعت لوكاشينكو إلى التنحي ورفض السماح بـ«اندلاع حرب أهلية في البلاد».
ووفق ألكسييفيتش، فإن غالبية البيلاروسيين «على يقين تام» من أن لوكاشينكو خسر الانتخابات، ولكن يجب على المجتمع بأسره الآن الانضمام إلى جهود لمواجهة عزم النظام على التصعيد. وتابعت الكاتبة قائلة «في رأيي، أعلنت السلطات الحرب على شعبها. إنني أرى كيف يتحول المجتمع إلى التطرف أمام أعيننا، بسبب الطريقة التي تتصرف بها شرطة مكافحة الشغب. لم نكن نتخيل، حتى رأينا كيف حدث ذلك في بلدان أخرى، ولكن هذا ما يحدث هنا عندما يطلقون النار على سيارة فيها طفل صغير وهو مغطى بالدماء، وعندما تتعرض امرأة حامل للضرب، ويخنق المعتقلون بركبهم (...) هذا مجرد عمل عسكري».
وتعليقاً على رحيل سفيتلانا تيخانوفسكايا إلى ليتوانيا، قالت ألكسييفيتش إنها «كانت ولا تزال رمزاً للتعطش للتغيير، والعطش لحياة جديدة، والعطش إلى الصدق، والتضحية بالنفس من أجل الشعب». وختمت «ارحلوا!... لا أحد يريد «ميداناً» - في إشارة إلى «ميدان كييف» حيث وقعت «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا عام 2004 - . لا أحد يريد الدم. فقط أنت تريد السلطة، ورغبتك في السلطة هي التي تتطلب إسالة الدماء».
- خطاب غير مسبوق
هذا الخطاب، غير مسبوق في بيلاروسيا، التي حكمها ألكسندر لوكاشينكو بقبضة من حديد، على مدى ثلاثة عقود، بعدما جاء إلى كرسي الرئاسي من إدارة أحد المجمعات الزراعية الكبرى. ويؤخذ على الرجل - اليوم كما بالأمس - أنه قمع المعارضة ورفض إحداث تغييرات أو إصلاحات سياسية أو اقتصادية، إلا أنه في المقابل، كما يدافع عنه أنصاره «نجح في تجنيب البلاد الفوضى وعزز الاستقرار فيها... في مقابل الصراعات الكثيرة التي شهدتها بلدان مجاورة». كذلك يرى مناصروه «أنه منع إدخال بيلاروسيا في دوامة الخصخصة العشوائية التي شهدتها روسيا خلال تسعينات القرن الماضي، ما ساعد في المحافظة على مستويات معيشية متدنية، لكنها مستقرة».
في مقابل كل هذه التطورات، التي ما زالت تنذر بمزيد من التدهور، تمسكت السلطات بروايتها حول «المؤامرة الخارجية». وأعلنت وزارة الخارجية البيلاروسية عن استعدادها لتقديم «أدلة قاطعة ومحددة» على تدخل خارجي في شؤون البلاد. ودعت العالم إلى «التحقق بشكل موضوعي بما يحدث في بيلاروسيا اليوم، وكيف، ولماذا. ونحن مستعدون لحوار بناء، والأهم موضوعي، حول هذا الموضوع مع جميع الشركاء الأجانب». كذلك دعت مينسك الدول الأخرى للامتناع عن الإدلاء بـ«تصريحات رنانة» حول الأحداث في البلاد، محذرة من أن ذلك قد يؤدي إلى إشعال فتيل الاضطرابات في المجتمع.
- انتقاد غربي ودعم روسي
هذا الرد جاء بشكل مباشر لينتقد أسلوب تعامل الغرب مع التطورات الجارية في بيلاروسيا منذ انتهاء الاستحقاق الانتخابي. إذ كانت بلدان غربية عدة، على رأسها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، قد انتقدت بشدة العملية الانتخابية وما رافقها، ورأت أنها «غير حرة وغير نزيهة».
بل، لقد لوحت واشنطن بفرض عقوبات جديدة على مينسك، في منحى قد يقوض التوجهات الأميركية التي برزت خلال الشهور الماضية، لتطبيع العلاقة مع الجمهورية التي وصفتها الخارجية الأميركية من قبل بأنها «آخر الديكتاتوريات» في أوروبا. وفي هذا الإطار، زار مينسك، قبل شهور قليلة، وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وذلك في إطار مساع لدفع لوكاشينكو إلى التخلي عن اعتماده على منتجات النفط والغاز الروسيين، وقدم له وعوداً بأن واشنطن قادرة على تعويض بيلاروسيا عن حاجتها للنفط والغاز من روسيا بأسعار منافسة.
غير أن الملف الاقتصادي، ومنه موضوع الطاقة، لم يكن الوحيد الذي أثير خلال تلك الزيارة، إذ بدت واشنطن مستعدة لبذل جهود إضافية لتأليب الحليف الأقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عليه، وتقديم وعود مغرية له في عدد من الملفات الأخرى، بما في ذلك مسألة رفع العقوبات المفروضة على مينسك، والعمل على مساعدتها في تطوير اقتصادها وتعزيز تعاونها مع الفضاء الأوروبي. وحصل هذا الأمر بالتزامن مع تزايد نشاط تحركات حلف شمال الأطلسي «ناتو» على مقربة من الحدود الروسية، ومع الكلام عن تحريك وحدات أميركية من ألمانيا وإعادة نشرها في بولندا، قرب روسيا وبيلاروسيا.
ولكن في المقابل، وضعت واشنطن شرطاً لرفع العقوبات والتحرك بشكل أنشط لتطبيع العلاقات مع لوكاشينكو، تمثل في ضرورة إجرائه إصلاحات داخلية، وتحسين أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلاده. ووفقا لخبراء روس، فإن التطورات الجارية حالياً، تدل على أن الغرب سيعود إلى سياسة تشديد آليات تعامله مع مينسك، عبر فرض مزيد من العقوبات وإعادة لوكاشينكو إلى نظام «العزلة الدولية» التي عانى منها طويلاً.
أما فيما يخص روسيا فهي ترتبط بمعاهدة اتحاد مع «الجار» السلافي الأصغر. لكن هذه المعاهدة ظلت لسنوات طويلة حبيسة الأدراج، ولم تخرج إلى التطبيق الكامل إلا في تجليات محدودة، مثل حرية العبور الحدودي لمواطني البلدين، وبعض التسهيلات الجمركية والضريبية. وفي المقابل، ظلت جهود موسكو الهادفة لتعزيز التكامل بين البلدين وصولاً إلى إطلاق عملة موحدة، وفتح أسواق البلدين بشكل كامل أمام حرية الاستثمار والعمل، تواجه بعناد لوكاشينكو الذي حذر مراراً من «أطماع الأوليغارشية» الروسية بـ«الاستيلاء» على بلاده.
- صديق موسكو «المشاكس»
على هذا الصعيد، يمكن القول إن الحليف الأقرب لفلاديمير بوتين ظل «صديقاً مشاكساً» لعب دائماً على التناقضات الروسية الغربية، وحاول توظيفها لتعزيز مواقعه التفاوضية مع موسكو، لأنه يدرك حاجة روسيا إليه. وكمثال، يكفي الإشارة إلى أن موسكو عززت وجود بطارياتها الصاروخية على طول الحدود البيلاروسية مع أوروبا في إطار خطواتها لمواجهة نشر القوات الأطلسية قرب الحدود مع روسيا.
وهذا، مع أنه كان لوقوف موسكو إلى جانب مينسك في مواجهة الضغوط الغربية على مدى سنوات أثرٌ مهم في صمود لوكاشينكو أمام العقوبات والعزلة.
أيضاً، ورغم أن العلاقة بين موسكو ومينسك شهدت مراحل صعود وهبوط، وتخللها عدد من «الاشتباكات» كان أحدثها قبل أسبوع الإعلان عن اعتقال 32 مرتزقاً روسياً من مجموعات «فاغنر». في حينه، ادعت مينسك أنهم أتوا إلى أراضي بيلاروسيا للمساهمة في زعزعة الأوضاع بعد الاستحقاق الانتخابي. وهو أمر نفت موسكو صحته، واتهمت الأجهزة الأوكرانية بـ«تدبير مؤامرة» لتخريب العلاقات الروسية مع الجار الأقرب.
لكن في مطلق الأحوال، تبدو التطورات الجارية راهناً في بيلاروسيا حافزاً للطرفين الروسي والبيلاروسي لاستعادة الروابط الوثيقة في مواجهة تطورات ستكون لها تأثيرات خطرة في روسيا إذا نجحت في تغيير الوضع في «الجار» الصغير. ولعل هذا ما يفسر مسارعة موسكو إلى إعلان تأييدها الكامل لكل الإجراءات التي اتخذها لوكاشينكو لمواجهة محاولات زعزعة الأوضاع في بيلاروسيا.
وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو كانت تتابع تطورات الأوضاع في بيلاروسيا أثناء الانتخابات الرئاسية، مشيرة إلى أن «سلطات البلاد منعت وقوع تصعيد خطير». وزادت أنه «رغم محاولات بعض القوى لتنظيم احتجاجات واسعة بعد اختتام التصويت، تمكنت السلطات من منع وقوع تصعيد خطير».
وأضافت الخارجية الروسية في موقفها «نحن على قناعة بأن الخيار الذي قام به الشعب البيلاروسي سيسمح بمواصلة حل المهام الماثلة أمام الجمهورية، وسيساعد في تعزيز الصداقة بين بلدينا الشقيقين».