تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

نظام برأسين تصدّع... فهل تنجح محاولات ترميمه؟

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ
TT

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

تونس... المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ

«لم تعرف البلاد أزمة أخطر وأكثر تعقيداً من وضعها الحالي... وهناك مؤامرات داخلية وخارجية خطيرة جداً تحاك ضد الدولة ومؤسساتها...».
هكذا شخّص الرئيس التونسي قيس سعيّد المشهد السياسي الجديد في تونس بعد توتر علاقته بقيادة حزب «حركة النهضة» والبرلمان، والتوتر بين الأطراف السياسية بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ، وبروز مؤشرات لما وصفه «تورط جهات محلية وأجنبية» في النيل من المؤسسات الشرعية للدولة وتعطيل سير البرلمان وعدد من كبريات مؤسسات الدولة الاقتصادية... قبل أن يتوعّد بالرد بقوة على تلك الجهات المتهمة بالتآمر.
فما هي ملامح المشهد السياسي التونسي الجديد بعد التصعيد بين قصري الرئاسة والبرلمان والائتلاف الحكومي السابق وانطلاق مسار تشكيل الحكومة التي ستعوض حكومة الفخفاخ؟ وكيف سوف تتطور العلاقة بين الكتل البرلمانية والسياسية المتصارعة في الحكومة والبرلمان ونقابات العمال ورجال الأعمال؟
اهتم المراقبون السياسيون بتعاقب تهديدات الرئيس التونسي قيس سعيّد لخصومه ومنافسيه في كلمات مصوّرة، لوّح فيها باستخدام كل الأسلحة ضدهم. كما توقف عدد من أبرز المحللين، مثل الوزير السابق والمؤرّخ عدنان منصر، عند عدد من الملاحظات حول تطوّر الخطاب السياسي للرئيس، مثل توجيه تهديداته المباشرة وغير المباشرة لقيادات البرلمان وحزب «حركة النهضة» من ثكنات الجيش ومقرات وزارتي الدفاع والداخلية وبحضور كبار المسؤولين فيها. وسجل هؤلاء تعمده تغييب رئيس البرلمان عن اجتماعات حضرها معظم أعضاء «مجلس الأمن القومي» من كبار القيادات العسكرية والأمنية، وهو ما اعتبره عدنان منصر «ممارسة غير دستورية».
ولقد ربط المراقبون بين هذا التغييب وكلام سعيّد عن «وجود رئيس واحد للبلاد»، ومعارضته في تصريحات صيغة «الرؤساء الثلاثة» التي يستخدمها الساسة والإعلاميون في تونس منذ 2011 عند الحديث عن رؤساء البرلمان والحكومة والجمهورية. إلا أن نور الدين البحيري، وزير العدل الأسبق والقيادي في «النهضة» علّق على كلام سعيّد قائلاً: «لدينا رئيس جمهورية واحد انتخبناه، لكن لدينا كذلك رئيس برلمان منتخب، ورئيس حكومة زكّاه البرلمان المنتخب مع فريقه، بصرف النظر عن الأسماء».

«معركة كسر عظام»
أيضاً، سجل عدد من الباحثين المتخصصين في تصريحات لـ«لشرق الأوسط»، بينهم وزير الثقافة الأسبق المهدي مبروك، والأكاديمي زهير إسماعيل، والحقوقي أيمن البوغانمي «تزايد تأثير التيار الشعبوي» سياسياً في تونس منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، ثم بعد تسلّم الرئيس سعيّد مهامه في قصر قرطاج الرئاسي.
ولاحظ سامي إبراهيم، الباحث في العلوم السياسية بـ«مركز الدراسات الجامعية الاقتصادية والاجتماعية» في الجامعة التونسية، أن «المواقف السياسية الشعبوية» انتعشت بين زعامات من المعارضة اليسارية مثل حمّة الهمامي، أمين عام الحزب العمالي الشيوعي، وتزايد تأثيرها في قصري الرئاسة والبرلمان وبعض الأحزاب العلمانية والإسلامية والقومية. كذلك رأى الوزير السابق عدنان منصر - الذي كان مقرّباً من سعيّد قبل أشهر - أن الخطاب الشعبوي وبعض المواقف «المتسرّعة» وتوترات ما بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ قد تجرّ البلاد نحو «مواجهة خطيرة وغير متكافئة بين رأسي السلطة التنفيذية والبرلمانية وبين أنصار قيس سعيّد وحركة النهضة وحلفائها في حزبي قلب تونس وائتلاف الكرامة.
وحذّر الحبيب بوعجيلة، عالم الاجتماع والكاتب السياسي، من مضاعفات المزايدات السياسية في مرحلة اشتداد المنافسة والصراع بين «اللوبيات» السياسية والاقتصادية و«المافيات» عشية الإعلان عن اسم الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة التي ستخلف حكومة إلياس الفخفاخ، الذي فقد منصبه بعد اتهامه بالتورط في قضايا فساد إداري ومالي.
ويتزامن هذا الحراك داخل مؤسسات السلطة التنفيذية، برأسيها في قصري قرطاج والقصبة، مع معركة «كسر عظام» داخل البرلمان بين غالبية تتزعمها قيادات من أحزاب «النهضة» و«قلب تونس» و«ائتلاف الكرامة» ومعارضيهم «الحداثيين الليبراليين واليساريين» الذين يطالبون بإقالة راشد الغنوشي، زعيم «النهضة»، من رئاسة البرلمان. ويتزعّم المعارضين للغنوشي الحزب الدستوري الحرّ الذي ينتسب إلى نظام الحكم قبل يناير (كانون الثاني) 2011 بزعامة المحامية عبير موسي.

خطر داهم
لكن السؤال الذي يشغل المراقبين في تونس بعد تهديدات الرئيس سعيّد «للمتآمرين على الدولة في الداخل والخارج» هو... هل يلجأ الرئيس إلى «اعتبار البلاد أمام خطر داهم» يبرّر استخدام الفصل 80 من الدستور، وهو ما سيمنحه «صلاحيات استثنائية» منها ممارسة صلاحيات رئيس الحكومة وتعطيل السير العادي لبعض المؤسسات وللفصل بين السلطات «مؤقتاً»؟
وقد تراوحت ردود الفعل بين الترحيب والمعارضة الشديدة على هذا «السيناريو». وكان من بين أبرز المطالبين به عبيد البريكي، الزعيم النقابي والوزير السابق والقيادي المعروف في اليسار التونسي منذ 40 سنة، في حين حذّرت منه سلسبيل القليبي، أستاذة القانون الدستوري في الجامعة التونسية. إذ رأت القليبي أن الرئيس سعيّد لوّح حقاً بتفعيل الفصل 80 عندما خاطب الشعب قائلاً: «الوسائل القانونية المتاحة بالدستور موجودة لدي اليوم، بل هي كالصواريخ على منصات إطلاقها». ولم تستبعد القليبي أن يمضي الرئيس في تفعيل الفصل 80 لأنه تحدث في مداخلاته عن «تعطيل السير العادي لدواليب الدولة» في الوضع الحالي، وهي المذكورة في الفصل 80 والتي تُحيل له. غير أنها تحفّظت في تصريح لوسائل الإعلام التونسية عن توظيف هذا الفصل في المعارك السياسية الحالية لأن «الفصل 80 ينظم حالة الاستثناء وهي مختلفة عن حالة الطوارئ». وبينما توقع الخبير القانوني أمين محفوظ أن يكون تأكيد كلمة سعيّد - أمام رئيس البرلمان ونائبيه - على ما اعتبره «تعطيل سير دواليب الدولة» نوعاً من التمهيد للإعلان عن اللجوء لهذا الفصل من الدستور الذي يمنحه صلاحيات واسعة، قالت القليبي إن «اللجوء لهذا الفصل مسألة خطيرة جداً». وأوضحت أن إعلان حالة الاستثناء يخوّل للرئيس اتخاذ «كل التدابير»، ومن بينها التدخل في اختصاصات رئيس الحكومة وتعليق العمل لفترة بمبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، غير أن الدستور التونسي في فصله الـ80 ينص بوضوح على أن هناك حدوداً لهذا الفصل «من ذلك أن يتعلق الأمر بحالة مؤقتة لا يمكن أن تكون دائمة» ولأن «التدابير الاستثنائية لا بد أن تصبّ ضرورة في عودة تأمين السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، وألا تكون خارجة عن الدستور».
من جهته، قال هيكل بن محفوظ، خبير القانون الدولي ورئيس «وحدة الدراسات القانونية والسياسية» في الجامعة التونسية، لـ«الشرق الأوسط» إنه في حال تفعيل هذا الفصل «لا يمكن لرئيس الجمهورية أيضاً حل البرلمان، ومجلس النواب يكون في حالة انعقاد دائم، أي لا يمكن أن يدخل في عطلة برلمانية، ولا يمكن توجيه لائحة سحب ثقة من الحكومة».
وفي هذا السياق، يقول مسؤولون سابقون في الدولة وعدد من مسؤولي المعارضة والنقابات إن هذا الفصل لن يحسم الصراع بين رؤوس السلطتين التنفيذية والبرلمانية، وطالبوا الرئيس سعيّد بتوظيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة بعد جائحة «كوفيد - 19» لـ«حل البرلمان الحالي وتنظيم انتخابات مبكّرة».

حلّ البرلمان في سبتمبر
وبالفعل، طالب عدد من الإعلاميين والساسة الرئيس سعيّد بحل البرلمان، لكن معظم خبراء القانون الدستوري اعترضوا على هذا الخيار السياسي، واعتبروا أن حل البرلمان من قبل رئيس الدولة مشروط بالفصلين 77 و89 من الدستور.
وأوضح خبير القانون الدستوري سليم اللغماني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الفصل 77 يسمح لرئيس الدولة بحلّ البرلمان «في الحالات التي ينصّ عليها الدستور»، لكنه ينص على أنه «لا يجوز حلّ المجلس خلال الأشهر الستة التي تلي نيل أول حكومة ثقة المجلس بعد الانتخابات التشريعية أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدة الرئاسية أو المدة النيابية»، أي أنه لا يحق لسعيّد حل البرلمان قبل سبتمبر (أيلول) المقبل. لكن الخبير بن محفوظ يذكر أن الفصل 89 من الدستور يشير أن «لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة» في حال عدم تصويت البرلمان على مرشح الرئيس لتشكيل الحكومة للمرة الثانية بعد الانتخابات البرلمانية رغم مرور 4 أشهر.

الاستفتاء الشعبي
في المقابل، دعا نور الدين الطبوبي، أمين عام اتحاد نقابات العمال بعد عدة جلسات عقدها مع الرئيس سعيّد إلى الخروج من الأزمة السياسية الحالية عبر «تنظيم استفتاء شعبي» على تعديل الدستور بسبب حدة الخلاف داخل الطبقة السياسية والنخب حول «النظام السياسي البرلماني المعدل» الذي تعتمده تونس منذ المصادقة على دستور يناير 2014، وبروز دعوات إلى العودة لـ«النظام الرئاسي» الذي كان معتمداً قبل انتفاضة يناير 2011. لكن غالبية الخبراء القانونيين والسياسيين في البرلمان وخارجه، وبينهم مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي، ونائبته محرزية العبيدي والمقرّر العام لدستور 2014 المحامي الحبيب خضر، تحفّظوا عن هذا الاقتراح وسجلوا أن الفصل 82 من الدستور ينص على أنه يحق لرئيس الجمهورية أن يقترح على البرلمان تنظيم استفتاء شعبي في 4 قضايا فقط دون غيرها، هي «مشروعات القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات، أو بالحريات وحقوق الإنسان، أو بالأحوال الشخصية، والمصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب».

الشرخ أصبح كبيراً
في ظل هذا المشهد السياسي والبرلماني الفسيفسائي، يُطرح تساؤل؛ هل يمكن أن يحصل انفراج بعد إقالة حكومة إلياس الفخفاخ وتشكيل الحكومة الجديدة في ظرف أقصاه شهر، أم يحصل العكس، فتتعمق الهوة بين رأسي السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويتوسّع التصدّع رغم الوساطات وجهود رأبه؟
محسن مرزوق، رئيس حزب «مشروع تونس» والقيادي السابق في حزب «النداء» بزعامة الباجي قائد السبسي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «هذه الحكومة لن تكون مختلفة عن سابقاتها، ولن تعمر طويلاً». كذلك اعتبر الوزير السابق الصادق شعبان أن «هذه الحكومة حتى إن ولدت فستسقط بسرعة، وستكون واحدة من بين شطحات نظام سياسي يموت، وسياسيين يعبثون بالقانون والدستور».
إلا أن أخطر ما يهدد «الاستثناء الديمقراطي التونسي»، حسب وزير المالية نزار يعيش، ووزير التجارة السابق محسن حسن، ورئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ، هو تراكم مظاهر الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، مع توقعات بأن تنخفض نسبة النمو السنوية بنحو 9 نقاط مئوية، بينما سترتفع نسبة البطالة إلى أكثر من 20 في المائة لأول مرة في تاريخ البلاد، ما ينذر باضطرابات اجتماعية وشبابية تشمل جيش العاطلين عن العمل والمهمّشين في المدن الكبرى والجهات الداخلية الفقيرة.

تحالف سياسي ـ نقابي ضد «النهضة»
> تتسارع الأحداث في تونس منذ أيام بنسق غير معهود، ولقد تعاقبت التحركات في كواليس قصري رئاسة الجمهورية في قرطاج ورئاسة الحكومة في القصبة وفي مقرات البرلمان والأحزاب والنقابات، ما أكد وصول البلاد إلى أخطر مأزق سياسي في تاريخها، ومن المتوقع أن يزداد تعقيداً خلال الأيام المقبلة بسبب تعفن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانخراط رئيس الدولة وقيادات نقابية في المعركة مع حزب «حركة النهضة».
ورغم تزامن التصعيد، مع جهود بعض «الوسطاء» لاحتواء الموقف، من بينهم رئيس البرلمان الأسبق مصطفى بن جعفر، يبدو الجميع مقتنعاً بكون المشهد السياسي الذي ساد البلاد منذ انتخابات 2014 قد انهار. وتؤكد معطيات كثيرة أن البلاد باتت مقسمة بين «جبهتين سياسيتين جديدتين متنافرتين»؛ الأولى بزعامة حزب عبير موسى المعادي بقوة لـ«حركة النهضة» و«الإخوان»، وتضم رموزاً من نقابات العمال والأحزاب العلمانية واليسارية والقومية. والثانية تضم «الغالبية البرلمانية» أي حزب «قلب تونس» بزعامة نبيل القروي وقيادات «حركة النهضة» وحلفائها داخل «ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف.
وبينما يعتبر كل طرف أن «المنظومة السياسية التي تحكم البلاد منذ سقوط حكم زين العابدين بن علي انهارت»، يعتبر أنصار رئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ، مثل الوزير محمد عبو، أن التوافق الهش السابق بين أحزاب «النظام القديم» بزعامة قائد السبسي وتلامذته و«حركة النهضة وحلفائها» قد انهار بصفة نهائية بسبب أخطاء الطرفين.
ويدعم هذه القراءة لتطورات المشهد السياسي في اتجاه القطيعة والصدام عدد من السياسيين والأكاديميين الذين حاورتهم «الشرق الأوسط»، بينهم الوزير السابق والأكاديمي خالد شوكات والإعلامي الباحث في علم الاجتماع المنذر بالضيافي. ومن جهة أخرى، يرى باحثون وخبراء في استطلاعات الرأي والعلوم الاجتماعية والسياسية أن غالبية نسبية من التونسيين ومن الحقوقيين والنساء صارت لأول مرة منحازة وبقوة، حزب «حركة النهضة» وقيادته، وتعمل على إبعاد راشد الغنوشي عن رئاسة البرلمان، وتدعم مضاعفة صلاحيات رئيس الدولة ضد صلاحيات البرلمان، وتنظيم استفتاء شعبي لتعديل الدستور والنظام السياسي في اتجاه التخلي عن النظام البرلماني المعدل المعتمد حالياً. ويستدل هؤلاء على ذلك بنجاح عبير موسى في تشكيل جبهة سياسية مناوئة للغنوشي، وسرعان ما انضم إليها لأول مرة معارضون سابقون لحكم بن علي وحزبه، من بينهم شخصيات قيادية كانت محسوبة على اليسار النقابي، وعلى المنظمات الحقوقية والأحزاب العروبية والليبرالية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».