{ناسك في باريس}... سيرة ذاتية غير رسمية لإيتالو كالفينو

«يوميات أميركا» شهادة نادرة من كاتب أوروبي

{ناسك في باريس}... سيرة ذاتية غير رسمية لإيتالو كالفينو
TT

{ناسك في باريس}... سيرة ذاتية غير رسمية لإيتالو كالفينو

{ناسك في باريس}... سيرة ذاتية غير رسمية لإيتالو كالفينو

رغم أن عنوان الكتاب هو «ناسك في باريس»، عن سيرة الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، فإن الفصل الذي يحمل هذا العنوان هو الأقل أهمية بين الفصول لأن زيارة كالفينو لأميركا شتاء 1959 حتى ربيع 1960 هي أكثر الفصول متعة بين النصوص، حيث يعاين فيها الكاتب الحياة الأميركية عن قرب، وينقل مشاهداته على مرحلة كانت في أوج الحراك الأميركي السياسي الثقافي الاجتماعي.
الكتاب عبارة عن تجميع لكتابات وحوارات مع كالفينو نشرت في كتب سابقة، باستثناء «اليوميات الأميركية»، ما يجعلها الأكثر أهمية بين 12 مادة جمعتها زوجته، إستر كالفينو، بعد أن وجدت مغلفاً على مكتب زوجها بعد وفاته عام 1985، تحت عنوان «جزء من سيرة ذاتية»، وكانت كتابة سيرته في أثناء حياته قد تعثرت، أو هرب من مواجهتها إلى محاضراته ورواياته.
لم ينشأ كالفينو في مدينة ثقافية صاخبة، مثل روما أو فلورنسا أو ميلانو التي استقر فيها عدد من الأدباء الإيطاليين، بل نزح من سان ريمو في إقليم ليغوريا المطل على البحر المتوسط إلى مدينة تورين غرب إيطاليا، وقد اختارها متعمداً، كما يقول في مفتتح نص منشور عام 1953، حيث إنه في تلك المدينة «غياب للرومانسية المفرطة، واعتماد تام على المجهود الفردي». كان يبحث عن التفرد لشعوره بأن الكاتب جزء من عالم أكبر غير محدود بسطوة الإقليم الذي يعيش فيه. يقول: «ما جذبني إلى تورين هو أخلاقياتها وصورتها الوطنية، لا بعدها الأدبي». سحر تورين هذا تعرف عليه كاتب آخر قبل ثلاثين سنة (ليس بعد ثلاثين سنة كما ورد خطأ في الترجمة)؛ إنه أنتونيو غرامشي الناقد الشهير القادم من جزيرة سردينا. تورين مدينة وقفت في وجه الفاشية بعد الحرب العالمية الأولى، ورفض مثقفوها المساومة؛ إنها المدينة التي جعلت كالفينو قريباً من الأديب الشهير تشيزاري بافيزي (9 سبتمبر | أيلول 1908 - 27 أغسطس | آب 1950) الذي مات منتحراً، وكتب عنه كالفينو بوفاء: «إن أتقنت الكتابة، فلأنه من قدمني للناشرين (...) وهو من علمني كيف أشاهد تورين لأن جمالها يستكشف من خلال التجول في شوارعها وتلالها». وكانت أول مجموعة قصصية كتبها إيتالو كالفينو في خريف 1945، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قد عرضها على بافيزي، فوجدت طريقها إلى النشر في روما، لأن المعلم رأى فيها ما يستحق النشر.
كالفينو المرتبط جذرياً بإيطاليا، وبتورين تحديداً، ولد خارجها، في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 1923، لأبوين أكاديميين كانا يعملان في كوبا. وهو يصف نفسه بـ«البطة السوداء»، إذ لم يكن أي من الوالدين أو العائلة مهتماً بالأدب؛ والده خبير زراعي، ووالدته عالمة نبات، وأعمامه وأخواله أيضاً كانوا بخلفيات علمية، وتخصص شقيقه بالجيولوجيا.
سمته والدته «إيتالو»، ويعني «من إيطاليا»، كي لا ينسى أرض أجداده، فقد اعتقدت أنه سينشأ في أرض أجنبية، لكن أبويه عادا إلى سان ريمو وهو في عمر السنتين، غير أنه أحب الترحال واكتشاف عوالم أخرى، وفتن بالتجربة الأميركية. ويتضح هذا في فصل المذكرات الأميركية (ترد في المقدمة مرتين باسم يوميات أميركية!). وتبدأ الرسائل بتاريخ 3 نوفمبر (تشرين الثاني)، على ظهر باخرة متوجهة إلى نيويورك أقلعت به مع أدباء آخرين قادمين من إسبانيا وفرنسا وهولندا، بدعوة من مؤسسة فورد الثقافية الشهيرة. كان ذلك في الليلة الرابعة على ظهر الباخرة، حيث السأم الذي يجعله يندم على عدم سفره بالطائرة، وحيث «البواخر لم تعد رمزاً لفترة زمنية جميلة». لم تكتب اليوميات طوال جولته في أميركا بغرض أدبي؛ كانت رسائل عفوية أرسلها بانتظام لزملائه في دار نشر أينودي في تورين التي عمل فيها محرراً، ليطلعوا على انطباعاته عن البلد ذي الشهرة الكبيرة آنذاك، أميركا.
نيويورك أول المحطات «المكان الذي ليس أميركياً ولا أوروبياً، يعطيك شحنة استثنائية من الطاقة تشعرك فوراً بأنك تعرفها، كما لو أنك عشت هنا طوال حياتك». صاحب العين الأدبية الثاقبة سينتبه لتجمعات الإيطاليين التي تضج بالفوضى، وضعف اللغتين الإنجليزية والإيطالية عند الأجيال الجديدة المكتفية بالمحكية، ويمتدح الأحياء الصينية التي تدل على مثابرة أهلها المهاجرين.
كانت تلك فترة تمرد التقى فيها بالمهمشين، من فنانين وكتاب مثل البوهيميين الذين اتخذوا من حي «ذا فيليج» مقراً، فصار مقصداً للسياح. والتقى بمثقفين من جيل «الضربة The Beat» المتمرد على قيم المجتمع بعد الحرب العالمية الثانية. ومن الملحوظات الطريفة وصفه لرموزهم بأنهم يتميزون بملابس وسخة وذقون غير حليقة، بينما هم في بيوتهم نظيفون جداً، وكأنه يقول إن مظهرهم الخارجي للاستعراض ولفت الانتباه فقط.
زيارة كالفينو صادفت انطلاق التلفزيون الملون، والكومبيوتر الذي يدير بورصة نيويورك إلكترونياً من خلال 705 أجهزة (IBM)، في عالم شعاره أن المال ينجب المال «وهذا ترويج لعبادة المال المتأصلة في أميركا». وفي سان فرانسيسكو، يلتقي بقيادات اتحاد عمال الميناء، مشيداً بالتنظيم الشديد، وبالمكتسبات التي حققتها النقابة للعمال «الذين يأتون للعمل بسيارات فارهة وملابس جديدة نظيفة». ويشير إلى نقاش مع أحد القيادات النقابية الذي قال له إن النقابات في فرنسا وإيطاليا لم تحصل على نتائج الاتحادات الأميركية لأنها انشغلت بالسياسة، فلم تخدم السياسة ولا خدمت العمال.
وفي تكساس، يصل إلى هيوستن مع موسم مسابقات رعاة البقر، ويحصل على انطباع بأنها ولاية مستقلة عن بقية الولايات المتحدة بسبب تجارة أهلها المزارعين والمربين للبقر واعتزازهم بأنفسهم. وفي يوميات الجنوب، يقول عن نيوأورلينز إن ويلات الحرب الأهلية (في القرن التاسع عشر) جعلتها واحدة من أفقر المدن والأكثر رجعية بين الولايات. ويتحدث بطرافة عن المرشدين السياحيين الذين يحكون قصصاً عن المكان من وحي خيال الروائي وليم فوكنر الذي عاش هنا، وعمل مرشداً سياحياً لفترة اختلق فيها بعض القصص. وانطباعاته عن الجنوبيين أنهم يمينيون جداً. وفي حفل على شرفه، أقامته سيدة أرستقراطية حمل لها رسالة، وحضره رؤساء شركات، اضطر للاستماع إلى «أكثر الحوارات تخلفاً ورجعية في كل هذه الرحلة» لأن خطاب الطبقة المسيطرة في كل أميركا أنها لا تفهم إلا لغة القوة.
وفي مونتغمري بألاباما، حيث العنصرية البغيضة الأكثر وضوحاً من كل الولايات، يكتب في السادس من مارس (آذار) 1960: «لن أنسى هذا اليوم ما حييت. لقد رأيت ما هي العنصرية، رأيتها مقبولة بصفتها أحد قوانين المجتمع الأساسية». ثم ينقل تفاصيل احتجاج طلبة سود على طرد 9 من زملائهم من الجامعة، ضمن الاحتجاجات السلمية التي يدعمها مارتن لوثر كينغ (اغتيل عام 1968)، وقد تجمعوا في كنيسة للسود أمام برلمان ألاباما. ويصف حجم العنصرية عند طبقة من البيض اصطفوا قرب البرلمان ليتابعوا المشهد بصخب. ويقول إن الفقراء منهم أسوأ العنصريين، ويتبعون تنظيم «كوكلاكس كلان»، وآخرون من الطبقة المتوسطة اجتمعوا مع عائلاتهم وأطفالهم، جميعهم رفعوا شعارات بذيئة بحق السود. «وأنا الذي كنت مهتماً بنتيجة هذا الحدث، صرت محاطاً بأناس أعنف وأقوى، شيئاً فشيئاً. وبين الحشود كاهن الكنيسة المنهجية، وهو الوحيد الذي يمتلك الشجاعة ليقف إلى جانب السود (فجرت جماعة كوكلاكس كلان منزله سابقاً)، وساعد الطلبة السود على الخروج بسلام. وكان السود يبتعدون في صمت وأيديهم مرفوعة، وسط صيحات سخرية وضحك هيستيري من المصطفين». ويتحدث كالفينو عن قادة سود تعرف عليهم في أثناء وجوده في الولاية، ويصفهم بأنهم «فصيحون حازمون لا يشفقون على أنفسهم لأنهم سود». وقد ذهب بمعيتهم إلى كنيسة اجتمع فيها لوثر كينغ مع طلبة، و«كنت الأبيض الوحيد وسط ثلاثة آلاف طالب، ولعلي الوحيد الذي فعل ذلك في تاريخ الجنوب كله».
«يوميات أميركا» لافتة كثيراً ضمن فصول الكتاب، فإيتالو كالفينو شاهد عيان لا ينقل عن إعلام أو كتب، وهو ربما الكاتب الأوروبي الوحيد الذي تمكن من معاينة الوضع على الأرض في هذه القارة المثيرة الجذابة البغيضة في آن. لم يكره أميركا، بل إنه عشق نيويورك، وقارنها بباريس في الفصل الخاص بتلك المدينة التي يستغرب أنه يمتلك فيها بيتاً منذ سنوات، لكنها لم تلهمه الكتابة عنها، رغم انبهاره بشبكة المترو والمحلات وأنواع الأجبان، على عكس نيويورك التي يشعر أنه يمكن كتابة قصص أو رواية تدور أحداثها فيها «ربما لأنها صورة لما يجب أن تكون عليه المدينة».
كتاب «ناسك في باريس»، الصادر عن دار المدى، يقدم قراءة ممتعة، ويصعب نقل ملخص عن جميع الفصول التي تحدث فيها عن انتمائه للشيوعية، ومحاربته الفاشية ورموزها مثل ستالين وموسيليني، وعن دور المثقف، وأفكار أخرى. ومع ملاحظة ارتباك الترجمة أو خطئها في أكثر من موضع، فإنه كتاب يوجب ترشيحه للقراءة بشدة، خصوصاً أنه لواحد من أشهر كتاب إيطاليا، ولعل القارئ العربي يعرفه بكتاب آخر ممتع، هو «مدن غير مرئية» الذي ترجم إلى العربية قبل سنوات.



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي