كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

مختارات ييتس دفعتها إلى كتابة رواية «الملوث»

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو
TT

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

كوفيري مادهافان: أتيت من الهند إلى سليغو

الطبيعة بأكملها تتآمر ضد محب الكتب. السمكة الفضية تخرج من الأكمام إلى الأغلفة، والعفن الفطري يتريث، ودود الكتب يتضاعف، والغبار يهبط بكثافة، طبقة فوق أخرى. ومع ذلك فإنها البلد الأفضل في العالم للوقوع في حب الكتب، فإلهة المعرفة الهندوسية ساراسواتي هي نفسها، في نهاية المطاف، التي تحضن الكتب بإحدى يديها الكثيرة. تأمر: اعبدوني، اقرأوا بإخلاص، وستكافأون بملاذات تفقدون أنفسكم وتجدونها فيها.
لا بد أن أبي عرف ذلك حين أضرب عن الطعام في الحادية عشرة من عمره، حين رُفضت منحة الدراسة الثانوية التي حصل عليها بجهد جهيد على أنها مضيعة للوقت. كان والداه يعيشان على الفلاحة بطموحات لا تتعدى المحصول القادم، فبدا التعليم لهما غير ضروري. لكنه رفض الطعام بإصرار، وبعد خمسة أيام تراجع جدي فغادر أبي قريته جنوب الهند، ليلتحق بمدرسة الملك جورج العسكرية في أقصى الشمال. كان ذلك عام 1946 حين قطع بالقطار 2200 كيلو متر من شبه القارة على مدى خمسة أيام، وهو لا يعرف الإنجليزية، لكي يصل إلى المدرسة. كان عمره 19 عاماً، ونسف حين عُين ضابطاً في الجيش الهندي عام 1954.
يؤسفني أنني لم أسأل أبي كيف تمكن من السيطرة على التعقيدات الهائلة في اللغة الإنجليزية، الاستثناء لكل قاعدة، اللفظ المليء بالمفارقة، النحو المتناقض والجمل التي يستحيل سبر غورها. كل ما أعرفه أن أبي عرف كيف يصعد الحياة قارئاً ومرر حبه للكتب إلينا: أخي وأنا.
حين أنظر للخلف أدرك أن والدي لو كانا ثريين لما صرت مولعة بالقراءة. لكن مثل العائلات العسكرية في كل أنحاء العالم، كنا نتأرجح على حواف الحياة المريحة. الكتب، مستعملة في الغالب، كانت بسطاً سحرية رخيصة، تحملنا لأماكن أبعد من إمكانات والدينا، بعيداً عن المدن المحصنة بالنفعية، ومدارس الرهبنة الصارمة، بعيداً عن معاناة فصول الصيف الحارقة شمال الهند، وشتاءاته القارسة ورياحه الموسمية المرعدة.
كانت طفولة فردوسية؛ إن كان سلوكنا مرضياً عنه جاءتنا الكتب، إن لم يكن أيضاً جاءتنا الكتب. لم يستطع والدانا ببساطة أن يفعلا غير ذلك؛ حرماننا من الكتب كان عقاباً مبالغاً به. نظرتهما الليبرالية منحت طفولتي هويتها، مئات الكتب التي أغرقاني فيها هي ما صنع المرأة التي أنا اليوم.
كنت في التاسعة حين حدثت الحرب الهندية الباكستانية عام 1971. عشنا في معسكر للجيش في كانبور، في بيت متهدم على مساحة هكتارين - أثر تركه الراجا، أعيد تجهيزه ليكون مقراً للضباط المتزوجين. مصنع الأسلحة القريب كان هدفاً رئيساً لهجوم جوي فكان على كل أسرة أن تحفر في حديقتها ملجأ يحمي من القنابل. كان صراعاً قصيراً ودموياً، ولكن لأننا كنا أطفالاً لم نعشه خارج حدود الخوف من أجهزة الإنذار أثناء إطفاء الكهرباء في الليل.

خرائط
غير أن الحرب منحتنا اهتماماً استمر طوال حياتنا بالجغرافيا والمناظر الطبيعية. ليشرح الخلاف مع باكستان كان أبي يستخرج الأطالس ويفرش الخرائط فنتتبع بأصابعنا الحدود، شرقاً وغرباً، الحدود التي رُسمت بطريقة عبثية عام 1947، دون تفكير بالناس الذين سيمزق بعضهم عن بعض. ومع ذلك فقد كان بإمكاني أن أرى وراء شبه القارة المتحاربة بقية العالم مفروشاً أمامي وكان شديد الإغراء.
«كانت معظم صداقات طفولتي قصيرة على نقيض الكتب التي أثبتت أن صداقتها أكثر دواماً».
عندما انتهت الحرب، بقيت الخنادق، واستفدنا أخي وأنا من خنادقنا. بإلهام من عالم الطيور الهندي سليم علي، حولنا ملجأ ضد القنابل إلى مخبأ. أخي ذو السبعة أعوام استخدم أداة التطيين لعمل رفوف في الجدران من الطين الأحمر لتخزين كل شيء قد يحتاجه مراقبو الطيور المبتدئون. تضمنت تلك حلوى نمتصها أثناء جلوسنا هادئين وكتاباً للمذكرات لكتابة أسماء الطيور التي كنا نلاحظها. قصت جدتي ستارة خضراء قديمة وخاطت لنا بذلات تمويهية مع أقنعة. ولا بد أننا خدعنا الطيور لأننا صرنا خبراء في التعرف على الحشود التي جاءت إلى حديقتنا.
بعد ذلك بقليل، وبعد أن سمح لي بالاحتفاظ بجرو ضال أحضرته معي من المدرسة، قلّبنا المكتبات بحثاً عن كل سفر حول رعاية الكلاب، فتنامت بسرعة مجموعة محورها الحيوانات من كل نوع. رواية جاك لندن «الناب الأبيض» كان الكتاب الذي ظل معي - ونداء البراري تصعب مقاومته حتى اليوم.
كانت الوحدات تتحرك باستمرار وبعد إشعار قصير، الأمر الذي أدى إلى أن تكون صداقات طفولتي قصيرة المدى على نقيض الكتب التي أثبتت أنه يمكن الاعتماد على رفقتها أكثر. لحسن الحظ كان كل تحرك مزعج يجلب معه وعداً برحلة قطار مثيرة عبر ريف ظلت فيه محطات القطار متزاوجة مع «عربات» بيع الكتب حتى اليوم، زواج صنعته السماء. سلسلة مكتبات المحطات الأسطورية ذات 143 عاماً جزء من تاريخ السفر في شبه القارة منذ 1877. إنها لم تأت بالشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ وحده عندما نشرت أعماله، وإنما أتاحت «العربات» الفرصة للتجربة الكبلنغية أيضاً.
بعد فترة طويلة من انطلاقة القطار من المحطة، لم يكن عليك سوى أن ترفع عينيك عن كتابك لتجد نفسك في قصة أخرى أبطالها غرباء تماماً يشتركون في القيود الحميمة للعربة معك، أو أولئك الذين عبر النوافذ يشاركونك المشاهد الريفية البانورامية التي هيأت خلفية لحيوات متخيلة. كل تلك القراءة والمشاهدة رسمت طرقاً لرحلتي في الكتابة نهاية الأمر.
كنت في الثانية عشرة من العمر حين انتقلنا إلى مومباي، ووجدنا أنفسنا في فردوس للقارئ، ذلك الذي تُفرش فيه الشوارع بالكتب، مع أنه كان يمكن أن تكون ذهباً. في سبعينيات القرن الماضي، كانت حوانيت الكتب المستعملة تصطف طوال الأرصفة عند تقاطع الطرق الخمسة في كالا غودا، حيث تبيع كل أنواع الرسومات الهزلية، إلى جانب الكتب والمجلات. تلك التجارة لا تزال مزدهرة في كل الهند، تدعمها الحالة النفسية الهندية التي ستتقبل تشويه كل شيء ما عدا الكتب. ساراسواتي، في حكمتها الإلهية، تصر على تقديس كل شيء ينير العقل، ولكن باستثناء النصوص المقدسة، لا أحد سيلقي بكتاب طالما أمكن بيعه بالكيلو.

أساطير هندية
أيام الأحد كان سراحنا يُطلق بين الأكشاك، بينما والداي يتصفحان على مرمى أذن. التهمنا ما انتقينا من المختارات - خدع المخلوقات النهرية التي قضت وقتاً طويلاً تجدف أو مغامرات رعاة البقر وخيولهم التي كانت دائماً قوية وتسمى «رعد». مزجنا الأساطير الهندية بحكايات الغابات، نسينا أنفسنا في مدارس داخلية حالمة وتأملنا دون توقف موضوع الشَعر الأحمر.
اشترى أبي أعداداً قليلة، لم يغيرها، من «الميكانيكي الشعبي» بخططها التوضيحية لبيوت الأشجار، الإسطبلات أو حتى الحوامات المصنوعة من أجهزة نفخ الأوراق - كلها مما يستحيل الحصول عليه في شقتنا الخالية من الأشجار، والخيول أو أوراق الشجر، لكن حياكة الأحلام المستحيلة مع والدي كانت ممتعة. أمي أحبت «ريدرز دايجست» بحكاياته المرهقة عن الهرب في آخر لحظة من براكين متفجرة وكوارث أخرى، كنا نتمنا بشغف أن نكون وسطها. لقد هيئنا والدانا للحياة بطريقة حلوة. مثلما هيئتنا عصابة من النساء بخُمُر بيضاء يابسة، قاسية لكنها أحياناً لطيفة، جاءت من مكان ما يبدو أنه مملوء بالضباب والخضرة، يسمى آيرلندا.
كنت أدندن حول البلد القديم قبل فترة طويلة من وضع قدمي على شاطئه، لأن حنين الراهبات للوطن أراد أن يغنّي ولم يكن لدينا خيار سوى الانضمام إليهن. أحياناً، في «أيام الأعياد»، كن يُصبن كلهن بالجنون التام وهن يجعلننا نعثر في طريقنا عبر «حصار إنِّس». ولكنهن في الغالب جعلننا نقرأ، نقرأ كثيراً. تعرفنا على صباحات سبتمبر (أيلول) المليء بالتفاح وبالناس الصغار في وديان صاخبة، وعلى طريق راغلان وتلك اللعنة التي عرفت في دروس الإلقاء - «جزيرة بحيرة إنيزفري» (قصيدة ييتس The Lake Isle of Innisfree). أنا متأكد أن «الأم المشرفة» هناك في الأعلى، وقد شقت طريقها عبر البوابات اللؤلؤية، تبتسم ابتسامة ملتوية وهي تراني، حين جئت من الهند إلى مسقط رأس الشاعر ييتس، سليغو، بعد عقد ونصف العقد، مزهوة بإلقاء القصيدة على شواطئ لاك غل (Lough Gill).
لقد كان ييتس، في مختارات مستعملة، هو الذي دفعني من على الحافة لأبدأ كتابة روايتي الجديدة «الملوث». خطر لي أن أطور أحداث العصيان في «كوفينوت رينجرز» لتصير رواية عندما التقطت عام 2001، وأنا أتسكع في يوم صيفي في السوق الأسبوعية، كتاباً ورقي الغلاف ومغبراً فتحت صفحاته عند قصيدة «الطيار الآيرلندي يتنبأ بموته». وقف شعر رأسي حين رددت: «أولئك الذين أحارب لا أكرههم/ وأولئك الذين أحرس لا أحبهم». كانت تلك روايتي في سطرين، وأدركت أن عليّ أن أكتبها.

- مادهافان كاتبة هندية المولد مقيمة في آيرلندا. والمقال منشور في صحيفة «آيريش تايمز» في 25 مايو (أيار) 2020، وهي الصحيفة التي تنشر فيها مادهافان.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.