ألم الفقدان في كتاب أميركي

ألم الفقدان في كتاب أميركي
TT

ألم الفقدان في كتاب أميركي

ألم الفقدان في كتاب أميركي

يصدر قريباً عن دار «المدى» كتاب «نادني الأمريكي» لعبدي مور رافتين، بالاشتراك مع ماكس ألكسندر، وهو من ترجمة علي عبد الأمير صالح. وهنا مقتطفات منه:
بسرعة تتغير الحياة
في لحظة تتبدل الحياة.
تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي.
أي شفقة على الذات تلك! في تلك الفترة غير واضحة المعالم، التي يسمونها الحداد، قد نغوص عميقاً في دواخلنا لنصل إلى القاع ونغرق في محيط من الصمت المطبق شاعرين بأمواج العمق تقترب تارة وتبتعد أخرى، لتلطمنا بذكريات تنقض علينا بلا هوادة.
ألم الفقدان، بقسوته التي من شأنها أن تخلخل العقل وتهز الروح، هو حقيقة استوقفت الإنسان بكل أهوالها. فعل الحزن، يقول فرويد في دراسته الصادرة في 1917 «الحداد والكآبة» Mourning and Melancholia «ينطوي على انحرافات خطيرة تنأى بنا عن نمط حياتنا الطبيعي». لكنه أشار أيضاً إلى أن ألم الفقدان تبقى له خصوصيته التي تميزه عن كل الاختلالات الأخرى: «لا نفكر أبداً في النظر إليه كحالة مرضية واللجوء إلى تدخل طبي لعلاجه»، بل نعوّل على فكرة أنه «سيتم التغلب عليه بمرور الوقت». ننظر إلى «أي تدخل طبي على أنه بلا طائل، بل يصل بنا الأمر إلى أن نعتبره مسيئاً». في بحثها الصادر في عام 1940 «الحداد وصِلته بحالات الهوس الاكتئابي» Mourning and Its Relation to Manic - Depressive States قدمت ميلاني كلاين تقييماً مشابهاً: «المحزون على فقد عزيز هو في الواقع شخص مريض، لكن كوننا ننظر إلى هذه الحالة على أنها ظاهرة شائعة وطبيعية، لا نعتبر الحداد حالة مرضية... لكي أتمكن من صياغة النتيجة التي خلصت إليها بصورة أكثر دقة يجب أن أقول إنه «في الحداد يعيش المحزون حالة عابرة ومحوّرة من الهوس الاكتئابي ويتغلب عليها». تراك جالساً تتناول العشاء وإذ بالحياة التي تعرفها تنتهي...
هكذا في نبضة قلب،
أو في غياب تلك النبضة...
الأشخاص الذين فقدوا عزيزاً تميّزهم نظرة معينة تُرى على وجوههم خلال الفترة القصيرة التي تعقب الفجيعة... نظرة قد لا يدركها سوى أولئك الذين قد ارتدوا هذه النظرة ورأوها على وجوههم. كنت قد لاحظت تلك النظرة على وجهي، كما لاحظتها على وجوه آخرين. نظرة مليئة بالضعف، بالعري، بالضياع. نظرة شخص خرج للتو من عيادة طبيب العيون فصعقه ضوء النهار بوهج جعل حدقتيه تتسعان، أو نظرة شخص يرتدي نظارات وأجبر على خلعها على حين غرة. هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً يبدون عراة لأنهم يعتقدون أنهم غير مرئيين.
ينظر من فقد عزيزاً إلى الوراء فيرى إشارات ورسائل تبدت له لكنه لم يبصرها.
يتذكر الشجرة التي ذبلت، والنورس الذي لطخ غطاء السيارة بسلحه.
يعيش بالرموز. يقرأ المعنى في وابل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيه الذي يرد إلى جهاز الكومبيوتر الذي لم يستخدم منذ زمن، في مفتاح الحذف الذي ما عاد يعمل... ينظر إلى قرار استبداله كضرب من الخيانة.
اتضح أن ألم الفقدان هو مكان لا يمكن لأحد أن يدرك كنهه إلا بعد أن يصل إليه. نتوقع، أو نعلم، أن شخصاً من أعزائنا أو أقاربنا قد يموت، لكننا لا نفكر في الأيام والأسابيع القليلة التي تعقب هذا الموت المتوقع. حتى أننا نسيء تفسير معنى تلك الأيام والأسابيع القليلة المتبقية. ربما نتوقع أن نتعرض إلى صدمة تُخل بتوازننا إذا ما حدث هذا الموت فجأة. لكننا لا نتوقع أن تكون هذه الصدمة مدمرة ومخلخلة للعقل والجسد في آنٍ معاً. قد نتوقع أن نصبح مرضى ومحزونين ومختلين من هول هذه الصدمة. لكننا لا نتوقع أبداً أن نصبح مجانين بمعنى الكلمة، وعملاء «كول» في المستشفيات يعتقدون أن أزواجهم سيعودون إليهم قريباً وسيكونون بحاجة إلى أحذيتهم. في السيناريو الذي نتخيله عن ألم الفقدان، يكون النموذج هو «التعافي من الصدمة». حكم مسبق يفرض نفسه: الأيام الأولى التي تعقب الفاجعة ستكون الأسوأ. نتخيل أن اللحظة التي ستمتحننا بقسوة ستكون الجنازة، وبعدها ستبدأ مرحلة التعافي المفترضة.
في انتظار يوم الجنازة نتساءل ما إذا كنا «سنتجاوز المحنة»، وسنتعامل معها بثبات، وسنظهر «قوة» ستكون، بالنسبة إلى كل من يرانا، رد الفعل الأمثل في مواجهة حدث جلل كالموت. نتوقع أن نكون بحاجة إلى تحصين أنفسنا وتهيئتها من أجل تلك اللحظة: هل سأكون قادراً على مصافحة المعزين، هل سأكون قادراً على مغادرة المكان بعد ذلك، هل سأكون قادراً حتى على ارتداء ملابسي في ذلك اليوم؟ ما من وسيلة تمكننا من معرفة أن المحنة لن تكون في كل ما أسلف ذكره.
ما من وسيلة تمكننا من إدراك أن الجنازة بحد ذاتها ستكون عقارنا المهدئ، ونوعاً من النكوص المخدّر الذي نغلف به أنفسنا بمعونة الاهتمام الذي يشملنا به المعزون وجسامة الحدث ومعناه.
كما لا يمكننا أن ندرك مسبقاً، وهنا يكمن جوهر الفرق بين ألم الفقدان كما نتخيله وألم الفقدان كما هو في الواقع، ذلك الشعور اللامتناهي بالغياب الذي يأتي بعد ذلك، ذلك الشعور بالخواء، بأننا أمام نقيض المعنى بكل تمامه، بتلك الاستمرارية عديمة الرحمة للّحظات التي نعيش خلالها اللامعنى بكل قسوته.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.