سنوات بن لادن في السودان... أسرار جديدة

طرد زعيم «القاعدة» جاء للتعمية على ضلوع نظام البشير في محاولة اغتيال مبارك

زعيم القاعدة أسامة بن لادن
زعيم القاعدة أسامة بن لادن
TT
20

سنوات بن لادن في السودان... أسرار جديدة

زعيم القاعدة أسامة بن لادن
زعيم القاعدة أسامة بن لادن

«سأغادر، ولكنكم لن تحلوا مشاكلكم مع الأميركان»، كان هذا آخر ما نطق به زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، وهو في طريقه إلى سلم الطائرة العسكرية مغادراً الخرطوم، مجبراً، إلى جبال «تورا بورا» في أفغانستان في عام 1996. ولم يكن بن لادن، الذي يصادف ذكرى مقتله اليوم، يتوقع أبداً أن يتم طرده من قبل نظام حكم أصولي يتبنى آيديولوجية إسلامية متشددة تجاه الغرب والأميركيين على وجه الخصوص. لكن نبوءة الرجل صدقت، فبعد عام من مغادرته السودان، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على السودان.
حينما أُبعد بن لادن من الخرطوم كانت قد مضت 7 سنوات على سقوط السودان في قبضة الجماعة الإخوانية الإسلامية، عبر انقلاب عسكري تحت اسم «الإنقاذ» وقع في 30 يونيو (حزيران) 1989، والذي قام بتخطيطه عراب الجماعة في السودان، حسن الترابي، وتحولت بعده الأراضي السودانية إلى قاعدة وملجأ للحركات الجهادية الإسلامية من الدول الأخرى، خاصة العربية.

كانت الولايات المتحدة قد أدرجت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 1993، بعد اتهام حكومته برعاية أنشطة إرهابية، واستضافة زعيم «القاعدة»، وفتح أراضي البلاد للجماعات المتطرفة من شتى أنحاء العالم. وجاء بن لادن إلى السودان في 1991 بغطاء رجل الأعمال والمستثمر، لكنه بطبيعة الحال كان مقرباً من الجماعة الإسلامية التي تحكم البلاد والتي تتبنى شعارات جهادية ضد الغرب ودول الجوار التي تتوافق معه. ونتيجة لذلك جمعت بن لادن لقاءات عديدة في العلن والسر بقادة الجماعة، أمثال عمر البشير وحسن الترابي.
وقالت مصادر من دوائر اتخاذ القرار في التنظيم الإسلامي آنذاك، إن الرئيس المخلوع عمر البشير، ونائبه علي عثمان طه، ذهبا إلى بن لادن في منزله بحي الرياض في الخرطوم، وأبلغاه بترتيبات نقله إلى أفغانستان، وبأن طائرة عسكرية جاهزة في انتظاره.
ووفق المصادر ذاتها، سأل بن لادن زائريه عن مصير أمواله وممتلكاته في السودان، فأكدا له أن أعماله ستصفى وتصله حقوقه كاملة، و«هذا ما لم يحدث بشهادة مقربين من دوائر السلطة آنذاك». وفي الليلة التي حلقت الطائرة التي تحمله خارج الأجواء السودانية، توجه الرئيس ونائبه إلى منزل زعيم الحركة الإسلامية، حسن الترابي، الذي كان يمسك بزمام السلطة الحقيقية، وأبلغاه أن الرجل طلب المغادرة تقديراً منه للأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد، وهذه هي الرواية الرسمية.
لكن المصادر تقول إن طرد زعيم تنظيم «القاعدة»، كانت فكرة علي عثمان محمد طه، في أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري محمد حسني مبارك، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، 1995، والتي أشيع وقتها أنه وراء فصولها. وقد نجح في استمالة عمر البشير إلى صفه في قبول فكرة الطرد.
وذكرت مصادر متطابقة أن طه سعى إلى «التخلص سريعاً» من بن لادن، بعدما شاعت أحاديث عن وجود دلائل تشير إلى ضلوعه مع عناصر في النظام في هذه العملية، وأنه قام بتوفير وسائل لوجيستية لمدبريها.
وقال مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق قطبي المهدي، لـ«الشرق الأوسط» إن دور طه في محاولة اغتيال حسني مبارك، كان يقتصر على توفير الدعم اللوجيستي والتمويل للمجموعتين اللتين نفذتا العملية، وهما عناصر من «الجهاد المصري» و«الجماعة الإسلامية».
وكان زعيم الإسلاميين السودانيين، الدكتور حسن الترابي، قد وجه الاتهام مباشرة إلى طه وهو نائبه في التنظيم في ذاك الوقت، بالضلوع في العملية، في تصريحات نشرتها وسائل إعلام عربية.
وقال الترابي في تلك التصريحات، إن طه أخبره شخصيا بتفاصيل الحادثة، وطلب منه أن يتم تصفية عنصرين من الإسلاميين المتورطين في الحادثة، كانا عادا إلى الخرطوم بعد المحاولة، وتم إبعادهما لاحقا إلى أفغانستان.
وقال الترابي إن طه سحب من أموال الحركة الإسلامية مبلغ مليون ونصف المليون دولار في ذاك الوقت، دون استشارتهم.
ويتطابق ما ذهبت إليه المصادر مع ما يتردد عن شخصية طه في أوساط الإسلاميين السودانيين، بأنه كان على استعداد دائم لـ«فعل أي شيء للحفاظ على منصبه في السلطة، ولو استدعى ذلك التضحية بإخوانه في التنظيم». وقد ردد هذا القول عدد ممن أداروا في الخفاء المؤامرة التي أطاحت، فيما بعد، بشيخه الترابي من السلطة فيما عُرف في السودان بـ«المفاصلة» الشهيرة عام 1999، والتي قسمت الإسلاميين إلى مجموعتين، واحدة ناصرت البشير وبقيت في الحكم والأخرى ناصرت الترابي وخرجت معه إلى المعارضة.
وتؤكد المصادر أن الرواية الرسمية المتداولة عن مغادرة بن لادن السودان، والادعاء بأنها جاءت بـ«رغبة» منه، مجافية للحقيقة، مؤكدة أن بعض «إخوان السودان ضحوا بالرجل» خوفاً مما يمكن أن يجره عليهم من تداعيات فشل محاولة اغتيال مبارك، والتي أيضاً أطاحت بمدير جهاز المخابرات حينها، نافع علي نافع، وقيادات بارزة من الإسلاميين في الجهاز. وأشارت المصادر إلى أن الترابي طلب من البشير عدم إقالة مدير جهاز الأمن والمخابرات لأن ذلك قد يثبت الاتهام على السودان، لكن البشير رفض طلب الترابي واتخذ القرار بمفرده.
وهناك تقارير أخرى أشارت إلى أن الرئيس المخلوع عمر البشير حاول مرارا التخلص من زعيم «القاعدة»، بعد أن ضاقت الأمور على نظامه، لكن محاولاته باءت بالفشل، وحاول تسليمه إلى الولايات المتحدة، لكن الجواب من واشنطن جاءه أنهم «لا يملكون دليلا لمحاكمته وضمان إدانته» وإذا جاء إلى الولايات المتحدة فسيطلق سراحه.
وفي تاريخ متزامن مع تلك الأحداث نشرت مجلة vanity fair الأميركية خطاباً لمدير جهاز المخابرات السوداني وقتها قطبي المهدي، يعرض فيه على مدير وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، استعداد السودان لتسليم بن لادن، إلاّ أنه لم يكن مطلوباً من قبل الأميركيين وقتها، ولم تكن واشنطن مهتمة به حتى ذلك الوقت.
وذكرت تقارير صحافية وقتها أن بن لادن، وحينما علم بمخططات النظام لتسليمه لجهات خارجية، طلب المغادرة، ولكن مصادر «الشرق الأوسط»، القريبة من مركز اتخاذ القرار وقتها، أكدت أن طرد بن لادن كان قرار النظام السوداني، وبالتحديد البشير وعلي عثمان طه.
وقبيل طرد بن لادن مباشرة اعتقل جهاز المخابرات السوداني، كل الإسلاميين الأجانب في السودان، وسلموا الليبيين للقذافي والإريتريين للرئيس أسياس أفورقي، وطرد الإسلاميين من جماعة راشد الغنوشي بطريقة أكثر ترتيباً، وكان بصدد تسليم بن لادن نفسه للولايات المتحدة.
وفي منتصف تسعينات القرن الماضي، أوقفت السلطات الألمانية بمطار فرنكفورت مهندس سوري الجنسية اسمه الأول «عماد» ويكنى «أبو هاجر»، وسلمته للاستخبارات الأميركية، وهو من جماعة «القاعدة» الذين أواهم نظام الإسلاميين في السودان، وأقام في الخرطوم لسنوات، بل كان يؤم المصلين بشكل غير منتظم في مسجد بحي الرياض، شرق الخرطوم، ويقع بالقرب من المنزل الذي كان يقيم فيه بن لادن، وهو المسجد الذي كان يصلي فيه زعيم «القاعدة».
وقال أحد سكان الحي لـ«الشرق الأوسط» إن «أبو هاجر» كان يداوم على إقامة حلقات تلاوة القرآن، ويقدم دروسا في الفقه في ذات المسجد، وكان يرتاده باستمرار أجانب من جنسيات مختلفة يسكنون نفس الحي الراقي، وهم من المقربين لـ«بن لادن». وأضاف «كان بن لادن قليل الحديث والاختلاط بالناس، عدا رد التحايا بصوت منخفض يكاد لا يسمع، وتحرس منزله قوة من جهاز الأمن والمخابرات السوداني».
ومن المفارقات أن المنزل الذي استأجره بن لادن مملوك لشخص سوداني تردد أنه كان مديراً لمصنع «الشفاء» الذي قصفته الولايات المتحدة بصواريخ كروز في 1998، زاعمة أن له صلة بشبكة بن لادن وتنتج فيه أسلحة كيماوية، وذلك في رد فعل غاضب على تفجير سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي. كما تزامن تدمير مصنع الشفاء مع ضربات وجهها الطيران الأميركي لمعسكرات «المجاهدين» في أفغانستان، كانت تستهدف إحداها قتل بن لادن.
ورددت مصادر القول «عندما طلب زعيم تنظيم (القاعدة) القدوم إلى السودان رحب به الترابي الذي كانت تداعبه تمنيات بأن يكون السودان قبلة يأوي إليها العلماء ورجال الأعمال الإسلاميون من كل أنحاء العالم الإسلامي، لذلك ألغى أمامهم تأشيرات الدخول، وفتح الحدود، ومنح الجنسية السودانية لكل من يرغب منهم».
وبعد وصوله إلى السودان انصرف بن لادن إلى استثمار ملايين الدولارات في مشروعات مختلفة، وأسس شركة «وادي العقيق» وشركات أخرى، ونفذ مشاريع في الزراعة والطرق والإنشاءات، ثم اشترى مزرعة تابعة لجامعة الخرطوم تقع في ضاحية سوبا، جنوب العاصمة، واتخذها معسكراً لتدريب جماعته المتعددة الجنسيات، وخصص جزءاً منها كإصطبل لتربية الخيول التي كان مولعا بها.
وأفادت مصادر متطابقة تحدثت إلى «الشرق الأوسط» بأن جماعة بن لادن الذين جاءوا معه إلى السودان كانوا في الأصل مقاتلين تلقوا تدريباً عسكرياً عالياً قبل قدومهم، وأن التدريبات التي يجرونها في المزرعة كان الهدف منها الحفاظ على اللياقة البدنية.
إيواء هذه العناصر القتالية قاد لاحقاً إلى توريط السودان في مستنقع الإرهاب، وذلك استناداً للصلات التي كانت تربط بين قادة نظام الجبهة الإسلامية السودانية بزعيم تنظيم «القاعدة»، والتي تشير إلى قدم العلاقة بين الترابي وتنظيمه مع «الجهاد الأفغاني»، وهي خيوط ترابطت وشكلت صحيفة اتهام للنظام الإسلاموي الذي كان يحكم السودان.
وأرجعت مصادر لـ«الشرق الأوسط» علاقة الترابي بتنظيم الجهاد الأفغاني إلى عام 1979 بعد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان حين كان الرجل وقتها يشغل منصب وزير العدل في حكومة الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري.
وبحسب المصادر، أقنع الترابي رئيسه النميري بفتح أول مكتب للجهاد الأفغاني في العالم العربي بالخرطوم، وتم ذلك في سرية تامة في 1980، وعَيّن للمكتب رئيساً من جماعة برهان الدين رباني، كان على صلة وثيقة بالترابي.
وفي ذلك الحين كان هناك ضابط مخابرات أميركي، يعمل في المكتب الأمني بالسفارة في الخرطوم ويتولى ملف الجهاد الأفغاني. وكانت له صلات وثيقة بقياداته، بيد أنه هرب من السودان بعد الانتفاضة الشعبية في أبريل (نيسان) 1985 التي أطاحت نظام الرئيس نميري.
كان بن لادن شخصية محورية في الجهاد الأفغاني بما يملك من ثروة، ومن ثم علاقته بالإخواني عبد الله عزام الذي ترجح مصادر أنه كان وراء فكرة تأسيس تنظيم «القاعدة».
وتعود علاقة الحركة الإسلامية السودانية بالولايات المتحدة إلى فترة الحرب الباردة وحرب أفغانستان حين صنفت الاستخبارات السوفيتية حركة الإخوان المسلمين ضمن الحركات الواقعة تحت نفوذ المخابرات الأميركية. ويتردد في السودان أن أجيالاً متعددة من قيادات الحركة الإسلامية السودانية تلقوا دراسات جامعية وفوق جامعية في الولايات المتحدة، وأشهرهم: «أحمد عثمان مكي، التجاني أبو جديرة، أمين حسن عمر، سيد الخطيب، إدريس عبد القادر، ربيع حسن أحمد» وغيرهم العشرات.
وكان أول لقاء بين الترابي وبن لادن قد تم في الخرطوم بمنزل الترابي في عام 1988، عقب الفيضانات التي اجتاحت السودان، وجاء بن لادن حينها على رأس وفد إغاثي يرافقه شقيقه الأصغر. وقالت مصادر مقربة من الترابي لـ«الشرق الأوسط»، إن لقاءاته بابن لادن لم تكن كثيرة، وإن معظمها تم في سرية تامة بعيداً عن الأعين. وبحسب هذه المصادر كان الترابي يحاول إقناع بن لادن بالأفكار التجديدية في الفكر الإسلامي مقابل ميول بن لادن للتشدد والغلو، وإلى جانب ذلك كان الرجلان يتجاذبان الحديث عن الاستثمارات في الطرق والزراعة والمطارات. وفي أحد اللقاءات بين الرجلين أبدى بن لادن رغبته في بناء منزل كامل حديث من «الطين»، فاندهش الترابي من معرفته لخصائص التربة في السودان.
وتؤكد ذات المصادر أن الرئيس المعزول البشير كانت تجمعه صلات جيدة أيضاً بـ«بن لادن»، وكان يزوره في منزله ويظهر معه في لقاءات مشهودة خلال افتتاح عدد من مشاريعه في السودان. وكان قادة الدولة يتحاشون الحديث عن أي صلة تربطهم بزعيم تنظيم «القاعدة»، إبان إقامته في السودان، ما عزز الشكوك والريبة لدى القوى الدولية بأن بن لادن لم يقتصر نشاطه على الاستثمار بل تعداه إلى أنشطة أخرى، وأن ذلك يتم بعلم الحكومة السودانية.
ودفع مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني الأسبق قطبي المهدي في حديث لـ«الشرق الأوسط» برواية أخرى، تقول إن الترابي والبشير هما من قررا أن يخرج بن لادن من السودان بشكل عاجل، بعد ضغوط كثيفة من دول الإقليم، بيد أنه لا يستبعد أن يكون نائب الرئيس علي عثمان طه جزءاً من هذا التدبير.
وأضاف المهدي «بعد خروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان في مطلع تسعينات القرن الماضي، وعقب معارك ضارية خاضها المجاهدون الأفغان العرب بدعم أميركي، خافوا أن تقوم أميركا بتسليمهم إلى حكومات بلادهم». وأضاف «دخلت أعداد كبيرة من مقاتلي الجهاد الأفغاني السودان، الذي فتح لهم أراضيه وعمل بعضهم مع بن لادن في مجالات الاستثمار».
وأكد قطبي المهدي أن الحكومة السودانية عرضت على الأميركيين تسليم بن لادن، وجاء ردهم وقتها «لا نملك أي شيء ضده، ولا توجد تهمة محددة ضده»، لذا لم يكن أمام السودان سوى طرده، حتى تبعد شبهات دعمه للإرهاب. وقال مهدي أيضاً إن «أميركا مسؤولة عن صناعة الإرهاب، فهي التي دعمتهم بالسلاح لمحاربة الروس، وبعد انتهاء الحرب الباردة، مارست ضغوطاً على السودان لإبعاد مقاتلي الجهاد الأفغاني من أراضيه، ولو كانت تركتهم لكانوا تحت مسؤولية الحكومة التي تراقب أنشطتهم»، مضيفاً «لم يكن أمامنا سوى إبلاغ تلك العناصر بمغادرة الأراضي السودانية إلى بلدانهم، ولم يتورط جهاز الأمن والمخابرات في ذلك الوقت بتسليمهم إلى المخابرات الأميركية».
ونفى قطبي أية علاقة بين الجماعة المتهمة بالتخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، بـ«بن لادن» أو رفيقه أيمن الظواهري، وقال: «عناصر من (الجهاد المصري) و(الجماعة الإسلامية)، حاولوا أن يقحموا جماعة بن لادن في المحاولة ولكنهم رفضوا».
وأشار قطبي إلى أن نائب الرئيس وقتها علي عثمان طه {لعب دوراً في محاولة اغتيال حسني مبارك... كان يقتصر على توفير الدعم اللوجيستي والتمويل للمجموعتين لتنفيذ العملية. وترسخ اعتقاد قوي لدى نائب الرئيس طه أن مبارك يعد أكبر عقبة أمام العلاقات السودانية - المصرية، وتحسن العلاقات مع دول الخليج وكثير من دول العالم}. لكن المصادر تؤكد أن مقترح الاغتيال جاء من جماعة «الجهاد المصرية» الذين طلبوا منه الإسناد المادي واللوجيستي.
وتشير المصادر إلى أن {التواصل بين المجموعة المصرية ونائب الرئيس تم عبر جهاز المخابرات السوداني، ونتيجته جاء مصطفى حمزة والتقى طه دون علم الرئيس البشير والترابي، وحجبت الزيارة عن إبراهيم السنوسي مسؤول أمانة الحركات الإسلامية والجهادية في التنظيم}، المسجون حالياً بسجن «كوبر» في الخرطوم.
فشلت محاولة الاغتيال وقتل ثلاثة في مسرح الحدث، وألقى الأمن الإثيوبي القبض على ثلاثة، وهرب ثلاثة آخرون إلى السودان، وتردد أنه تمت تصفيتهم لإخفاء الأثر. وقال مصدر أمني طلب حجب اسمه «كانت هناك إدارة خاصة في جهاز المخابرات والأمن السوداني، بجماعة بن لادن وكل الجماعات الجهادية. وعندما بدأ التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب سلم مدير الجهاز، صلاح عبد الله قوش (آنذاك) للاستخبارات الأميركية 300 ملف ومعلومات قيمة عن جماعة بن لادن، واعتبرت طعنة وجهها النظام في السودان لإخوانه من الإسلاميين. واعتبرت المخابرات الأميركية عدم تعاون إدارة الرئيس بيل كلنتون مع السودان سبباً مباشراً في هجمات سبتمبر، وأنها لو اطلعت على تلك المعلومات المهمة التي سلمتها لهم المخابرات السودانية، لتجنبت نيويورك الضربة التي غيرت وجه العالم. وهكذا كانت أفغانستان هي الخيار الأوحد الآمن لاستقبال بن لادن، لأنها كانت تحت حكم طالبان وصدقت توقعات الرجل، إذ إن طالبان رفضت تسليمه وظل تحت حمايتها إلى أن لقي مصرعه».



«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

0 seconds of 11 minutes, 10 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
11:10
11:10
 
TT
20

«الحرب نائمة فلا توقظوها»... نصفُ قرنٍ على «نيسان» لبنان

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

انقضى نصف قرنٍ على ما قيل إنها الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان، حادثة «بوسطة عين الرمّانة». يحلو للبعض الظن أن القلوب ما عادت ملآنة، فيما يخشى البعض الآخر من أن تكون «الحرب نائمة تحت الوسائد». لكن المؤكّد أن البوسطة التي أُطلق عليها الرصاص في 13 أبريل (نيسان) 1975 استحالت صدأً.

«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)
«بوسطة عين الرمّانة» التي كانت بمثابة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب اللبنانية (أ.ف.ب)

ظهيرة ذلك الأحد المشمس، تعرّضت حافلة تقلّ مجموعة من منظّمة التحرير الفلسطينية لإطلاق نار من عناصر حزب الكتائب في منطقة عين الرمّانة ذات الغالبية المسيحية. سقط 27 شخصاً من أصل 30 كانوا يستقلّون الحافلة. وكان قد سبق ذلك وفي اليوم والمكان نفسَيهما، إطلاق نار استهدف مرافقي مؤسس حزب الكتائب بيار الجميّل، مما أدّى إلى مقتل عددٍ منهم. وحُكي أنّ الهدف الأساسيّ كان اغتيال الجميّل نفسه.

حتى اليوم، ما زالت الآراء والمعلومات متضاربة بين الطرفين بشأن خلفيات الحادثة ونتائجها. غير أنّ التاريخ الحديث يعتبرها النقطة المفصليّة التي أطلقت صفّارة الحرب في لبنان، وكل ما تلاها من دويّ وحطام ودماء.

في الذكرى الخمسين لـ«13 نيسان»، تعود «الشرق الأوسط» إلى ذلك اليوم الدامي، فتستضيف مجموعةً ممّن شهدوا عليه. بعضهم وقف على جبهة القتال، ومنهم من حاول إخماد النار، ومنهم مَن وثَّق بعينَيه وذاكرته وندوبِه.

أين كنت في ذلك اليوم، وما كان تمَوضعك السياسيّ؟ وهل تعلَّم اللبنانيون درس الحرب الأهلية؟ سؤالان طرحناهما على ضيوفنا الشهود والآتين من عوالم السياسة، والثقافة، والتعليم، والحقوق، والإعلام.

ياسمين (نانو) جمهوري – مقاتلة سابقة ومسؤولة حالية في حزب الكتائب

تتذكّر ياسمين جمهوري ذلك اليوم بوضوح. «كنّا متّجهين إلى المطار لإيصال والدي الذي كان مسافراً، وفي الطريق لاحظنا انتشاراً عسكرياً فلسطينياً». كانت رئيسة قسم بعبدا الكتائبيّ، والمعروفة بـ«نانو»، في الـ13 آنذاك. رغم سنّها الصغير، كانت قد انتسبت للحزب المسيحيّ، «بما أنّ الانتماء الكتائبي في بيتنا يسري في العروق أباً عن جدّ، وأماً عن جدّة».

ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)
ياسمين «نانو» جمهوري بالزيّ العسكري في مطلع الثمانينيات (أرشيف جمهوري)

عادت العائلة من المطار إلى البيت حيث سمعت خبر استهداف «البوسطة» عبر الراديو. تروي جمهوري: «لم أتفاجأ كثيراً لأننا كنا نلاحظ تحركات مريبة في المنطقة. لكن لم أفهم شيئاً كفتاة في الـ13 من عمري». كل ما تعرفه أنها وخلال أيام، حملت البندقية هي وفتيات أخريات ووقفن لحراسة مراكز الحزب، «فيما الشباب يقاتلون على الجبهات».

خضعت «نانو» لتدريبات عسكرية وشاركت في معركة كفرشيما، ثم تمركزت على المدفعيّة في الـ19 من عمرها خلال معركة زحلة. حدث ذلك بالتزامن مع تخصصها في إدارة الأعمال المعلوماتيّة في الجامعة اليسوعية. «كنّا الجبهة المساندة للشباب في منطقة عيون السيمان، نحضّر ملابسهم وطعامهم ونقوم بالحراسة ليلاً». وتضيف جمهوري: «كل ما قمت به كان انطلاقاً من إيماني بلبنان وتجذّري بأرضه. لم أندم يوماً، وإذا اقتضى الأمر فسأحمل السلاح من جديد». لكنها في المقابل تؤكّد أنها من الجيل الذي تعلّم دروس الحرب، «أما بعض القادة السياسيين فلم يفعل».

«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري
«ما زلت أبكي كلما ذكرت اسم رفيقي منير الذي استُشهد عندما كنا في الـ14 من العمر» - ياسمين جمهوري

أسعد الشفتري - مسؤول أمني سابق في حزبَي الكتائب والقوات ونائب رئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

في 13 أبريل 1975، كان أسعد الشفتري طالب هندسة في الـ20 من عمره يجلس إلى مائدة الغداء مع أهله في بيتهم في بيروت. «رنّ جرس الهاتف وجاء صوت الرفيق في حزب الكتائب سليم صادر لينبئني بما حصل». توجّه الشفتري فوراً إلى مركز الحزب، وبدأت رحلة تجهيز شبكة التواصل والتنصّت الخاصة بالحزب. يروي مستذكراً: «بعد الحادثة، انطلقت إلى منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة، حيث ركّبت أول جهاز لا سلكي على سطح أحد المباني.»

أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)
أسعد الشفتري بالزيّ الحربي وفي لقطة مع الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميّل (أرشيف الشفتري)

كانت تلك من بين أولى المهمات، التي تلاها ما هو أصعب وأكثر تعقيداً، إذ أصبح الشفتري أحد الرؤوس الأمنية في حزب الكتائب، ولاحقاً في القوات اللبنانية. أسأله عن أفظع ما رأى خلال تلك المرحلة فيجيب: «كانت مجموعة من مقاتلي حزب الكتائب متّجهة إلى إحدى مناطق التماس في بيروت. جهّزتهم بالأدوات اللاسلكية للتواصل معنا، ثم لمحت الموت في عيون اثنين منهم. هذان الشابان لم يعودا أبداً من المهمة. شعرت بذنبٍ ما زال يرافقني حتى اللحظة».

يحاول الشفتري محو هذا الذنب «بتأسيس حياة أفضل للأجيال اللاحقة كي لا يخوضوا هذه الحروب»، وفق تعبيره. يبوح بأنه «نادم على ارتكابات كثيرة»، لكنه راضٍ عن واقعه الجديد: «أنا الآن متسامح، ولديّ قناعة بأنّ العنف لا يؤدّي إلى حلول». برأيه، فإنّ «اللبنانيين لم يتعلموا الدرس لأن السلطة لم تؤسس لعدالة انتقالية تأخذنا من الحرب إلى السلام».

يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات
يكرّس أسعد الشفتري وقته منذ ربع قرن لإعادة بناء السلام من خلال ورش تدريبية ومحاضرات

زياد صعب - مقاتل سابق في الحزب الشيوعي ورئيس جمعية «محاربون من أجل السلام»

لم يُسمع أزيز رصاص عين الرمانة في منطقة برج حمّود، حيث كان يمضي زياد صعب ظهيرة الأحد على سطح منزله. كان على العنصر الشاب في الحزب الشيوعي أن ينتظر زيارة رفيقٍ له حتى يخبره بما حدث. يروي لـ«الشرق الأوسط»: «كنت في الـ16 ومتعطشاً للقتال. وفور سماعي الخبر سألت متى ننطلق». يتابع صعب: «جمعت الشباب وذهبنا إلى أحد المنازل القريبة، وجهّزنا السلاح المخبأً هناك».

كانت لديه ثقة قائد ميدانيّ، بينما مَن في سنّه جالسون إلى مقاعد الدراسة. «لم تكن هناك مدرسة ثانوية في منطقتنا. ظننّا أن العلم ممنوع علينا، ولم نجد سوى العنف بديلاً عن العلم كوسيلة للتغيير. وعندما فُتحت لنا مدرسة وصرت مسؤولاً عن شؤون الطلاب، كانت الحرب قد اندلعت فانتقل التلاميذ من الصفوف إلى الجبهات».

زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)
زياد صعب على الجبهة في منطقة الرميلة (أرشيفه الخاص)

ما زال مشهد «الجثة الأولى» عالقاً في ذاكرته: «حدث ذلك في يونيو (حزيران) 1975. كان صديقاً من عمري... اختفى قبل أيام، وذهبت للبحث عنه في منطقة سن الفيل فوجدته جثة ملقاة أرضاً، بعد أن تعرّضت للتعذيب والتشويه».

يندم على 15 سنة أمضاها محارباً، ويتأسف على لبنانيين تعلموا الدرس لكنهم لا يقومون بأي فعلٍ من أجل التغيير. أما هو فيحاول التعويض من خلال جمعية «محاربون من أجل السلام». أسسها إلى جانب محاربين قدامى من الأحزاب التي كانت متناحرة خلال الحرب. جمع زياد صعب أعداء الجبهات فباتوا رفاق السِلم.

أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»
أسس زياد صعب مع عدد من المحاربين القدامى جمعية «محاربون من أجل السلام»

فؤاد السنيورة - الرئيس السابق للحكومة اللبنانية

في 13 أبريل 1975 كان فؤاد السنيورة في بيته في صيدا، ولم يعلم بالحادثة التي وقعت ظهراً سوى في المساء. «كان حدثاً جللاً خصوصاً أنه كان قتلاً متعمداً»، يقول الرئيس السابق للحكومة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط»: «لكننا لم نتصور أن تنجرف الأمور بعده إلى ما هو أدهى بكثير».

لطالما كان هوى السنيورة عروبياً، لكنه في تلك الآونة لم يكن منضوياً تحت لواء أي حزب: «كنت قد انسحبت من حركة القوميين العرب في منتصف الستينيات». تفرّغ للأنشطة الثقافية والتدريس. وفي أحد أيام خريف 1975، وفيما كان يقود سيارته برفقة زميله الأستاذ الجامعيّ د. حسن صعب من شارع بلِس إلى منطقة القنطاري، حصل ما لن ينساه مدى العمر.

الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)
الرئيس فؤاد السنيورة يتلو الفاتحة على ضريح الرئيس رفيق الحريري (موقعه الرسمي)

يروي السنيورة: «كانت نافذة السيارة مفتوحة فسمعت صوتاً ينادي: وقّف... وقّف. تبيّن أن هناك حاجزاً لمسلّحين من حزب الكتائب. خرج من خلف «الدشمة» شخص ملثّم ومسلّح وقال: «يا دكتور حسن كنت رح قوّسكن لو ما عرفتك... أنت استاذي بالجامعة. الله معكن». تركت تلك الحادثة أثراً كبيراً في نفسه، خصوصاً أنها «كانت مؤشّراً إلى انضمام جيل كامل من الشباب للحرب الأهلية».

اليوم، وبعد 50 عاماً على تلك اللحظة، يرى السنيورة أن «ثمة لبنانيين استخلصوا العِبَر من الحرب ومنهم مَن لم يفعل». لكن المؤكّد في نظره، هو أنّ «المجتمع اللبناني ما عاد راغباً في خوض حروبٍ أهلية بعد الآن، والدليل احتضانه بعضاً لبعض خلال العدوان الإسرائيلي الأخير».

السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)
السنيورة في مظاهرة 14 مارس 2005 (موقعه الرسمي)

أكرم شهيّب - قياديّ في الحزب التقدّمي الاشتراكي، نائب حالي ووزير سابق

لم يكن أكرم شهيّب قد انتسب بعد إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي، يوم وردَ إلى دارة أهله في عاليه نبأ بوسطة عين الرمانة. كان الشاب منخرطاً في مجال التعليم بعد أن استكمل دراسته في جامعة القاهرة، غير أنّ الهوى السياسيّ في البيت كان اشتراكياً، و«كمال جنبلاط القامة الوطنية والمرجع».

يخبر شهيّب أن الخبر لم يفاجئه كثيراً حينها، «لأنّي كنتُ في جوّ الاستنفار النفسي الحاصل في معظم المناطق اللبنانية». يتابع: «صحيح أن بوسطة عين الرمانة كانت الشرارة الأولى، لكن لو لم تندلع في عين الرمانة لاندلعت في مكان آخر. الأوضاع الإقليمية والمحلية كانت ستفرض الحرب عاجلاً أم آجلاً».

النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)
النائب والوزير السابق أكرم شهيّب (أرشيفه الخاص)

من السنوات الدامية تلك، أكثر ما يؤلم أكرم شهيّب «رفاقٌ أصيبوا في الحرب وما زالوا على الكرسي المتحرك حتى اليوم. الظلم الذي تعرضوا له يحزّ في نفسي. هذا مشهد من الحاضر يذكّرنا يومياً بمأساة الماضي».

لا يندم الرجل، الذي خاض الحرب والسِلم إلى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط، على شيء قام به. «كنت أسعى في مراحل للدفاع عن النفس، هذا كان دوري وكنت مثل الجميع أعتبر أنني كنت على حق والآخر على خطأ».

يعتبر شهيّب أنّ «مصالحة الجبل» عام 2000، والتي بادر إليها وليد جنبلاط والبطريرك صفير «وضعت اللبنة الأساسية لتضميد الجراح». يبدو مطمئناً إلى أن اللبنانيين تعلّموا الدرس، لكنّ «غليان المنطقة» يقلقه لأنه «ينذر بما هو أصعب».

شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)
شهيّب برفقة وليد جنبلاط في مطلع الثمانينيات (أرشيفه الخاص)

إلياس عطا الله - قيادي سابق في الحزب الشيوعي، أمين سر حركة اليسار الديمقراطي ونائب سابق

عقب حادثة بوسطة عين الرمانة، لم يكن الياس عطا الله يتوقّع أنّ «تتدهور الأمور إلى هذا الحدّ وأن تكون تلك مقدّمة لحرب أهلية». يخبر «الشرق الأوسط» أنه كان حينها في الـ28 من عمره ورئيس فرع كلية التربية في الجامعة اللبنانية في اتحاد الشباب الديمقراطي.

«في أحد الأيام، وفيما كنت متّجهاً سيراً على الأقدام إلى الجامعة سمعت قصفاً للطيران، وكنت في نقطة قريبة من المدينة الرياضية. بالنسبة لي، كان هذا المشهد بداية الحرب في لبنان»، يروي إلياس عطا الله.

إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)
إلياس عطا الله متوسطاً إحدى المظاهرات في بيروت في السبعينيات (أرشيفه الخاص)

أمّا الصورة التي لا تُمحى من مخيّلته فسُجّلت في نهاية 1975: «كنت في مهمة حزبية في منطقة حيّ السلّم عندما رأيت كتبَ مكتبة جامعتي مرميّةً في الوحل أرضاً... سُرقت من الجامعة ورُميت مع كراسٍ وصحون محطّمة». يتابع عطا الله: «لا شيء آلمَني بقدر ما فعل هذا المشهد، خصوصاً أنني شاركت في تجهيز جزء من تلك المكتبة».

مع أنه لم يحارب ولم يطلق النار وفق ما يؤكّد، بل كان منسّق عمليات جبهة المقاومة الوطنية، غير أنّ إلياس عطا الله «نادم على التكيّف مع الحرب، وعلى مساري فيها». يضيف متأسفاً: «ذاك لم يكن أنا، بل شخص آخر». وبعد، هو يستبعد أن تكون الحرب قد انتهت في أذهان اللبنانيين، «لا سيّما أن الوعي الجماعي معتاد على الفساد والكسل».

إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)
إلياس عطا الله والكاتب إلياس خوري يوم اغتيال الصحافي سمير قصير (أ.ف.ب)

رشيد درباس - وزير سابق ونقيب المحامين في طرابلس سابقاً

في الحقبة التي شهدت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان ابنُ طرابلس الوزير السابق رشيد درباس يجاهر بهواه الفلسطيني وبانتمائه للحركة الوطنية اللبنانية.

كان في بغداد يوم 13 أبريل 1975 مشاركاً في مؤتمر اتحاد المحامين العرب. ولدى عودته بعد أيام سالكاً الطريق البحري بالتاكسي من مرفأ بيروت إلى عاصمة الشمال، لم يلحظ ما يقلقه أو ينبئه بتدهور الأوضاع.

تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)
تولّى رشيد درباس وزارة الشؤون الاجتماعية ما بين 2014 و2016 (موقع رئاسة الحكومة اللبنانية)

لكن ما لم يكن في الحسبان حصل، وامتدّ النزيف إلى طرابلس حيث اختبر درباس الحرب على طريقته. هو الفلسطينيّ العروبيّ الهوى سرعان ما أصابه الخذلان. يبوح لـ«الشرق الأوسط»: «أندم لأنني انغمست إلى أذنيّ، ليس قتالاً، إنما التصاقاً بالحركة الوطنية والقيادات الفلسطينية. أصابتني اليقظة يوم حوصر مرفأ طرابلس من الزوارق السورية، فتبيّن لي أن المقاومة الوطنية ليست خطاً واحداً كما كنت أظنّ، وأنّ الجيش السوري بات رديفاً للقوى اليمينية التي كنا نحارب»، يتابع: «لديّ الشجاعة اليوم لأقول إنني لم أكن متبصّراً».

رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)
رشيد درباس مصافحاً وليد جنبلاط (أرشيفه الخاص)

اختبر درباس محاولات القتل والخطف، مما اضطرّه إلى السفر إلى قبرص عام 1977 والابتعاد عن عائلته؛ «لم أشارك في جنازة أبي الذي توفّي في غيابي وما زال هذا الجرح في قلبي. طعنتني كذلك خسارة عدد كبير من الأصدقاء شهداءَ في تلك الحرب».

وفق درباس، فإنّ «اللبنانيين تعلموا الدرس لكن القوى السياسية لم تتخلص من ارتباطاتها الخارجية».

مي كحّالة - صحافية وأول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية اللبنانية

كانت مي كحّالة تمضي ذاك الأحد المشمس مع عائلتها في بيتهم الجبليّ. «سمعنا بأنّ أمراً ما حدث في عين الرمانة، فعدنا أدراجنا إلى منزلنا في سن الفيل شرقي بيروت. شاهدنا على طريق العودة وعلى مقربة من المنزل حواجز فلسطينية. لكن ليس سوى مساءً حتى عرفنا التفاصيل عبر إذاعة مونتي كارلو، ولم ننم في تلك الليلة من أزيز الرصاص».

تخبر الإعلامية والمستشارة الإعلامية السابقة لرئاسة الجمهورية: «ربيت في بيت لا انتماء سياسياً لديه، لذا لم أستوعب ما يجري، إلى أن بدأت القوى الفلسطينية المحيطة بالبيت تتحرّك. أقفلت طرقات كثيرة وصار التنقّل صعباً. عشت قلقاً كبيراً لكني كنت أعتقد دائماً أنها مرحلة وستمرّ».

مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)
مي كحالة أول مستشارة إعلامية لرئاسة الجمهورية برفقة الرئيس الراحل إلياس الهراوي (أرشيفها الخاص)

من البيت المسالم مباشرةً إلى الميدان، انتقلت كحّالة مراسلةً حربيّة لصحيفة «النهار»؛ «كان الاتّكال على الصحافيات الإناث أكثر في تلك المهمات حينذاك، بما أنّ الذكور كانوا عرضةً للخطف والقتل على الهوية. خاطرتُ كثيراً، وأكبر مخاطرة كانت محاولة العبور إلى الجنوب لتغطية الاجتياح الإسرائيلي. هناك، علقنا بين نار القنص الإسرائيلي والجهات التي كانت تردّ عليه».

أما أفظع مشهد فهكذا سجّلته ذاكرتها: «كنت أعبر من منطقة المتحف باتجاه المحكمة العسكرية حيث تنتظرني سيارة من الجريدة. رأيتُ جندياً مختبئاً خلف دبّابته ويومئ لي من البعيد بأن أركض. ركضت فوجدت جثة أرضاً وتجمّدت بدل أن أهرب من القنص. ما زلت أذكر وجه الرجل المقتول حتى الآن...».

تأسف كحّالة لأن اللبنانيين لم يتعلموا الدرس، «فهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً».

«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة
«لم يتعلّم اللبنانيون درس الحرب لأنهم ما زالوا يتقاتلون ثم يعودون للعيش معاً» - مي كحّالة

عبد الحليم كركلّا - المؤسّس والمدير الفني لمسرح كركلّا

تركت «الشرارة الأولى» للحرب الأهلية ندوباً عميقة في جسد فرقة «كركلّا» للرقص. يروي مؤسّس المسرح العريق، عبد الحليم كركلّا، لـ«الشرق الأوسط» كيف انهمر الرصاص على سيارات الراقصين أثناء عودتهم من افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في 13 أبريل 1975.

«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)
«13 نيسان» 1975 افتتاح مسرحية «غرائب العجائب وعجائب الغرائب» في قصر الأونيسكو في بيروت (أرشيف مسرح كركلّا)

بغصّةٍ ما زالت ترافقه حتى اليوم، يقول كركلّا: «طال الرصاص عدداً من الراقصين مما أدّى إلى إصابة نجمة الفرقة أميرة ماجد بالشلل، كما اخترقت رصاصة جسد ملكة جمال لبنان مارسيل حرّو التي كانت معنا».

لكن التحدّي الأكبر بالنسبة إلى كركلّا كان «الحفاظ على تركيبة الفرقة كي لا تتفرّق كما تفرّق لبنان، خصوصاً أنّها تعكس صورة الوطن المتنوّع». يتابع: «صرنا نهرب من الأماكن الخطرة إلى الأماكن الآمنة. من بيروت إلى جونية». لم يتوقف المسرح خلال الحرب اللبنانية لا في الداخل ولا في الخارج. «وعندما بدأت القذائف تطال مركزنا في جونية، انتقلنا إلى طرابلس. ومن طرابلس إلى بعلبك حيث تابعت الفرقة تدريباتها. ثم من بعلبك إلى الشوف بدعوة من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط».

عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)
عبد الحليم كركلّا ووليد جنبلاط في قصر المختارة (أرشيف مسرح كركلّا)

أما أفظع مشهد عالق في ذاكرة كركلّا، فهو انهمار القنابل والقذائف حول سيارات الفرقة، خلال انتقالها «من المكان الذي كنا نظنه آمناً إلى مكان أكثر أماناً»، وفق تعبيره. هو الذي استطاع الحفاظ على الفرقة وعروضها حتى في أعتى أيام الحرب، يرجو أن «يكون اللبنانيون قد تعلموا الدرس لأنهم يحبون الازدهار والثقافة والحرية».

«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا
«أفظع مشاهد الحرب كان انهمار القنابل والقذائف حول الفرقة خلال تنقّلاتها» عبد الحليم كركلّا

عصام خليفة - مؤرّخ وباحث أكاديمي وأستاذ جامعي وناشط نقابي

«بوسطة» من نوعٍ آخر استقلّها عصام خليفة في 13 أبريل 1975، فأستاذ التاريخ في ثانوية البترون كان يرافق طلّابه في رحلة إلى البقاع والليطاني. «في طريق العودة، عبرنا صيدا وبيروت من دون أن ندري بما حدث. وصلنا مساءً لنجد الأهالي متجمهرين ينتظرون أولادهم بقلق، وهناك اكتشفنا ما حدث. كان الجو محتقناً فلم أتفاجأ كثيراً بالخبر».

كان خليفة قد أسس «حركة الوعي» التي نشأت من قلب الجامعة اللبنانية. يشرح: «كنا مع عدالة القضية الفلسطينية لكن رفضنا التدخل الفلسطيني بالشأن اللبناني، خصوصاً التمدد العسكري على حساب السيادة. كنا متمايزين عن اليسار واليمين اللبنانيَين».

أفظع ما شاهد وما زال محفوراً في ذاكرته حصل فيما كان يدرّس في بيروت: «كنت عائداً إلى شقّتي بعد الدوام، حاولت فتح الباب فلم أفلح. فتحت الباب امرأة تحمل بندقية وسألتني: (من أنت). أنا الذي لم أحمل السلاح يوماً، أجبتها بأني صاحب الشقة فقالت: (إذا عدت إلى هنا ستموت)».

يتابع خليفة: «في تلك الآونة، حاولنا من خلال مجموعات وحركات ثقافية تغييرية أن نجمع الناس من كل الأطراف لتتحاور ضد الحرب والعنف. نظمنا تظاهرات نقابية وثقافية وحاولنا إزالة السواتر الفاصلة بين «شرقية» و«غربية». ناضلت من أجل السلام لذلك لا أندم على شيء. لكن لو تعلّم اللبنانيون الدرس من الحرب لما راهنوا على الخارج حتى الآن».

المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)
المؤرّخ والباحث الأكاديمي د. عصام خليفة (إكس)

علويّة صبح - كاتبة وصحافية لبنانية

تخبر الروائية والصحافية اللبنانية علويّة صبح أنها في 13 أبريل 1975، كانت في منزل ذويها في منطقة السبتيّة شرقي بيروت. كانت حينها طالبةً جامعيّة يساريّة الهوى، تتخصص في الأدبَين العربي والإنجليزي. «كنت أؤمن بالعلمنة وبنظام مدني، وافترضت أن الحزب الشيوعي والحركة الوطنية هدفهما ذلك. لكن لاحقاً تملّكتني خيبة وانزويت وابتعدت».

لم تكن تعرف حينها أنّ خيبات الحرب ليست عقائديّة فحسب، بل قد تتحوّل في أي لحظة إلى صدماتٍ ترافق المرء مدى العمر. تقول إنها لا تزال تكتب عن الحرب كي تمحوها من ذاكرتها الشخصية.

بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)
بطاقة الانتساب إلى الجامعة اللبنانية الخاصة بعلويّة صبح (أرشيفها الخاص)

ما لم تستطع محوه حتى اللحظة هو هذا المشهد: «سمعتُ نداءاتٍ في منطقة برج حمّود، حيث كنّا قد انتقلنا، تطلب المساعدة في نقل جثث ضحايا مدنيّين إلى المسجد». تبرّعت علويّة صبح لأداء المهمة، فملأت المقاعد الخلفيّة وسطح سيارتها بالجثث ونقلتهم. «كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جثة. توهّمت الشجاعة وعندما وصلت إلى البيت أخبرت الحكاية لأهلي بفخر وكأنني بطلة، لكن الكوابيس التي أصابتني تلك الليلة دفعتني إلى الصراخ وأنا نائمة. وما زال هذا المشهد القاسي يلازمني منذ ذلك الحين».

أما أكثر ما يؤلمها اليوم فهو أن أبناء بلدها لم يتعلّموا الدرس، بل احترفوا صناعة الطائفية. تتساءل: كيف يُشفى المجتمع من ندوبه إن لم يقُم أي زعيم بنقدٍ ذاتيّ وظلّ متمسكاً بأنه على صواب وسواه على خطأ؟

«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح
«نقلت جثث مدنيين في سيارتي وما زال المشهد يرافقني إلى اليوم» - علويّة صبح

ندى عبد الصمد - إعلامية لبنانية

يوم تعرّضت «البوسطة» لإطلاق الرصاص، كانت ندى عبد الصمد في الـ10 من العمر. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «شعرت بأن أمراً كبيراً حدث لأنّ معارف أهلي بدأوا بالتوافد إلى منزلنا في بيروت. كان والدي منتسباً إلى الحزب الشيوعي، أما والدتي فمنخرطة في لجنة حقوق المرأة في الحزب».

يكرّ شريط الذكريات في رأس الإعلامية اللبنانية: «طريق الذهاب والعودة من وإلى المدرسة تحت القصف. نشوء التنظيمات المسلحة الصغيرة بعد حرب الفنادق، وتَمركُز بعضها تحت بيتنا. أذكر كيف كانوا يشتبكون... مثل «الصاعقة»، و«أبو كوسا» وغيرهما ممّن كان تمويلهم فلسطينياً».

أما أبشع المشاهد فسُجّل يوم السبت الأسود في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1975: «رافقت والدي إلى مركز عمله في شركة الكهرباء. وفي الطريق إلى هناك من جهة المرفأ رأينا جثتين، بالتزامن مع بداية المجازر على الهوية...».

الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد
الإعلامية اللبنانية ندى عبد الصمد

في اعتقاد ندى عبد الصمد، مهّدت حرب الـ75 الدرب لفرزٍ مذهبيّ، «فاتخذت الأحزاب طابعاً طائفياً بعد أن كانت مختلطة ومتنوعة». انطلاقاً من ذلك، فهي ليست مطمئنّة إلى أنّ اللبنانيين تعلّموا درس الحرب، بل تذهب إلى حدّ القول: «أعتقد أنهم قد يكررونها لكن بأشكال ثانية، لا سيّما أنّ لبنان بتركيبته الطائفية يؤسس لحروب مذهبية بسبب المحاصصة القائمة». وتتابع ندى عبد الصمد: «المشكلة هي في أننا ما زلنا ننتج الأشخاص أنفسهم والأنظمة ذاتها».

باترك باز - مصوّر صحفي

«كنت في الـ11 من عمري. أذكر أننا في الأيام التالية للحادثة، وأنا عائد إلى البيت في باص المدرسة، رأيت انتشاراً مسلّحاً في منطقة فرن الشباك المحاذية لعين الرمانة. ما زلت أرى أمام عينيّ أقنعة المسلّحين وهي تغطّي وجوههم». هكذا يتذكّر باتريك باز الأيام التي تلت حادثة عين الرمّانة.

مع الوقت، أراد أن يصبح مثل هؤلاء المسلّحين. يوضح: «كانوا المرجع القوي الوحيد، وكأطفال رغبنا في تقليدهم». لاحقاً، عندما اتّسع وجود مسلّحي الكتائب وصار تحت بيت باز في منطقة التباريس، بات المقاتلون يلعبون كرة القدم مع أطفال الحيّ. «مشهد لا أنساه من تلك الفترة ولعلّه أفظع ما شهدت: أحد هؤلاء الشبان شاركَنا اللعب ثم اتجه صوب الجبهة ليعود من جديد، إنما محمّلاً على كتفَي رفيقه».

المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)
المصوّر باتريك باز في سن الـ18 (أرشيفه الخاص)

من طفلٍ يلاعب الكرة إلى فتىً يحمل السلاح، تحوّل باتريك باز في غضون أشهر. «حملت السلاح لأول مرة في الـ14 من عمري وكنت أذهب إلى المدرسة والمسدّس على خاصرتي تحت القميص. ومع الشبان المقاتلين كنا نتدرب عليه بإطلاق النار على أهداف وهمية».

«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز
«سرت الحرب في دمي فقررت أن أعيشها من دون إطلاق النار على أحد» - باتريك باز

إلّا أنّ الوعي الذي اكتسبه بعد خروجه من لبنان لسنتَين خلال الحرب، ساهم في تغيير سلوكه. «من جبهة القتال انتقلت إلى جبهة التصوير واستبدلت بالرشّاش الكاميرا في سن الـ18. عبر العدسة أردت أن أعيش الحرب من دون أن أطلق النار على أحد»، يقول باز.