لم يكن أحد يتوقع هذا؛ فقد أتى أبريل (نيسان)، وها هو يلفظ أيامه الأخيرة، من دون «أكاذيبه»، حتى إن محرك البحث الشهير «غوغل»، امتنع عن ممارسة تقليده السنوي بإحياء «كذبة أبريل»، للمرة الأولى منذ نحو عقدين، وهددت السلطات المعنية في أكثر من دولة بفرض عقوبات رادعة في حال ممارسة هذا التقليد.
غابت «كذبة أبريل» إذن، لكن ملايين الأكاذيب الأخرى ظلت تتفاعل في الفضاء الإعلامي والسيبراني، ضمن ما سماه الأمين العام للأمم المتحدة «الوباء المعلوماتي»؛ وهي أكاذيب وجد بعضها ملاحقة وإصراراً على معاقبة من يرتكبها.
أُلغيت «كذبة أبريل»، أو غابت، بسبب هشاشة الأوضاع العالمية تحت وطأة الجائحة، وانتشرت الأكاذيب الأخرى مستفيدة من تلك الهشاشة، ومن عوارٍ جوهري يميّز فضاءنا الاتصالي، فزاد حجم الضغوط على الدول والشعوب؛ وفي مثل تلك الأوضاع عادةً تنشأ قيود جديدة على حرية الإعلام.
في شهر مارس (آذار) الماضي، ألقى الرئيس الفرنسي ماكرون، خطاباً مهماً تحت وطأة ضربات «كورونا»؛ وكان أبرز ما فيه قوله: «نحن في حالة حرب». لقد وجد ماكرون أن بلاده باتت في حالة حرب فعلية؛ لذلك فقد أقدم على اتخاذ قرار مهم، سيتخذه لاحقاً عدد من الرؤساء والقادة في مناطق مختلفة من العالم؛ إذ أعلن إطلاق عملية عسكرية تُكلف خلالها القوات المسلحة بالقيام بأدوار محددة لمواجهة الوباء.
«حالة الحرب» التي تحدث عنها ماكرون لا تخص فرنسا وحدها، إذ إن عدداً كبيراً من قادة دول العالم استخدموا هذا التعبير، وظهرت إشارات كثيرة إلى درجات متباينة من التعبئة العامة، أو تفعيل قوانين استثنائية، للحد من آثار «كورونا» الكارثية.
لطالما تغذت الحروب على الهوامش المتاحة لحرية الإعلام، ولطالما أسكتت المحن الجسام أصوات المدافعين عن تلك الحرية.
تُعد تلك الأجواء مثالية لكارهي حرية الإعلام والمتربصين بها؛ أو كان هذا على الأقل ما قاله معارضون في المجر احتجاجاً على تفعيل قانون الطوارئ في ظل مواجهة الجائحة، كذلك انتقدت المنظمات الحقوقية إقدام تركيا على اعتقال أو استدعاء عشرة صحافيين، والتحقيق معهم بتهمة «نشر الذعر»، وندد برلمانيون في الهند بمحاولة الحكومة فرض رقابة سابقة على محتوى وسائل الإعلام.
يعتقد «المعهد الدولي للصحافة» أن أكثر من 130 انتهاكاً محتملاً لحرية الإعلام حدث منذ تفشى الفيروس، ويرصد اعتقال 40 صحافياً على الأقل، بينما تجزم منظمة «مراسلون بلا حدود» بأن «بعض الدول التي تفشى فيها الفيروس مثل الصين وإيران لم تتمكن وسائل الإعلام فيها من أداء وظيفتها»، أما في تركمانستان فقد حدث شيء غريب؛ إذ حظرت الحكومة استخدام تعبير «فيروس (كورونا)» في وسائل الإعلام الحكومية.
لا يقتصر الأمر على «الدول الاستبدادية»، لأن القيود التي فُرضت على حرية الإعلام وصلت إلى بعض دول الشمال، كما طالت وسائل إعلام دولية مرموقة؛ مثل «رويترز»، التي علقت الحكومة العراقية عملها لمدة ثلاثة أشهر، بداعي نشرها «أخباراً كاذبة بشأن الفيروس».
في نهاية الشهر الفائت، رأت منظمة «اليونيسكو» أن «حرية الصحافة في هذه الأثناء باتت مهمة أكثر من أي وقت مضى»، بينما واصلت منظمات حقوقية مرموقة التنديد بما رأت أنه «استخدام بعض الدول تفشي الوباء كذريعة لتقييد المعلومات وحظر الانتقاد».
ضرب «كورونا» الإعلام ضربات شديدة، ونال من قدرته ومستقبله بصورة ملموسة، لكن تبقى إحدى هذه الضربات أنكى وأشد قسوة؛ إذ إنها جعلت الممارسات التقييدية بحق وسائل الإعلام والصحافيين مسألة مقبولة أو مفهومة، كونها تحدث في أكثر من 100 بلد حول العالم، من بينها دول من «العالم الحر»، تحت ذريعة «منطقية» تسندها مخاوف عميقة، وهو أمر ستكون له عواقب خطيرة.
فهل ثمة ضوء في نهاية هذا النفق؟
ليس سوى عبر محاولة تقليل الثمن الفادح الذي ستدفعه حرية الإعلام على مذبح «كورونا»، من خلال إرساء آليات أكثر رشداً ونجاعة لمحاربة التزييف والممارسات الحادة والمسيئة في المجال الإعلامي.
ما أخطر ضربات «كورونا» للإعلام؟
ما أخطر ضربات «كورونا» للإعلام؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة