ألمانيا تشهد أول محاكمة علنية للنظام السوري في العالم

المحامي أنور البني لـ«الشرق الأوسط»: رسالة إلى رموزه بأنهم لن يفلتوا من العقاب

عنصر الاستخبارات السوري السابق إياد غريب يغطي رأسه في قاعة المحكمة الألمانية أمس (أ.ف.ب)
عنصر الاستخبارات السوري السابق إياد غريب يغطي رأسه في قاعة المحكمة الألمانية أمس (أ.ف.ب)
TT

ألمانيا تشهد أول محاكمة علنية للنظام السوري في العالم

عنصر الاستخبارات السوري السابق إياد غريب يغطي رأسه في قاعة المحكمة الألمانية أمس (أ.ف.ب)
عنصر الاستخبارات السوري السابق إياد غريب يغطي رأسه في قاعة المحكمة الألمانية أمس (أ.ف.ب)

بدأت أمس في ألمانيا أول محاكمة علنية في العالم لانتهاكات منسوبة إلى نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مع مثول رجلين يعتقد أنهما ضابطان سابقان في الاستخبارات السورية أمام محكمة في كوبلنز. وقال المحامي السوري أنور البني لـ«الشرق الأوسط» بأنها «أول محاكمة علنية حيادية مستقلة بحق متهمين من النظام السوري بارتكاب جرائم»، لافتا إلى وجود ملفات أخرى غير علنية ضد مسؤولين في النظام أمام محاكم أوروبية عدة.
وحضر المشتبه به الرئيسي أنور رسلان (57 عاما) بصفته عقيدا سابقا في جهاز أمن الدولة وهو ملاحق بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية. ويتهمه القضاء الألماني بالمسؤولية عن مقتل 58 شخصا وعن تعذيب ما لا يقل عن أربعة آلاف آخرين من أبريل (نيسان) 2011 إلى سبتمبر (أيلول) 2012، في «فرع الخطيب» الأمني، الذي كان يديره في دمشق. كما مثل أمام محكمة كوبلنز إياد الغريب (43 عاما) الذي غطى وجهه بقناع، وهو متهم بالتواطؤ في جريمة ضد الإنسانية لمشاركته في توقيف متظاهرين تم اقتيادهم إلى هذا السجن بين الأول من سبتمبر و31 أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
وبعد سنوات على لقائهم الأول مع سجانهم في واحد من أبشع السجون السورية، «القسم ٢٥١» في دمشق، عاد معتقلون سابقون وواجهوا شبح الماضي. ولكن هذه المرة ليس في سوريا ودمشق بل في ألمانيا ومدينة كوبلنز في ولاية راينلاند بالاتينات. والأدوار هذه المرة كانت مقلوبة. وجدوا سجانهم السابق، الضابط في المخابرات السورية أنور رسلان، نحيفا، أنحف بكثير مما يتذكرونه. كانت يداه ترتجفان كذلك. ربما يعاني مرضا عصبيا. بدا مكسورا خلف الزجاج الذي جلس خلفه داخل قاعة المحكمة. وإلى جانبه، المتهم الثاني، المجند السابق إياد الغريب.
لم ينطق إلا بكلمتين ليذكر اسمه. وبقية الوقت، الساعة وربع الساعة التي استغرقتها تلاوة التهم من قبل الادعاء، كان يجلس بصمت وانكسار داخل علبة خشبية في قفص زجاجي. والمدعي العام يقول على مسامعه إنه متهم بتعذيب أكثر من ٤ آلاف معتقل، وقتل ٥٨ معتقلا آخر على الأقل بين أبريل (نيسان) ٢٠١١ وسبتمبر (أيلول) ٢٠١٢. قرأ أجزاء من شهادات ٢٤ ضحية، قال محامي الضحايا لاحقا بأنه وجد الاستماع إليها «مؤلما».
لم يشأ أن يرد على التهم فورا. طلب محاميه مهلة للرد كتابة. أما إياد الغريب، المتهم باعتقال عشرات المتظاهرين واقتيادهم إلى السجن الذي يديره رسلان حيث خضعوا للتعذيب، فرد محاميه برفض التهم على أساس أنها باطلة. فهي تنطلق من شهادة أدلى بها عندما وصل إلى ألمانيا لاجئا، واعترف في المقابلة التي أجرتها معه دائرة الهجرة بأنه عمل مع المخابرات السورية. ولكنه ظن، كما ظن البني، بأن الاعتراف والإعلان بأنه انشق وغادر يعني بأن التهم زالت. وكان رسلان قد اعترف كذلك بأنه كان ضابطا للمخابرات عندما وصل طالبا اللجوء في ألمانيا قادما من الأردن التي انتقل إليها بعد أن أعلن انشقاقه عن النظام والانضمام للمعارضة.
وأوضح البني المحامي السوري الناشط في هذه القضية والذي ساعد على جمع الشهود لـ«الشرق الأوسط» بأن «الاعتراف لا يعني بأن الذنب لم يعد موجودا». ومحامي الضحايا باتريك كروكر، متأكد من أن هذه المحاكمة ليست إلا البداية. وبالنسبة إليه فهي كانت «تاريخية لأنها المرة الأولى التي يواجه فيها مسؤولون من النظام السوري القضاء». كروكر مقتنع بدور رسلان المباشر في التعذيب، ويقول لمن يجادل بأنه غير متورط بشكل مباشر: «هناك أجزاء كبيرة من الدعوى حيث كان هناك تورط مباشر من المتهم وقانونيا حتى ولو لم يلمس أحدا شخصيا لا يعني بأنه لم يرتكب الجريمة».
أما المدعي العام لدى محكمة العدل الاتحادية جاسبر كلينغ فبدا متأملا من أن هذه المحاكمة ستؤدي إلى إدانات، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نأمل ونعتقد أن التهم ستكون كافية وجيدة بالنسبة للمدعين والأدلة التي سنقدمها ستؤدي إلى إدانة». وأكد بأن القضية لا علاقة لها بالسياسة بالنسبة للقضاء الألماني: «بادرنا بالقضية لأننا في موقع مسؤول، وظيفتنا فتح التحقيق في حال حصولنا على أدلة تؤكد وفق القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية». وأضاف: «نحن جميعا مستقلون في النيابة العامة وقمنا برفع هذه الدعوى والآن وصلت إلى المحكمة العليا في كوبلنز وهي محكمة مستقلة كذلك ولذلك نحن مطمئنون أنه لن يكون هناك أي تدخلات سياسية، في ألمانيا القضاء مستقل وليس لدينا أي قلق في هذا الشأن». المدعي العام يبدو متأكدا كذلك بأن هذه المحاكمة لن تكون الأخيرة بحق مسؤولين في النظام السوري، وهو يقول: «إن توفرت لدينا أدلة كافية في المستقبل سنقوم بلاحقة أي شخص ارتكب جرائم حرب من عناصر في النظام السوري».
بالنسبة للشهود الضحايا، كان يوم أمس بالفعل يوما تاريخيا. فهم حضروا باكرا إلى المحكمة العليا في مدينة كوبلنز، قبل حوالي ساعة على بدء الجلسة الافتتاحية التي يحاكم رسلان، الذي كان مشرف على السجن في سوريا حيث قبعوا لأشهر يواجهون الضرب المبرح والصدمات الكهربائية والإهانات اليومية.
كان عشرات الصحافيين والسوريين يقفون بعيدين مترا ونصف المتر عن بعضهم في الخارج، ينتظرون الدخول إلى قاعة المحكمة. الحراس أمامهم يرتدون الكمامات، بالكاد أدخلوا جزءا صغيرا من المنتظرين. فالمقاعد داخل قاعة المحكمة قُلص عددها قبل أسبوعين بسبب فيروس كورونا.
وفيما راوح صف الانتظار مكانه، دخل من الباب الجانبي الشاهدان حسين غرير ووسيم المقداد، مع محاميهما باتريك كروكر من «المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان». بديا متوترين ومتحمسين في الوقت نفسه. لم يسمح للصحافيين بالحديث إليهم، لا عندما دخلوا ولا بعد أن خرجوا إثر انتهاء الجلسة الافتتاحية، خوفا من أن يقولوا شيئا قد يعرض شهادتهم للخطر. ولكن هما تحدثا بعد خروجهما قاعة المحكمة، وفي الوسط وقف المحامي ليتأكد من أنهما لن يجيبا على أسئلتنا.
بالنسبة للمقداد، هذه المحاكمة هي مهمة «ليس فقط للضحايا المباشرين ولكن لكل ضحية تعذيب في السجون السورية... من عاش منهم ومن توفي تحت التعذيب». أما الغرير، فقال بأن المحاكمة في الداخل جعلته يقارن بين وضع رسلان ووضعه عندما كان في السجن في سوريا، قائلا: «نسمع بالمحاكمة العادلة ولكن هذه المرة الأولى التي اختبر المحاكمة العادلة». ويضيف: «المحاكمة لا تكون عادلة إلا عندما يمكن للمتهم أن يتواصل مع محاميه وهو لديه محامٍ وهذا جعلني أقارن بوضعنا حيث كنا مجردين من كل حقوقنا وكانت أعيننا معصوبة كي لا نرى ما يحصل». ويختم متمنيا وآملا أن «تكشف كل الحقيقة في هذه المحاكمة»، ويقول: «ما نسعى له هو كشف الحقيقة عن التعذيب الممنهج في سوريا وما زال يمارس في سوريا حتى هذه».
وفر رسلان والغريب من سوريا ووصلا إلى ألمانيا حيث طلبا اللجوء على غرار مئات آلاف السوريين منذ تسع سنوات. وهما موقوفان قيد الحبس الاحترازي منذ اعتقالهما في 12 فبراير (شباط) 2019.
ويقول رسلان إنه انشق في أواخر 2012 وتفيد عدة وسائل إعلام أنه انضم إلى صفوف المعارضة في المنفى قبل أن يصل إلى ألمانيا في 26 يوليو (تموز) 2014. وهو يواجه عقوبة السجن المؤبد. وقال البني بأن المحاكمة لا علاقة لها بمواقفهما السياسية، بل إنها «تنظر باتهامات تتعلق بجرائم ضد الإنسانية وهي تمس النظام وسياسته المنهجية في ارتكاب جرائم حرب». وزاد: «لا علاقة بين الجانبين السياسي والقضائي». وأشارت مصادر سورية معارضة إلى قول المدعي الألماني أمس بأنه «لن يسمح لمن قام بهذه الجرائم والمسؤول عنها أن يفلت من العقاب».
وكان البني أول من أثار ملف التحقيق، باعتبار أنه تعرف على رسلان خلال لقائهما صدفة في مجمع للاجئين في ألمانيا في قبل خمس سنوات. وقال: «تذكرت أن وجه هذا الشخص مألوف لأنه هو ذاته الذي كان خطفني واعتقلني في منتصف 2006 في دمشق». وزاد: «أتذكر عندما رفع عناصر دورية الأمن الغطاء عن رأسي لتسليمي إلى الشرطة، أني شاهدت وجه رسلان الذي كان رئيس الدورية». ومن المقرر أن يقدم ضابط التحقيق بإفادات أمام المحكمة الألمانية اليوم.
ومن المتوقع أن تُعرض خلال المحاكمة صور من بين آلاف التقطها مصور سابق في الشرطة العسكرية السورية يُعرف عنه باسم مستعار هو «قيصر»، تمكن من الهرب من سوريا صيف عام 2013 حاملا معه 55 ألف صورة.



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.