جائحة العصر... العيش في زمان الخوف

كأن الناس مهيأون للهلع منذ وقت طويل وكانوا فقط بانتظار اللحظة المواتية

باري غلاسنر
باري غلاسنر
TT

جائحة العصر... العيش في زمان الخوف

باري غلاسنر
باري غلاسنر

عندما كان العالم (الغربيّ) يقترب من الألفيّة الأولى، تقول المصادر التاريخيّة، شاعت في الناس نبوءة بأنها القيامة الموعودة، فساد مزاجٌ من الهلع والقنوط، هُجرت الأراضي، وتفرقت الأسر، وتوقّف كثيرون عن ممارسة أعمالهم المُعتادة، فيما تعددت الطرائق الدينية المنعزلة وتناثر المُهرطقون.
وإذا أردنا أن نحكم على تلك الفترة اليوم، حصراً من خلال مصادرنا التاريخيّة، فإنّه يسهل القول عندها بأن البشر إذا ألمّت بهم الجوائح مالوا إلى هجران التعقل، ولاذوا من خوفهم بالأفكار الغيبيّة والشّعوذة والأساطير. والحقيقة أن معظم الرّوايات التي وصلتنا إنما كُتبت بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا على أيدي رهبان بروتستانت كان ديدنهم وصم رفاقهم الكاثوليك من قبلهم بالجمود والانغلاق وانعدام الحكمة، فيما شرع مؤرخون علمانيون لاحقون في عصر النهضة بافتعال أشياء عن انعطاف الألفيّة ليس عليها من دليل -وعلى الأعمّ الأرجح أنّها لم تحدث قط- سعياً منهم لإبراز زحف «العقل»، وانتصاره على ظلاميّات العصور السابقة.
ويبدو أن بعض كتّاب الصحف المعاصرة يريدون لعب أدوار مماثلة بدعواتهم الناس للاعتصام بالعقل، وعدم السّقوط في لجة الهلع، بعد تفشي القاتل الخفي الجديد الذي يقف على باب الكون كله، فلا هو يعترف بحدود ولا إمبراطوريّات، ولا يفرّق بين زعماء وصعاليك.
لكن التدقيق فيما وراء النّصوص الكلاسيكيّة عن انعطاف الألفيّة الأولى يشير إلى تجذّر القابليّة للهلع لدى ناس المرحلة، إذ وهم في أغلبهم فقراء تعساء أقنان كثرت عليهم موجات الأوبئة، وتكررت غزوات البرابرة على الحواضر والنجوع، وسادت المجاعات، مع الشّروخ التي بدأت تمسّ نظام الإقطاع، وتراجع قدرته على الإنتاج. لقد كانوا يعيشون مناخاً من الخوف الحقيقي المستند إلى الوقائع، متعبين من الحياة، لكنّهم يخشون الموت. ولذا كان أمر هلعهم العريض بنبوءة نهاية العالم أشبه بتحصيل الحاصل.
وقياساً على ذلك، فإن تفكيك الحالة المعاصرة من الهلع الكوروني ينبغي أن يُستهل في مناخ الخوف الذي كنّا فيه أصلاً عبر أدوات الإعلام والميديا والمنتجات الثقافيّة على تعدد أشكالها. وفي ذلك يقول باري غلاسنر، بروفسور السيسيولوجيا الأميركي مؤلّف كتاب «ثقافة الخوف» (Culture of Fear)، إننا «نعيش في أسوأ مناخ رهاب عاشه البشر خلال تاريخهم الطويل، ولعل السبب الأساسي لذلك كامن في حقيقة أن هنالك تراكماً من الرأسمال والنفوذ لدى جهات وأفراد تتوافق مصالحها في الهيمنة على تعظيم الخوف، ونشر عملته على أوسع نطاق في المجتمعات الحديثة». «التخويف»، يقول نيل ستراوش، الصحافي الأميركي «صناعة تعني مزيداً من نقل الثروة بالمليارات إلى جيوب النافذين السّمان». وبالفعل، فإن صناعة الإعلام، وشركات التأمين، وجماعات الضغط المستأجرة، وكبريات صناعة الأدوية، وتجار الأسلحة، والمحامون والسياسيون، إنما تزدهر أعمالهم كلّما اشتدت الخُطوب على الناس، وظنّوا أن الحظ الحسن هجرهم.
وتبدو مهمّة تجار الخوف هؤلاء يسيرة بحكم التكوين البيولوجي والسيكولوجي للبشر، إذ تبدو أدمغتنا، على حد وصف البروفسور أندرو هوبرمان، أستاذ البيولوجيا العصبيّة بستانفورد، أقرب إلى «ماكينة استجابة للأخطار، مهمتها العمليّة أن تُبقينا أحياء فور تقييمها لأي مؤثر بصفته خطراً بشكل ما، وإشعارنا بالخوف». ومن المعروف بالطبع أن الشّعور بالخطر يدفع إلى وقف أنشطة الدّماغ الخلاّقة جميعها، ويمنح نوعاً من السّيطرة لأدمغتنا البدائيّة القائمة على إدارة الرّهاب بأساليب دفاعيّة. وهي المقاربة الأساسيّة التي يقوم عليها منهج منتجي الخوف الجمعي المعاصرين، إذ هم «يحوّلون الخوف من شيء مرتبط فعلياً بتهديد ملموس إلى ضباب هلع كثيف معمم معقّد من تزايد احتمالات التعرّض إلى تهديد جدي في المستقبل يتسبب بالفناء. قلقٌ مقيم من شيء لم يحدث بعد، ولربّما لن يحدث قطعاً. خبرة يوميّة من عدم تيقّن أبديّ». فبدلاً من شعور المواطن بالخوف -الطبيعي- إذا ما وقع حادث إطلاق نار في مكان عام، يتولاه شعور هلع مستدام من تصاعد إمكانيّة حدوث إطلاق نار في أي وقت.
وتقول دراسة مهمّة حول خوف الأميركيين العاديين، أجرتها جامعة تشابمان (2017)، إن أعداداً متزايدة من المواطنين تعيش في ظلّ خليط من قلق مركّب: خوف من هيمنة حكومات فاسدة تخدم أجندات مشبوهة، وحروب سيبيريّة تستهدف أساسيات الحياة المعاصرة من كهرباء وماء وأنترنت وأجهزة إلكترونيّة، كما مراقبة الشركات الكبرى للمعلومات الشخصيّة، وحوادث الإرهاب العُنفيّ.
ويتمّ بناء هذا القلق المركّب عبر مزيج رّسائل متتابعة ومحفزات متتاليّة يتلقاها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ومنتجي الثقافة الّذين تتضافر جهودهم -وإن ظهرت لغير العين المراقبة متباعدة غير منسّقة- في خدمة ذوي الأجندات السياسيّة والاقتصادية لبناء تراكم كمي تدريجي في عقول الأفراد، قبل أن يؤدي ذلك -بحكم الوقت- إلى ما يشبه تماماً مفعول غسل الأدمغة.
ولعلّ مما يفاقم من تأثير هذه الرّسائل في العقدين الأخيرين تشظّي استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وما ينتج عنها من استقطاب متصاعد، وفق ما يسميه علماء السيسيولوجيا بقانون «الاستقطاب الجمعيّ»، ويسجّل -مخبريّاً- نزوعاً لدى البشر الذين يقضون أوقاتاً مطوّلة في غرف صدى افتراضية تجمع المتشابهين بالأفكار والخبرات إلى تبني وجهات نظر أكثر تطرفاً ورجعيّة وقناعة بشأن المخاوف المشتركة الخاضعة للنقاش. وهو الأمر الذي قد يفسّر بصيغة ما صعود الفاشيات في أوقات التزعزع الاقتصادي والاجتماعي، وانتشار نظريّات المؤامرة بشكل ملحوظ، مقارنة بأوقات الرّخاء.
ويبدو أنّ التقدّم غير المسبوق في العلوم الاجتماعية خلال الثلاثين سنة الأخيرة قد وفّر لتجار الخوف أدوات بسيطة شديدة الفعاليّة لتعظيم ثقافة الخوف وتوسيعها، إذ إن حادثة إرهابيّة معزولة -مصطنعة كانت أو حقيقيّة- تؤدي إلى مقتل عدد قليل من الأبرياء يمكن توظيفها في وضع شعوب بأكملها في مزاج الرّعب والهلع من خلال وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين. هذا في الوقت الذي يموت فيه يومياً مئات الأشخاص في كل مدينة بسبب السرطان أو الكحول أو جرعات مخدرات زائدة أو بسبب السمنة أو حوادث الطرق أو سوء التغذية أو غياب الخدمات الصحيّة الكافية، وهذه كلّها وفيّات يمكن التقليل منها دراماتيكيّاً لو أن جهد السلطات كان أساساً موجهاً لخدمة الأكثريّة، لا مصالح القلّة. ومن المثبت علميّاً الآن أن الخائفين أكثر من غيرهم تقبلاً للخضوع إلى سلطات استثنائيّة، وللتنازل عن حقوقهم الأساسيّة، مقابل استعادة نوع من أمان مؤقّت. ويُطلق البروفسور هوبرمان على هذه الممارسة اسم «الحرب العصبيّة البيولوجيّة»، وصنّفها ضمن الأسلحة الاستراتيجيّة المتوفرّة للحكومات.
وتلحظ مارغي كيرّ، في كتابها «الصّرخة: مغامرات مرعبة في علم الخوف»، أن أفراد المجتمعات المعاصرة هم في مزاج أسوأ من الخوف، مقارنة بأسلافهم قبل مائتي سنة مثلاً. وهي تربط ذلك بكثرة الأحداث التي يتم وضعها إعلامياً في سياق التخويف، فتتابَع التحديثات عنها لحظيّاً عبر الهواتف النقالة وقنوات الإعلام التقليديّة والميديا الحديثة، مما يخلق شعوراً زائفاً بالانخراط بالحدث. وحتى عندما يهرب المرء في نهاية يومه إلى فضاء الترفيه، فإن بانتظاره سيل لا يتوقف من أفلام الحروب، ومطاردات الشرطة، والتحليل الجنائي والجرائم الحقيقيّة والمتخيّلة، والزومبيّات، ونظريّات المؤامرة، والديستوبيّات. وتقول كيرّ إن هذا التعرّض المكثّف لجرعة العنف اليومي ليس له من نتيجة سوى تسربه إلى اللاوعي وكأنه حقيقة موضوعيّة قد تحدث للمرء في أي لحظة.
وهكذا، عندما تسقط شعوب الغرب المتقدّم بالهلع بعد انتشار أنباء وباء كورونا، ويتقاتل الناس لشراء مستلزمات أساسيّة لم يحتاجوها بالفعل، فإن لا شيء يثير الاستغراب. فكأن الناس مهيأون للهلع منذ وقت، وكانوا فقط بانتظار اللحظة المواتيّة.



مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».