قبل كورونا كان «الموت الأسود»... قادماً من الصين

{نزل بالعمران وذهب بأهل الجيل} كما وصفه ابن خلدون

لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
TT

قبل كورونا كان «الموت الأسود»... قادماً من الصين

لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا
لوحة تمثل الطاعون في فلورنسا

عندما يفجع الناس بجائحة جديدة لا يعلمون منتهاها، فإنّها تميل إلى إضعاف قدرة كثيرين على التفكير العقلاني، وتدفعهم للعودة إلى طرائق الاستجابة الحزينة للعصور الوسطى في مواجهة الأوبئة: خليطٌ من التديّن المُفاجئ والتهيؤات الغريبة والنبوءات المتشائمة، وكثيرٌ من الصّلوات واللعنات، واليأس أيضاً. لكنّ الحقيقة أن هذا القاتل الذي يقف على أبواب المدن ويجتاحُ العالم اليوم أقل فتكاً بالبشر، بما لا يقاس بأوبئة تفشت في حقب تاريخيّة سابقة، وقضت على الملايين، دون أن يدرك أسلافنا ماهيّة العدوّ الذي يقتلهم، أو أن يمتلكوا ولو حدوداً دنيا من المعرفة بكيفيّة مواجهته، أو تجنب نقله للأصحاء، أو حتى تخفيف آلام التعساء الذين سقطوا في براثنه.
قبل كورونا، كانت هناك أوبئة كثيرة، أشرسها وباء الطاعون الأسود الذي نشر غلافاً كئيباً من الموت على مناطق شاسعة في أوروبا والشرق الأوسط، ووصل ذروته في السنوات ما بين 1347 و1351، آخذاً بطريقه ما بين 75 و200 مليون من البشر، وتاركاً مساحات شاسعة في الهند ووسط آسيا وأرمينيا وسوريا والعراق وفلسطين ومصر وأوروبا وشمال أفريقيا لغاية أوغندا مغطاة بالجثث والخراب.
وبحسب الوثائق التاريخيّة التي نجت من تلك الفترة، فإن الوباء كان قد انتقل على الأرجح من الصين عبر طريق الحرير إلى ميناء كافا في شبه جزيرة القرم التي كانت خاضعة وقتها لحكم جمهوريّة جنوى الإيطاليّة. ويبدو أن الجنود المغول الذين كانوا يحاصرون الميناء وحملوا الوباء معهم ألقوا بجثث المتوفين من فوق الأسوار، مما تسبب في تفشيه بين الجنويين. وحمل البحارة الذين فرّوا من الموت والحصار الوباء معهم إلى القسطنطينيّة أولاً، ثمّ صقليّة، حتى إذا ما وصلوا بلادهم مُنعوا النزول إليها، بعدما كانت سبقتهم الأنباء عن بضاعة الموت القادم من الشرق التي يحملونها معهم. إلا أن أحدهم تسلل من السفينة تحت جنح الظلام، فكانت الكارثة التي قضت على معظم السكان المحليين. انتقل المرض بعدها من جنوى إلى البندقيّة وفلورنسا وبقيّة إيطاليا، قبل أن يصل إلى فرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا ومعظم البرّ الأوروبي، إلى إنجلترا وآيرلندا غرباً، وروسيا وبلاد البلطيق شرقاً، والبلاد الإسكندنافيّة شمالاً، ليقضي خلال سنوات معدودة على ما يقرب من نصف سكان القارة في ذلك الوقت، بنحو لم تتعافَ معه قط. وفي الشرق الأوسط، وصل الوباء من القسطنطينيّة عبر البحر إلى الإسكندريّة، ومنها عبر غزة إلى المشرق حتى بغداد، وجنوباً نحو مكّة، وغرباً إلى المغرب، وشمالاً نحو أنطاكيّة التي حاول سكانها الفرار من الوباء إلى الأناضول، ليقضي معظمهم به في دروب الرّحيل.
وقد سجّل المؤرخ العربي ابن خلدون الذي فقد والديه وعدداً من أساتذته بالموت الأسود الكارثة التي ألمت بالعالم في زمنه: «نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة، من الطاعون الجارف، الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، جاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتوادعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق الذي نزل به، مثل ما نزل بالمغرب، ولكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث».
وانفرد صاحب كتاب «نفاضة الجراب» بالحديث عن وباء الطاعون الذي أصاب بلاد المغرب، فكتب يقول: «ووجدنا الطاعون في بيوتهم قد نزل، واحتجز منهم الكثير إلى القبور، واعتزل وبقر وبزل، واحتجز فلا تُبصر إلا ميتاً يخرج، وكميتاً إلى جنازة يسرج، وصراخاً يرفع وعويلاً بحيث لا ينفع، فعفنا الهجوم، وألفنا الوجوم، وتراوغنا عن العمران، وسألنا الله السّلامة من معرّة ذلك بالقرآن».
ورغم وجود روايات موثقة عن بشر تحدوا الخطر لانتشال الآخرين من فم الموت، فإن مقدّمة نصّ «الديكاميرون» الذي سجل فيه الإيطالي بوكاسيسيو شهادته على المرحلة (1358) يقول إن «الأخ كان يفرّ من أخيه، والقرينة من قرينها، بل وشهدنا أموراً لم تكن لتخطر على البال، إذ كان بعض الآباء أو الأمهات يفرّون بأنفسهم، ويتركون أبناءهم وحيدين ليلاقوا مصيرهم المحتوم».
وهناك شهادة من كاتب آخر مجهول، يقول فيها إن «قنوات البندقيّة المائيّة الجميلة امتلأت بالجثث التي كانت تُلقى من الشرفات»، فيما أعلن كليمنت السادس البابا المنفي إلى أفينيون بفرنسا نهر الرّون بأكمله مقبرة مفتوحة لضحايا الوباء.
وكان الفلكي سيمون دي كوفينو أوّل من أطلق على الوباء لقب «الموت الأسود»، في قصيدة له عام 1350، ليصبح بمثابة علم على كل طاعون، إذ أطلق كتاب تاريخ دنماركي نشر عام 1631 اللقب ذاته على تفشي الوباء في القرن السابع عشر، فيما وصل إلى اللغة الإنجليزيّة بداية من عام 1755.
وفي إنجلترا، مسح الطاعون الأسود بلدات الجنوب الغربي بأكملها عن الوجود، زاحفاً نحو لندن التي وصلها، وفق الشهادات، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1348. فلم يُطلّ العام الجديد إلا وقد روّع المدينة بالكامل، واضطرت السلطات إلى تخصيص حفر ضخمة على أطرافها لتكويم جثث الضحايا فيها. ووفق وثائق البلديّة، فإن لندن كانت تفقد يومياً 200 من سكانها على الأقل، سوى غير المسجلين من المشردين والمهمشين. وقد كتب راهب أغسطيني، يدعى هنري كينغتون، يصف تلك الفترة: «هناك موت يعمّ العالم بأجمعه. لقد تحولت معظم البلدات والنَجوع إلى أماكن مهجورة، بعد أن قضى سكانها عن بكرة أبيهم»، ويذكر كيف أن «الناس وكأنهم جنّوا، ولم تجد السلطات بداً من إجبارهم على التجمع في الكنائس، لعل رحمة الربّ تتنزل عليهم».
ووصف المؤرخ الفلمنكي جان دو أوتيرميوس أجواء مشابهة في مدينة ليج (بلجيكا الحاليّة)، مضيفاً أن اليأس ألمّ بالناس «حتى أن النسوة أفلتن لأنفسهن العنان بالعبث والفجور، ولم يعدن يبالين بشيء». وتظهر سجلات باريس أن العاصمة الفرنسيّة كانت تحصي ما لا يقل عن 800 جثة يومياً خلال فترة ذروة الوباء، فقضى نصف سكانها على الأقل، فيما يصوّر نصّ كتبه الشاعر الويلزي ليوان غيثين عام 1349 مأزق روحه في تلك الفترة، فيقول: «نرى الموت يتسرّب بيننا كما دخان أسود، طاعونٌ يستأصل الشباب، شبحٌ بلا جذور لا يرحم طلّة بهيّة، ولا يعفي من غضبه أحد».
وفي يوليو (تموز) 1348، وصل الوباء آيرلندا، بعد ستة أشهر من تفشيه بجنوى، فضرب موانئها قبل أن يعمَ الجزيرة بأكملها. وهناك يوميّات شديدة الأهميّة تسجّل وقائع تلك الأزمنة المظلمة، تركها راهب فرانشيسكي من بلدة كيلكيني، يدعى جون كلاين، تظهر أن العالم برمتّه كان يعيش الكارثة ذاتها، إذ يقول: «لم يتبقَ بيت في آيرلندا اكتفى الموت الأسود بخطف روح شخص واحد من أهله، إذ غالباً ما كان يأخذ في طريقه العائلة بأجمعها: الأبّ والأم والأبناء»، وسجّل أنّ دبلن فقدت 14 ألفاً من سكانها خلال خمسة أشهر، ودوّن أسماء 25 من رفاقه رهبان دروغيدا الذين قضوا نحبهم وهم يحاولون تقديم العون للذين يفارقون الحياة، كما أسماء 23 آخرين من دير آخر في دبلن.
ويبدو أن الرّاهب كلاين كان يعتقد أنّه يشهد نهاية العالم رأي العين، إذ يقول: «خشية أن تنقرض الكتابة بموتي، وألا أقوم بواجبي، فسأستمر بتدوين هذه اليوميّات التي بدأت بها، لربما يجدها رجل قد ينجو بالصدفة من الموت القاسي، أو يتبقى بعدي في الدنيا أحد من نسل آدم». وبالفعل، تستمر اليوميّات لبعض الوقت، قبل انقطاعها فجأة وبلا مقدمات، بعد بداية عام 1349. ليخط آخر سطر فيها شخص آخر، اكتفى بالقول: «يبدو أن المؤلف قد قضى نحبه».


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون
TT

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة، وتسويغ عنف مركزية العقل «الليبرالي»، وعبر منابر وقنوات الآيديولوجيا والمدرسة والإعلام والدعاية والخطاب السياسي والخوارزميات، وحتى عبر مرجعيات النظرية الأدبية والثقافية التي تُخضعه هي الأخرى إلى المؤلف المهيمن، وترسل إلى القارئ المُستهدف.

ما طرحه الناقد تيري إيغلتون في كتابه «ما بعد النظرية» بترجمة ثائر ديب، الصادر عن «المركز العربي لدراسة السياسات» (2025)، يضعنا إزاء قضايا إشكالية تخص الخوف الثقافي والقلق الثقافي، والتمثيل الثقافي، وإلى ما يدفعنا إلى الشك بجدوى النظرية، وبأن ما يجري أفقد النظريات كثيراً من صلاحياتها.

الدرس الثقافي يعني في جوهره درساً مفهومياً، في توظيفه الفلسفي، أو في إجراءاته التي تخص التعلّم والفهم، وفي ما يتعلق بالإنثربولوجيات المعقدة التي كشف تشظيها عن عالم يتمرد على المركزيات، بحثاً عن مركزيات موازية، أو عن هويات محلية، يمكنه من خلالها يستأنف لعبته في إعادة إنتاج السلطة، والهوية، والخطاب، بوصفها عناصر موجّهة للهيمنة، ولصياغة العالم في أفكاره ومعتقداته وهوياته وأساطيره، عبر ما تصنعه السلطة من سياسات وثقافات، وعبر ما يجعل «النظرية» مجالاً للتخيل، ولتقعيد العالم عبر القياس.

ما أثاره إيغلتون عن «نهاية العصر الذهبي للنظرية» يظل افتراضياً، لأن ما أسسه كبار المُنظّرين ترك ثقلاً معرفياً كبيراً، في إطار الأطروحات الفلسفية، أو في تمثيل النظريات الأدبية، وحتى في السيميائيات، وفي الاجتماع السياسي والتربوي، وفي بنى النظام والخطاب والرقابة والقمع، لكنه بالمقابل خضع إلى كثير من التحول، والتصادم، والاختلاف، حيث وجدت الأفكار نفسها إزاء «واقع سائل» ليس لتمثيل علاقاتها بـ«ما بعد الحداثة»، كما يرى زيغموند باومان، بل لأن وجودها اصطدم بكثير من الفعاليات التي تعمل لصالح مؤسسات ومنابر ومخابر ومراكز بحوث وبنوك وعيادات وشركات عابرة للقارات، وهذا هو الوجه الرمادي لـ«الليبرالية الجديدة»، رغم أن مرجعيات «النظرية» لم تكن بعيدةً عن تاريخ المجتمعات، ولا عن مسار تطور العلوم والأفكار.

النظرية ورهاب الغياب

القضية التي يثيرها إيغلتون حول «نهاية العصر الذهبي للنظرية» تطرح أسئلة فائقة الخطورة، حول المرجعيات، لا سيما الماركسية، التي تحتاج إلى مراجعة، لمواجهة سلسلة من التحولات الكبرى، بما فيها تحول صناعة الأفكار وتلقيها، وعلاقتها بالمؤسسات والآيديولوجيات، وبأنموذج المثقف الذي تخلى عن وظيفته النقدية، لصالح القوة، ولصالح نوع من «الواقعية المتوحشة» التي أفقدت «البطل الغربي» سحره السينمائي، وغوايته الطبقية، وعلاقة مدنه البرجوازية بذاكرة الرواية الرومانسية، وبيوميات القصور والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية وعروض الأزياء وإعلانات العطور، ونظم الاتصال الحديثة واحتكار المعلومات والأخبار.

الفقد تحوّل إلى رهاب نفسي، لأن الغرب لم يعد مسيجاً على طريقة «أثينا القديمة»، فالهجرات والأسواق والصراعات الاجتماعية والحروب جعلت من هذا الغرب إزاء ما يشبه «الهجنة الثقافية» التي جعلت من حديث النظرية جزءاً من المفارقة، ومن مأزق الغرب بمفهومه الأوروبي الهيغيلي.

حديث الفقد يمكن أن يكون جزءاً من النسيان، ومن التباسات ثقافية، تواجه صراعاً غير منضبط بين المستويات، لا سيما ما يتعلق بالثقافات الشعبية، وثقافات الهامش، التي جعلت من اليسار أكثر اندفاعاً لها، وتعبيراً عن سردياتها الطبقية والثورية، مقابل ثقافة النخبة، التي ظل المحافظون والتقليديون يحرصون على مغاليقها، بوصفها جزءاً من صراعهم الطبقي والوجودي.

ما جعله تيري إيغلتون عتبته للحديث عن «الما بعد» هو إحساسه بأن العالم لم يعد صالحاً للمعنى الذي أنتجه اليسار حول الصراع الطبقي والعائلة والاجتماع والحقوق والعدالة والمشاركة، وأنه جعل الغرب يتغول، حيث بدا صعود التطرف اليمني وموجات «أوروبا الصافية» أكثر هوساً بالعنف «الصياني» وبمشروع إعادة النظر بالأفكار، وبالنظام الاجتماعي وبالسياسات، وبطبيعة الأفكار الرثة التي فقدت فاعليتها في مواجهة «رهاب الاستهلاك» ورهاب العنف والتطرف الأبيض. هذه التمثلات تحولت إلى مظاهر ثقافية، وإلى أطروحات إشكالية تخص تعقيدات الصراع الاجتماعي، وقضايا أنثربولوجية وحقوقية، وأزمات اجتماعية تخص العلاقة بالآخر، هذا الآخر المسكون بأشباح الشرق، ويوميات العنف السياسي والتلوث البيئي والحروب الأهلية، الذي صنع بالمقابل موجهات من المهاجرين واللاجئين الذي اتخموا «أوروبا» وأثاروا جدل النوع والنمط والهوية، وهو ما أسهم في تقويض مفهوم «الثقافة العالِمة» التي تملك الخطاب، والقدرة على مواجهة انهيار عالم مفتوح على لا نهايات عاقلة.

الما بعد وأفول النظرية

من الصعب عزل الثقافة عن التاريخ، وعن التحولات الكبرى، فبقدر ما يربط إيغلتون بين خمود النظرية وبين حركة ما بعد الحداثة، التي جعلت من «العولمة» و«الرقمة» توصيفات لنهايات إنسانية، أفقدت بعض المفاهيم جدواها، مثل الطبقة والتصنيع والجماعة، مقابل ما يراه خطيراً في صعود «الأعمال التحويلية» ووظائف البنوك الكبرى، التي تعني في جوهرها صعود «طبقة» لها سلطتها، ولها إدارتها في التعاطي مع المال والقوة والخطاب والعمل، وكذلك مع قيم إشكالية تخص «التحرر الجنسي» وموضوعات الجندر، والهجرة والهوية، وهي قضايا ثقافية جعلت منها «الدراسات الثقافية» مجالاً واسعاً لأطروحاتها، ولتداوليتها التي تخص الصراع الاجتماعي، وإعادة تعريف الغرب الذي لم يعد غرباً، كما في التوصيف الاستعماري لروديار كبلنغ، إن «الما بعد» قد يكون نقداً، وقد يكون نفياً، وكلاهما يدخل في سياق المواجهة مع الأفكار، ومع التاريخ الطويل للنظريات، بما فيها نظريات العلوم والآداب والسياسيات، إذ تحول الصراع حول جدوى النظرية مجالاً للحديث عن جدوى الأفكار ذاتها، ومنها ما يتعلق بأفكار الاشتراكية، والصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، والبطالة والهجرات الكبيرة، وبالحروب التي لم تعد للأفكار على طريقة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أو تروتسكي حول مفهوم الثورة الدائمة.

أفول النظرية لا علاقة له بأفول الحداثة، لأن ما يجري هو تغيير لقواعد الاشتباك الثقافي القديم، ولطبيعة التشكلات الطبقية، والإحالات الثورية، فالطبقات الوسطى فشلت في أن تصنع السلطة، إذ اكتفت بالهامش التمثيلي للثقافة، ولمواجهة عنف الطبقات الحاكمة، فرغم أن الحداثة في الغرب عكست «قوة العقل» بمفهومه الكانطي، أو أنها أبرزت مظاهر الصراع الطبقي، والتحولات الصادمة التي جعلت من كافكا مسكوناً بالخوف والكوابيس، حد الهروب إلى سردية المسخ، بحثاً عن ذاته التي ظلت خالية من الاطمئنان، إلا أن هذه الحداثة فشلت في مواجهة تنامي أزمة الإنسان ذاته، الإنسان الذي تحوّل إلى قربان للحروب والأزمات المفتوحة.

إيغلتون وصدمة المفارقة

التقويض الآيديولوجي للنظرية لم يشأ أن يترك الصراع دون مقاربات، تخص النظرية، أو تخص «صناعة الثقافة» بتعبير إدرنو، إذ تتحول الصناعة إلى إجراء لمواجهة التغريب والعزل، مثلما تتم استعادة ماركس الشاب الفيلسوف، وماركس الكبير الاقتصادي، إلى منابر لا تملك أدوات الاستمرار، بسبب الضآلة الثقافية من جانب، والخمود المؤسساتي والنظري من جانب آخر، فتذكّر مركز «برمنكهام» الإنجليزي المؤسس لـ«الدراسات الثقافية» في الستينات، يضعنا أمام رهاب متاهة الغياب المؤسساتي، وصعود المؤسسات الضد، التي لا علاقة بالزمن الثقافي، ولا بسرديات الثقافة، ولا حتى بالنظرية النقدية وبمناهجها، وبما تملكه من أدوات ووسائط ومناهج تساعد على بقاء الثقافات والآداب حية وفاعلة، وعالقة بكثير من قيم الاجتماع والأخلاق والنقد والتحليل.

صدمة المفارقة في مشغل إيغلتون ليست بعيدة عن فكرة «الاغتراب الثقافي» فما فشلت به الحداثة، لن تصنعه ما بعد الحداثة التي يصفها إيغلتون بالغلو والسطحية، وأنها المسؤولة عن صناعات أكثر رعباً، وعن إخفاقات واسعة، بما فيها إخفاق «النظرية الأدبية ذاتها» وعجزها عن إدامة الوعي الاجتماعي، وعن نقد الخطاب السياسي، إذ تحولت الحداثة، وحتى ما بعدها إلى مجال أو سوق للترويج للصناعات الثقافية، من منطلق أن الثقافة سلعة، وأن قانون «العرض والطلب» هو الفيصل الوجودي الذي يتحكم بالإنتاج، وبقيمة هذه الصناعات في تعزيز قيم الإشباع والعدالة، ومواجهة رعب «الرأسمال» الذي جعل من الثقافة جزءاً من وظائف «رجال الأعمال» ومن مسؤوليات منتجي أفلام السينما وعروض الأزياء وغيرهم.

عجز النظرية عن مواكبة «سيولة الأفكار» هو المُهدد الأكبر لوجودها، ولفاعليتها في الارتقاء بالوعي الاجتماعي - الثقافي لمواجهة مشكلات الواقع، وتعقيدات العنف السياسي، ولمظاهر الإرهاب والإكراهية والاستغلال والاستبداد، فضلاً عن مواجهة إكراهات الفقد العاطفي والرمزي، والصحي والإنساني، فما بات واضحاً في الما بعد حداثي هو «تشظي الحقيقة» أو موتها بتعبير نيتشه، وهو ما يعني تقوّض كثير من المركزيات الآيديولوجية، والأطروحات المطلقة، وربما تقوض الأنظمة التقليدية، مثل النظام الصحي، والنظام المصرفي، والرعاية الصحية وقوانين الحماية الاجتماعية، ليس للانخراط في لا مركزية ما بعد الحداثة، بل للتعبير عن أن العالم لم يعد آمناً، وأن من يصنع الحرب، يمكنه أن يصنع الشر، وأن يعيد إنتاج أساطير العنف، وشخصيات العنف مثل الليدي ماكبث، كما يقول إيغلتون.


كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟
TT

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته، عبر تساؤل مركزي يفتتح به المؤلف أفق كتابه: «ماذا لو كان للكود لغة أعمق من مجرد المنطق الصارم؟»، وهو سؤال يُطرح بوصفه مدخلاً نقدياً لفهم عالم باتت بنيته قائمة على الأكواد، لا بوصفها لغة برمجية محايدة، بل أنساق لغوية تُنتج المعنى، وتوجّه الخيال، وتُعيد عبر ذلك تشكيل الخبرة الإنسانية.

من هذا المنطلق، لا يقدّم الكتاب قراءة تقنية للتطور الرقمي، بل يفتح أفقاً نقدياً لفهمه بوصفه خطاباً معاصراً له بلاغته الخاصة وأسئلته، وتأثيره العميق في طرائق التفكير والإبداع، في زمن تحكمه الشاشات وتديره الخوارزميات.

يقترح الكتاب، الصادر أخيراً عن دار «بيت الحكمة للثقافة» في القاهرة، مقاربة مركبة تجمع بين الفكر الجمالي، وفلسفة اللغة، والتحليل الاجتماعي، ودراسات الوسائط الرقمية، كاشفاً كيف أسهمت الخوارزميات في إعادة تعريف مفاهيم الإبداع والكتابة والاختيار، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الفنان والآلة، فالكود في هذا السياق لا يعمل في الخلفية فقط، بل يتداخل مع الوعي، ويعيد ترتيب منظومات الإدراك، ويطرح سؤالاً جوهرياً حول إمكانية تزاوج «المنطق» و«العاطفة» بوصفهما درعاً فكرياً وإبداعياً في مواجهة المخاطر المتزايدة لعصر الرقمنة.

من هنا يتجاوز الكتاب النظر إلى الخوارزميات باعتبارها نقيضاً للخيال، ليطرح إمكانية أن تصبح مادة سردية جديدة، يمكن للكاتب أن ينسج منها حكايات لم تُروَ من قبل، تتقاطع فيها المادة الرقمية مع الروح الإنسانية، في محاولة لإعادة تخيل مستقبل أعمق اتصالاً بالإنسان.

ممارسة وجودية

يضع المؤلف قارئه داخل واقع ينسج نفسه من ألياف «الكود» الخفية، واقع تتشابك فيه التهديدات السيبرانية، والأسئلة الأخلاقية المرتبطة بالتكنولوجيا، والأوبئة العالمية، والتأثيرات العميقة للذكاء الاصطناعي، وهو واقع لم يعد فيه السؤال الجمالي ترفاً، بل ضرورة معرفية ملحّة، فكيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع هذا التعقيد الرقمي، وهل يمكن للكود ذاته أن يتحول من أداة للضبط والسيطرة إلى وسيط إبداعي قادر على فتح مساحات جديدة للتعبير الإنساني؟

وينطلق صفوت في معالجة هذه الأسئلة من حزمة من الأدوات والمفاهيم النقدية المتداخلة، من بينها مفهوم «الحداثة الانعكاسية»، التي تُفهم هنا بوصفها لحظة وعي نقدي بالحداثة نفسها، وبآثارها، وبالتحولات العميقة التي أحدثتها في الفنون والآداب، وبموقع الفنان ودوره داخل عالم مشفّر بالمخاطر والشكوك. فالفن، في هذا التصور، لا يُختزل في كونه مرآةً للواقع أو هروباً منه، بل يتحول إلى ممارسة وجودية «ضد الموت»، وسجل حيّ للحياة بكل هشاشتها وتعقيداتها، داخل منظومة ثقافية يُعاد تشكيلها باستمرار عبر الأكواد.

عبر فصول الكتاب الثلاثة، يطرح المؤلف سياقاً تاريخياً ممتداً، يبدأ من صدمات الحروب العالمية، ويمر بتحوّلات الحداثة وما بعدها، وصولاً إلى فنان العصر الرقمي، ويتتبع العلامات والمدارس النقدية التي حاولت فهم تحوّلات الحركات الفنية، ومحاولات نحت مصطلحات نقدية جديدة تواكب التحولات الكونية الكبرى، من بينها تعبير «ما بعد الكورونولانية»؛ المصطلح الذي بدأ ساخراً في سياق جائحة «كورونا»، قبل أن يتحول إلى أداة تحليلية لفهم التحولات النفسية والثقافية التي أعقبتها.

مجتمع المخاطر

يتعمق صفوت في رصد تداعيات جائحة «كورونا» على المشهد الفني والأدبي، متتبعاً تحولات الممارسات الإبداعية، وأنماط تلقي الفن، ودور الناقد في عالم باتت فيه التجربة الجمالية مشروطة بالوسائط والشاشات. وفي هذا السياق، يتقاطع طرح الكتاب مع مفهوم «الحداثة الفيروسية» كما تطرحه الباحثة إليزابيث أوتكا، التي ترى أن الوباء لم يكن حدثاً صحياً فقط، بل عامل كاشف عن هشاشة البنى الثقافية والمعرفية، وعن سرعة انتقال القلق والخوف بوصفهما أنماطاً رمزية لا تقل فاعليةً عن الفيروس نفسه.

كما يستفيد الكتاب من استراتيجيات ما بعد الحداثة في أعمال عدد من المفكرين، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك، أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، الذي انشغلت أعماله بتحليل تحوّل المجتمعات الصناعية الحديثة إلى ما سماه «مجتمعات المخاطر»، الذي يشير به إلى مجتمعات لا تواجه الخطر بوصفه استثناء، بل بوصفه بنية دائمة ناتجة عن التقدم ذاته، ويرى الكتاب في هذا الطرح مهاداً سوسيوجمالياً ضرورياً لفهم عصرنا الراهن، وطبيعة المخاطر الجديدة التي تمثلها الرقمنة، وكيفية مقاربتها نقدياً وجمالياً، لا تقنياً فقط.

ولا ينفصل هذا المسار عن نقد أوسع لما وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بـ«الواقع الفائق»، حيث تنفصل العلامات عن مدلولاتها، وتغدو الصور أكثر حضوراً من الواقع نفسه، ويتحول المعنى إلى سلسلة من الإحالات المؤجلة، في هذا العالم لا يصبح الغموض إثراءً للمعنى، بل اختزال له، وصولاً إلى عتبة العدمية، ومن هنا تطرح الأعمال الفنية والأدبية أسئلةً ملحّة حول العلاقة بين التخيل والواقع، وحول ما إذا كان ما نراه قائماً بذاته، أم مجرد نتاج للخطابات والوسائط التي تشكل وعينا.

أمام هذا التفكك، يرصد الكتاب تحوّلات الكتابة، مع تراجع نزعات التغريب التي ميزت كثيراً من تجارب ما بعد الحداثة، لصالح عودة الاهتمام بالبطل، وبناء التعاطف، وخلق جسور تواصل بينه وبين القارئ، في محاولة لاستعادة قدر من المعنى الإنساني داخل عالم متشظٍ، وهي عودة لا تعني الحنين إلى السرد التقليدي، بقدر ما تعكس وعياً بأزمة التلقي، وحاجة القارئ إلى موقع يسمح له بالتفكير في أزماته الراهنة، لا الاكتفاء بتفكيكها.


ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».