رفعة الجادرجي... دخل الزخرفة الإسلامية من أبوابها الخلفية فانفتحت أمامه الآفاق

فيلسوف العمارة يغادر متاهته الإبداعية

رفعة الجادرجي
رفعة الجادرجي
TT

رفعة الجادرجي... دخل الزخرفة الإسلامية من أبوابها الخلفية فانفتحت أمامه الآفاق

رفعة الجادرجي
رفعة الجادرجي

عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عاماً، غيّب الموت المهندس المعماري رفعة الجادرجي الذي اختطّ لنفسه بصمة خاصة يعرفها المتابعون لمنجزه المعماري، والمتأملون لتجربته الأدبية والفنية، وما جاورها من لمسات فكرية تتجلى في كتبه الأدبية والفنية على حدٍ سواء.
لا يمكن الحديث بعُجالة عن المنجز المعماري للراحل رفعة الجادرجي، لكننا سنكون مُضطرين لذلك بسبب ضيق المساحة، وطبيعة الموضوع الذي لا يخلو من نبرة رثائية، فغالبية العراقيين يتذكّرون نُصب «الجندي المجهول» في ساحة الفردوس ببغداد الذي أنجزه عام 1959، وظلّ شاخصاً حتى عام 1983، حيث قوّضه النظام الديكتاتوري السابق، وأحلّ محله تمثال صدام حسين الذي أسقطه الأميركيون عام 2003. لكن نُصب «الجندي المجهول» ظلّ عالقاً في ذاكرة العراقيين للمسته الجمالية الخالية من التعقيد التي تُذكِّرنا بطاق كسرى، إضافة إلى رمزية النُصب الذي يمثّل الجنود العراقيين الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل الوطن.
وإذا كان نُصب «الجندي المجهول» رمزاً وطنياً محلياً، فإن «نُصب الحرية» الذي أُنجز عام 1961 هو رمز شرق أوسطي في أقل تقدير، فلقد ذاع صيته عربياً، رغم موضوعه الذي يروي أحداث ثورة 1958، وتأثيرها على الشعب العراقي. لقد صمم الجادرجي هيكل اللافتة الكونكريتيّة التي حملت منحوتات الفنان جواد سليم الذي مزج هو الآخر بين الكلاسيكية التشخيصية والنَفَس الحداثي.
تتحرّك بناية «بدالة السنك» التي أُنجزت في منتصف سبعينيات القرن الماضي بين التراث والمعاصرة أيضاً، لكنها تذكّر بلمساته الفنية، وتُحيل إليها بسهولة من جهة التصميم، والمواد المحليّة المستعملة في البناء.
هناك عدد كبير من الدور والعمارات التي صممها رفعة الجادرجي، نذكر منها دار حسين جميل، وعلي مظفر، وعارف آغا، وحسن الكرباسي، ونصير الجادرجي، وفخري شنشل، وعبد حسن العزاوي، وما سواها من البنايات والجوامع. والغريب أنه لم يكن يتردد في القول إنه فشل في السيطرة التكوينية لهذه الدار أو تلك العمارة التي لم تستجب لرؤيته التصميمية، ويعزو السبب إلى حداثة خبرته الفنية في هذا المضمار.
هذه مجرد إشارات بسيطة لعدد من التصاميم التي أنجزها الجادرجي، أما جعبته المعمارية الكاملة فتحتاج إلى مساحات واسعة وشرح طويل.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أنّ الجادرجي كان عضواً في «جماعة بغداد للفن الحديث» التي أُسست عام 1951 من قِبل فنانين معرفين، أمثال جواد سليم ومحمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد، وكان الجادرجي يتناهل معهم في أفكاره ورؤاه الفنية والثقافية.
لم يكن الراحل مهندساً معمارياً فحسب، وإنما كان مصوراً فوتوغرافياً مُرهفاً، لا يكتفي بأسْر اللقطة وتجميد الزمن، فثمة شيء ثالث في غالبية الصور التي يلتقطها ويقدّمها لنا كمتلقّين للفن الفوتوغرافي في محاضرات متعددة لم ينقطع عنها إلا في السنوات الخمس الأخيرة التي حاصره فيها المرض.
أصدر الجادرجي عدداً من الكتب التي تُنظِّر لرؤيته المعمارية، أبرزها «الأخيضر والقصر البلوري» 2013، وتناول فيه محورين أساسيين: الأول، كيف تطورت النواة الفكرية لنظرية جدلية العمارة؟ والثاني، وصف للأبنية التي أنجزها مع عدد من زملائه المهندسين. كما أصدر كتاب «شارع طه وهامر سيمث» الذي قال عنه الناقد نجيب المانع إنّ «هناك عبارات تشير إلى ما مارسه الجادرجي في مهنته من نقد عنيف لذاته، واستعراض لما كان يتصوره أخطاءَه، حتى يتوصل إلى الصواب مهما يكن الطريق إليه وعراً أو شحيحاً بالإمكانيات». كما ذكر جبرا إبراهيم جبرا أنّ «في خطّة الكتاب ولغته التحليلية جرأة في الموقف، وريادة في الرأي، وهما مما تميّز به المؤلف مفكراً وإنساناً ومهندساً معمارياً».
ويمتلك الجادرجي نزعة أدبية تجلّت في مذكراته وسيرته الذاتية، وربما يكون «جدار بين ظلمتين» الذي كتبه بالاشتراك مع زوجته الأديبة بلقيس شرارة هو خير أنموذج للسيرة المزدوجة القائمة على بنية «التوازي والتداخل»، إذ اشترك كلاهما في كتابة الفصول الأربعة التي تؤلف متن النص، حيث كتبت بلقيس الأجزاء الأُوَل من الفصول الأربعة، ثم كتب رفعة بموازاتها الأجزاء الأربعة الأُخر التي تداخلت في السياق العام للسيرة الذاتية «المُزدوَجة» التي يكمّل بعضها بعضاً. وهي أول نص سير - ذاتي يوثّق في آنٍ واحد لتجربة متوازية متداخلة من داخل الظلمة وخارجها. كما تضمنت كتبه الأخرى أجزاءً متفرقة في سيرته الذاتية الحميمة التي توزعت في معظمها بين التطلعات الحُلُمية والعمل اليومي الجاد المثمر الذي يتحول إلى بيوت ومشاريع عمرانية متعددة الأغراض، كان يصوِّرها بكاميرته الشخصية، ويكتب عنها بالتفصيل كاشفاً عن نجاحاته وإخفاقاته في آنٍ معاً. وكان رفعة الجادرجي ناقداً فنياً أيضاً، ويكفي أن نشير إلى الفصل الثالث من كتاب «الأخيضر...»، المُعنون «مع جماعة الرواد»، لنؤكد صحة ما نذهب إليه، فقد كتب عن هذه الجماعة، وناقش توجهاتها الفنية والفكرية، ودورها في المشهد التشكيلي العراقي. لنقرأ ما كتبه عن الفنان فائق حسن، مُركزاً فيه على الجوانب الثقافية والاجتماعية، حيث يقول: «فائق حسن لا يقرأ إلا القليل، وإذا قرأ ففي بعض المجلات الفرنسيّة لا غيرها. معلوماته تكاد تكون معدومة في العلوم والفنون والتاريخ، ولكنه هضم وأتقن هذا القليل بسبب عمق تفكيره، وأصالة أسلوب معيشته... لا يُقحم نفسه في أمور لا يفهمها، بل إن الأحداث تمرُّ من دون أن تمسّ انتباهه، إلا ما يهمهُ منها ويهضمهُ، ويتخذ منه موقفاً خاصاً متميزاً... فائق ضحكته ساذجة، ولباسه بسيط رخيص ولكنه ذو طابع متفرّد». وقد توقف عند بعض أعماله الفنية، وتقنياته التي عدّها «مهنيّة متقدمة» في ذلك الوقت.
يوثِّق الجادرجي حياة الفنان محمود صبري الذي لم يكن الفن شغله الشاغل أول الأمر لأنه كان موظفاً في البنك، بينما كان الرسم هواية يزاولها في أوقات فراغه، لكنه سرعان ما ترك كل شيء، وانقطع للفن التشكيلي. يرصد الجادرجي هذه البدايات، فيقول: «أما على الصعيد الفني، فلم يكن محمود صبري بنظر جواد وفائق أكثر من هاوٍ مبتدئ، إنّ تكنيكه في الرسم والألوان والتكوين ضعيف، ومن أعمال الناشئين، ولكنه كان أول من هزّ بحق الفن العراقي هزّة الإيقاظ من سباته في الرومانتيكية الريفية».
وكان الجادرجي يتفق كثيراً مع محمود صبري الذي يقول «إن للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنّبها». وهذا التناغم هو الذي جعلهما صديقين حميمين جداً. ومثلما رصد بيوت الشَعَر والأعراب ودِلال القهوة، انتبه إلى لوحات جواد سليم، مثل «البغداديات» و«ليلة الحِنّة» و«القيلولة»، مُنتظراً من الجميع أن ينفتحوا على مناخات فنية جديدة، وتقنيات معاصرة تنقل الفن التشكيلي العراقي نقلة نوعية تضعه في مقدمة المَشهد، على الصعيد العربي في أقل تقدير.
ويتحدث الجادرجي في هذا الفصل عن تجربته في الزخرفة الإسلامية التي لم يفلح في الدخول إليها من الأبواب الأمامية، فولج إليها من الأبواب الخلفية التي فتحت له آفاقاً واسعة، وأمدّته بكثير من عناصر النجاح والتألق، بعد أن انهمك في التجريد الغربي، وأفادَ من تجارب فنانين بريطانيين وهولنديين كثيرين، أبرزهم بن نيكلسون، وثيو فان دوسبرغ، وخيريت توماس ريتفيلد.
ويميل الجادرجي، سواء في هذا الكتاب أو في كتبه الأخرى، إلى التوثيق بصيغة أدبية، فهو من بين المهندسين المعماريين القلائل الذين كتبوا عن أصدقائهم وأقرانهم في المهنة «الفنية»، تماماً مثلما كتب عن الفنانين التشكيليين، واختبر أفكارهم ورؤاهم الثقافية المحاذية للفن التشكيلي.
والملحوظة الأخيرة التي أسوقها في هذا المضمار هي أنّ الجادرجي كان متواضعاً في المهنة والكتابة، ولم يتعالَ على أحد، ولم يضع الآخرين في منزلة أدنى منه، رغم بعض آرائه النقدية القاسية، بل كان يعرض كتبه وأفكاره لأصدقائه والمقرّبين منه، وينتظر آرائهم في اللغة والأسلوب، والمضامين التي كان يعالجها، ولم يتردد ذات يوم في قبول الأفكار العقلانية الصحيحة التي كانت تُسدى إليه.
... المزيد
 



تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
TT

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

وقّعت هذه المرأة الأميركية التي تعيش وتعمل في العاصمة الألمانية، عقداً مع شركة «توموروو بايوستيتس» الناشئة المتخصصة في حفظ الموتى في درجات حرارة منخفضة جداً لإعادة إحيائهم في حال توصّل التقدم العلمي إلى ذلك يوماً ما.

وعندما تتوفى زيغلر، سيضع فريق من الأطباء جثتها في حوض من النيتروجين السائل عند حرارة 196 درجة مئوية تحت الصفر، ثم ينقلون الكبسولة إلى مركز في سويسرا.

وتقول زيغلر، وهي مديرة لقسم المنتجات في إحدى شركات التكنولوجيا في كاليفورنيا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «بشكل عام، أحب الحياة ولدي فضول لمعرفة كيف سيبدو عالمنا في المستقبل».

ولم يعد علم حفظ الجسم بالتبريد الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، مقتصراً على أصحاب الملايين أو الخيال العلمي كما ظهر في فيلم «ذي إمباير سترايكس باك» الذي تم فيه تجميد هان سولو، وفيلم «هايبرنيتس» حين يعود رجل تحرر من الجليد القطبي، إلى الحياة.

توفّر شركات في الولايات المتحدة هذه الخدمة أصلاً، ويُقدّر عدد الأشخاص الذي وُضعت جثثهم في التبريد الأبدي بـ500 فرد.

50 يورو شهرياً

تأسست «توموروو بايوستيتس» عام 2020 في برلين، وهي الشركة الأولى من نوعها في أوروبا.

وفي حديث إلى «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول إميل كيندزورا، أحد مؤسسي الشركة، إن أحد أهدافها «هو خفض التكاليف حتى يصبح تبريد الجثة في متناول الجميع».

إميل كيندزورا أحد مؤسسي «توموروو بايوستيتس» يقف داخل إحدى سيارات الإسعاف التابعة للشركة خارج مقرها في برلين (أ.ف.ب)

ولقاء مبلغ شهري قدره 50 يورو (نحو 52.70 دولار) تتقاضاه من زبائنها طيلة حياتهم، تتعهد الشركة الناشئة بتجميد جثثهم بعد وفاتهم.

يضاف إلى الـ50 يورو مبلغ مقطوع قدره 200 ألف يورو (نحو 211 ألف دولار) يُدفع بعد الوفاة - 75 ألف يورو (نحو 79 ألف دولار) لقاء تجميد الدماغ وحده - ويمكن أن يغطيه نظام تأمين على الحياة.

ويقول كيندزورا (38 سنة) المتحدر من مدينة دارمشتات في غرب ألمانيا، إنه درس الطب وتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسرطان، قبل أن يتخلى عن هذا الاختصاص بسبب التقدم البطيء في المجال.

وتشير «توموروو بايوستيتس» إلى أنّ نحو 700 زبون متعاقد معها. وتقول إنها نفذت عمليات تبريد لأربعة أشخاص بحلول نهاية عام 2023.

ويلفت كيندزورا إلى أنّ غالبية زبائنه يتراوح عمرهم بين 30 و40 سنة، ويعملون في قطاع التكنولوجيا، والذكور أكثر من الإناث.

عندما يموت أحد الزبائن، تتعهد «توموروو بايوستيتس» بإرسال سيارة إسعاف مجهزة خصيصاً لتبريد المتوفى باستخدام الثلج والماء. يتم بعد ذلك حقن الجسم بمادة «حفظ بالتبريد» ونقله إلى المنشأة المخصصة في سويسرا.

دماغ أرنب

في عام 2016، نجح فريق من العلماء في حفظ دماغ أرنب بحال مثالية بفضل عملية تبريد. وفي مايو (أيار) من هذا العام، استخدم باحثون صينيون من جامعة فودان تقنية جديدة لتجميد أنسجة المخ البشري، تبين أنها تعمل بكامل طاقتها بعد 18 شهراً من التخزين المبرد.

لكنّ هولغر رينش، الباحث في معهد «آي إل كاي» في دريسدن (شرق ألمانيا)، يرى أنّ الآمال في إعادة شخص متجمد إلى الحياة في المستقبل القريب ضئيلة جداً.

ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نشكّ في ذلك. أنصح شخصياً بعدم اللجوء إلى مثل هذا الإجراء».

ويتابع: «في الممارسة الطبية، إنّ الحدّ الأقصى لبنية الأنسجة التي يمكن حفظها بالتبريد هو بحجم وسمك ظفر الإبهام، والوضع لم يتغير منذ سبعينات القرن العشرين».

ويقرّ كيندزورا بعدم وجود ضمانات، ويقول: «لا نعرف ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا. أعتقد أن هناك فرصة جيدة، لكن هل أنا متأكد؟ قطعاً لا».

بغض النظر عما يمكن أن يحدث في المستقبل، تقول زيغلر إنها متأكدة من أنها لن تندم على قرارها. وتضيف: «قد يبدو الأمر غريباً، لكن من ناحية أخرى، البديل هو أن يضعوك داخل تابوت وتأكلك الديدان».