هل يصيب الهلع من الأوبئة مجموعات دون أخرى؟

إشارات تعود إلى القرن الثامن عشر تربط بين الخوف من المرض ومقدار انتشاره

غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
TT

هل يصيب الهلع من الأوبئة مجموعات دون أخرى؟

غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»

أثار انتشار فيروس كورونا إحساساً مُتصاعداً بالهَلَع عبر العالم، وتحوّلت مشاهد المُتسوقين وهم يتدافعون لمُراكمة الموادّ الاستهلاكيّة في عربات المتاجر الكُبرى، وعشرات الأشخاص المذعورين بعضهم من بعض وهم يضعون كمّامات على وجوهم في المطارات والأماكن العامّة، وكأنّها تراكم أحداث ربّما ما زالت محدودة الأبعاد، ولكنّها تُنذر مع استمرار انتشار الفيروس وتحوّله إلى وباء بتحوّل نوعيّ قريب في طبيعة استجابة المجتمعات البشريّة، صعوداً نحو حالة من الفزع التّام والسلوكيّات الأنانيّة واللاعقلانيّة.
فهل ستجرفنا العولمة والثّقافة الاستهلاكية التي غلبت على كوكبنا زمان الرأسماليّة المتأخرة، وقرّبت بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانيّة من الأذواق والأماني والتّوقعات، إلى تماثل طبيعة استجابة مختلف الشّعوب على تنوع مسيرتها التاريخيّة والحضاريّة، وتقدّمها الماديّ والتقنيّ، للجوائح والكوارث؟ وهل هناك مجموعات بشريّة قادرة على التعامل مع الأزمات على نحو أفضل من مجموعات أخرى؟
هنالك إشارات مبكّرة على أنّ الحالة العقليّة للشعوب -بافتراض وجود نوع من عقل جمعيّ يربط تجارب كتلة بشريّة تتشارك الخبرات التاريخيّة ذات في إطار الإقليم الجغرافي الواحد- قد تدفع بعضها للسقوط فريسة أسهل للهلع، مقارنة بشعوب أخرى. وتعود أولى تلك الإشارات الموثقة إلى القرن الثامن عشر، حيث نص كتبه الطبيب الفرنسيّ فرانسوا تشيكوين غداة موجة الطّاعون الكبرى التي ضربت مارسيليا -أكبر الموانئ الفرنسيّة على البحر المتوسّط- ربط فيه بين طريقة تعامل مختلف الفئات السكانيّة مع الخوف من المرض ومقدار انتشاره بينهم، مدعياً وجود نوع من علاقة متبادلة بين الاثنين: الوباء يسبب الهلع، والهلع يتسبب بانتشار الوباء، وهكذا كما علاقة جدليّة مستمرة. وعلى الرّغم من أن طرح تشيكوين لم يجد آذاناً صاغية كثيرة بين مجايليه، فإن استجابة الشّعب الهندي الخاضع للحكم البريطاني لكارثة انتشار الإنفلونزا نهاية الحرب العالميّة الأولى (1918-1919) التي لم تشهد تفشياً في حالة الهلع على نطاق واسع، مقارنة بالذّعر الشامل الذي أصيبت به شبه القارة الهنديّة بأجمعها لدى انتشار الطاعون نهاية القرن التاسع عشر، استعادها مجدداً للنقاش. وقد اقترح مؤخراً ديفيد آرنولد، المؤرّخ البريطانيّ المرموق، أن يكون اختلاف الاستجابة تلك مرتبطاً بسلوك دولة الاحتلال البريطانيّة. فقد تسببت سلسلة التعليمات المشددة التي فرضتها السلطات للتّعامل مع وباء الطّاعون بانتشار الخوف بين الهنود، وبالتالي ظهور موجات من هلع جماعيّ يعتقد أنها ساهمت بشكل أو آخر بانتشار المرض، مقارنة بما يشبه اللامبالاة التي ميزت سلوكهم إبّان موجة الإنفلونزا، بعدما التزمت سلطات الاحتلال بضبط النفس، وعدم المبالغة في الإجراءات.
وللحقيقة، فإن تنظيرات تشيكوين وإن افتقدت للأدلة العلميّة التي تجعلها مقبولة بمقياس الممارسة العلميّة اليوم، فإنها عكست ملاحظة لماحة لعين خبيرة، وتأتي الدّراسات الحديثة لتنحو نحوها في ربط حجم الهلع بالحالة العقليّة النفسيّة الغالبة على المجموعة البشريّة.
تقول دراسة صادرة عن منظمة الصّحة العالميّة لقياس التّوتّر النفسي والقلق، أجريت لـ15 دولة حول العالم في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، إن 26 في المائة من الأمريكيين عانوا اضطرابات نفسيّة - عقليّة خلال آخر 12 شهراً، مقارنة بـ17 في المائة في كولومبيا ولبنان، و9 في المائة في إسبانيا، و8 في المائة في إيطاليا، و4 في المائة (في الصّين - شنغهاي). وبحسب الدّراسة، فإنّ احتمال معاناة الأفراد من تلك الاضطرابات بين سكان دول البّر الأوروبيّ (11.5 في المائة) أقلّ بما يقرب من النّصف منها بدول العالم الأنغلوفوني (الولايات المتحدة وبريطانيا -كما في دراسة أخرى موازية لدراسة منظمة الصحة العالميّة- ونيوزلندا وأستراليا)، حيث المعدل 23 في المائة، فيما يتراجع الاحتمال عند الصينيين إلى خُمْسه، مقارنة بالولايات المتحدة مثلاً التي تتصدر القائمة العالميّة. ويقرأ الخبراء في تلك الأرقام استعداداً أعلى لدى بعض الشعوب لتفشي مستويات القلق والتوتر والخوف بينها، مقارنة بأخرى، وبالتّالي فرصة وقوعها في الهلع الجماعي واضطرابات السلوك عند مواجهة الأوبئة والأزمات الكبرى.
وعند محاولته تفسير هذا التفاوت، يربط أوليفر جيمس في كتابه «الرأسماليّ الأناني - 2008» بين نتائج دراسة منظمة الصحة العالميّة (كما دراسات موازية لها) بتعرّض شعوب العالم الأنغلوفوني في الربع الأخير من القرن الماضي إلى صدمة سياسيّة - اقتصاديّة تسببت بها المدرسة النيوليبراليّة، وتسببت في تعاظم فجوة المداخيل بين القلّة الثريّة والأكثريّة المعدمة، وما ترتب على السياسات المصاحبة لتلك المنهجيّة الاقتصادية من تراجع ملموس للقوّة الشرائيّة للمواطنين، وفقدانهم عنصر الأمان الوظيفي، بينما رزحت النساء تحديداً تحت ضغوط مضاعفة، بعد أن دُفعن للانخراط في سوق العمل، بكل متطلباته والتوترات المصاحبة له، غالباً على حساب الصحّة النفسيّة، ونوعيّة التغذية للأبناء الصغار، وهي عوامل -وفق دراسات علوم السايكولوجيا المعاصرة- حاسمة في تكوين شخصيّة الإنسان، وطبيعة استجابته للأزمات مستقبلاً. ويشير جيمس، بمعرض تعليقه على نتائج الدّراسة سالفة الذّكرِ، إلى أن الصدمة النيوليبراليّة تفوقت في تأثيراتها السلبيّة على الحالة النفسيّة والعقليّة للمواطنين بأكثر مما تسببت به الحروب الأهليّة والصراعات المسلحة للسكان في دول مثل كولومبيا ولبنان، التي بدورها امتلكت أكثر من ضعفي فرص وقوع المواطنين بتلك الاضطرابات، مقارنة بدول مثل اليابان وإسبانيا.
ويضيف جيمس عاملاً مكملاً يتضامن مع السّياسات النيوليبراليّة لناحية الضغط على الأفراد عبر العالم الأنغلوفوني، الذي يتمثّل في الثّقافة الماديّة الاستهلاكيّة التي فرضتها الرأسماليّة المتأخرة، مطلقةً العنان لمجموعة من أسوأ المشاعر الإنسانيّة بتولي مقعد القيادة: الحسد، والوسواس القهري، والأنانيّة، وفقدان الشعور بالأمان، على نحو ضاعف لدى الأكثريّة فرص الإصابة بالاكتئاب، والقلق المرضي، والتوتّر الدائم، وأيضاً التّورط بأشكال مختلفة من الإدمان. ولا شكّ أن الأفراد نتيجة هذه الأجواء السياسيّة - الاجتماعية سيكونون أقرب من السقوط في لجة الخوف عند انتشار الأوبئة، وبالتالي اتباع نمط سلوكيّ أناني يقود حتماً إلى الانخراط الانفعالي أو اللاواعي في مظاهر الهلع الجماعيّ من حولهم. «إننا نعيش في مجتمعات مريضة بحق»، على حد تعبير إريك فروم في كتابه الشهير عن «المجتمع العاقل».
كثير من العلماء الاجتماعيين المعاصرين في الغرب يستبعدون بشكل شبه قاطع وجود تفسيرات جينيّة أو عرقيّة أو جندريّة الطّابع لكون مجموعة من الأفراد أقرب إلى الإصابة باضطرابات نفسيّة وعقليّة، وبالتالي أكثر استعداداً نسبيّاً للسقوط في الهلع الجماعيّ. فالإيطاليّون المهاجرون إلى الولايات المتحدة يعانون مستويات عاليّة من الاضطرابات النفسيّة - العقليّة، تماثل تلك التي يحققها بقيّة الأمريكيين، لكنها تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف عما قد يتعرض له المواطن الإيطاليّ ضمن بيئة بلاده الأصليّة. كما أن المواطنين النيجيريين كانوا قريبين في حجم استعدادهم للوقوع ضحيّة مصاعب نفسيّة وعقليّة من شعوب جنوب أوروبا والصين منهم إلى الولايات المتحدة مثلاً. فيما لوحظ أن نساء الدول الإسكندنافيّة وازَيْن رجالهّن في إمكان تعرضهن لتلك الاضطرابات، فيما كانت نسبة إصابة نساء الدول الأنغلوفونيّة -التي تبنت السّياسات النيوليبراليّة- بها ضعف رفاقهن الرجال.
لا هروب إذن من توقّع استجابات متفاوتة للمجموعات البشريّة المختلفة في مواجهة الخوف المتصاعد جرّاء تفشي وباء «كوفيد-19» (كورونا)، ومدى انتشار الهلع الجماعيّ والانحرافات السلوكيّة بينها. وقد تكون التجربة الحيّة الآن بمثابة فرصة للمجتمعات التي وقعت غالبية مواطنيها ضحايا لتغّول ممارسات اقتصادية لا إنسانية خلال العقود الأربعة الأخيرة لإجراء جردة حساب معمقة لأنظمتها الاقتصاديّة والسياسيّة، ومحاولة بناء مزاجات اجتماعيّة جديدة تسمح للمواطنين بامتلاك قدرة أفضل نسبياً مما انتهت إليه لتعامل أفضل مع الأزمات، سواء كورونا اليوم أو كورونات المقبل من الأيّام. فكل أبناء المجتمع الواحد يبحرون في المركب ذاته بمواجهة بحر عواصف الأوبئة الهائج، وهي عواصف لا تفرّق بين مسؤول ومواطن عاديّ، أو بين ثري وفقير، أو بين رجل وامرأة. ننجو معاً، أو نقضي معاً، وتلك هي المسألة.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».