جورج إليوت... نسوية ثائرة وحياة بين الرواية والفلسفة والفضائح

200 عام على ولادة أهم مثقفات بريطانيا في القرن الـ 19

جورج إليوت
جورج إليوت
TT

جورج إليوت... نسوية ثائرة وحياة بين الرواية والفلسفة والفضائح

جورج إليوت
جورج إليوت

يعتبر كثيرون جورج إليوت التي ولدت قبل 200 سنة، أهم روائية بريطانية من العصر الفيكتوري، وحققت رواياتها جميعاً أرباحاً تجارية منذ طبعاتها الأولى، وما زالت قيد التداول إلى اليوم. ورغم أنها نشرت أول أعمالها تحت اسم ذكوري مستعار بدلاً من اسمها الحقيقي (ماري آن إيفانس) خوفاً من ألا يأخذها النقاد الأدبيون على محمل الجد، فإن هؤلاء احتفلوا بها أيضاً عندما نشرت باسمها الحقيقي، وإن احتفظوا بكنيتها المستعارة تلك حتى صارت به علماً بارزاً في تاريخ الأدب الإنجليزي، بينما بالكاد يتذكر القراء اسمها بالولادة.
وتقف روايتها الأشهر «ميدل مارش - 1872» بجدارة واستحقاق، كأفضل رواية تسجل تفاصيل حياة المجتمع الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
لكن الأضواء الساطعة لهذا المجد الأدبي العريض في عالم الرواية، كثيراً ما صرفت النظر عن معالم أخرى شاهقة في شخصية هذه السيدة الاستثنائية التي تحدت طبقتها الاجتماعية، ومجتمعها الطرفي، وفضاء لغتها المحلية، وبطريركية ثقافة عصرها، لتصبح – إلى جانب إنتاجها الروائي المُبهر – أهم فيلسوفة بريطانية أنثى في أيامها، لا يعرف كثيرون أنها أول من ترجم أعمال بنيديكت دو سبينوزا، الفيلسوف الهولندي، إلى الإنجليزية؛ بل ولأي لغة في العالم، وبقيت لسنوات طوال - وهي الفتاة المنحدرة من أصول ريفية - محررة ناجحة لمجلة لندنية ثقافية رصينة، وأن أسلوب حياتها الشخصية الصادم والمثير للجدل يضعها في مقام نموذج مبكر لرائدة نسوية ومناضلة حقيقية بالممارسة العملية، دون الاستعراضات النظرية الفارغة التي كثيراً ما غلبت على إنجاز نسويات تلك الحقبة. ولذلك فإن أي تجربة لقراءة أعمال جورج إليوت أو عبور مجمل نتاجها الأدبي، بمعزل عن معرفة تلك الأبعاد المتقاطعة في أقانيم الزمان والمكان والثقافة التي أنتجت عقلها الجميل، لا تعطي تلك النصوص حقها، ويفقد القارئ فرصة نادرة للإطلال على ديناميات روح عصر آخر مضى، كان بكل ما فيه انعطافة مهمة للتجربة البشرية بمجملها، وفضاء استوت فيه الرأسمالية البرجوازية على عرشها الذي ما برحت - رغم كل التحولات - متمسكة به بقوة.
ولدت ماري آن إيفانس في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1819، داخل قرية ريفية صغيرة من أعمال وورشاير، في قلب الريف الإنجليزي كابنة ثالثة. وقد منحها والدها مبكراً مساحة واسعة للقراءة والتعلم لم تكن تحظى بها عادة بنات جيلها في ذلك المجتمع الطرفي بعيداً عن المدن الكبرى، إذ إنه كان يرى محدودية فرصها في الزواج، نظراً لافتقاد ملامح وجهها للجمال التقليدي الذي يمكن أن يجذب إليها خاطبين أثرياء، وأراد لها امتلاك وسائل أخرى لكسب العيش مستقبلاً. لكن طموح ماري آن وعقلها النهم كانا أكبر بكثير من أن تنتهي في وظيفة تقليدية، وتشبعت روحها سريعاً بمزيج متفجر ملتهب من الآداب والأشعار والمعارف والعلوم واللغات، كان ليؤهلها - لو أنها من طبقة أخرى - لدور بروفسورة بارزة في «أكسفورد» أو «كامبريدج»؛ لكنها ابنة مزارع تقليدي، من قرية نائية، فيها أهم نشاط ثقافي حضور قداس الأحد في الكنيسة.
من الجلي أن ماري آن كانت تعيش اغتراباً تاماً عن واقعها، وهو ما تسبب في تمردها مبكراً على السلطات الأبوية جميعها، بداية من رفضها العلني للمفاهيم الدينية التقليدية، وتوقفها عن حضور القداس الأسبوعي، وهو مما تسبب لها في معركة مع والدها، وفضيحة محلية في مجتمعها الصغير المغلق، ولاحقاً بقرارها – المتهور - الهجرة إلى العاصمة لندن، للعمل في مهنة الكتابة.
نقطة التحول في حياتها كانت انتقال عائلتها للسكنى على أطراف مدينة كوفنتري - عاصمة الإقليم – وهي في الحادية والعشرين من العمر، إذ تعرفت هناك على مجموعة من المثقفين التقدميين الرفيعين الذين كانوا يلتقون دورياً لتبادل الآراء ومناقشة الأفكار وثمرات الكتب، مما شرع أمامها نافذة للنهل من خلاصة الأدب والثقافة العالميين وقتها.
ويبدو أنها تبحرت تلك الفترة في تاريخ الأفكار والأديان، فترجمت من الألمانية كتاب ديفيد ستراوس المفصلي «قراءة نقدية لحياة السيد المسيح» الذي جادل فيه بأن المعجزات المنسوبة للنبي الناصري في العهد الجديد لم تكن سوى تلفيقات وأساطير.
ومن فورها أصبحت ماري آن هدفاً للهجوم من السلطات الدينية النافذة في بريطانيا، لإقدامها على نقل مثل تلك الهرطقة إلى الإنجليزية، ووصف أحد كبار الأساقفة الكتاب لما وصلته نسخة من الترجمة بأنه «أسوأ كتلة فاسدة لفظها الجحيم ذاته يوماً»؛ لكنها لم ترعوِ، وانطلقت من فورها تترجم أعمال دو سبينوزا، الفيلسوف المغضوب عليه من رجال الدين.
في كوفنتري، تعرفت ماري آن على الناشر جورج تشابمان الذي أعجب بها ودعاها للانتقال للعيش معه في لندن، ومشاركته تحرير مجلة «وسيمنستمر ريفيو» التي كانت معقلاً متقدماً للفلاسفة والمفكرين البريطانيين التقدميين، أمثال جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل. وقد أدارت المجلة بفاعلية واقتدار، وانخرطت بكليتها في معركة التغيير المجتمعي التي كانت تشهدها بريطانيا، وتعاطفت مع الثورات الأوروبية عام 1848، ودعت إلى تعليم المرأة، والمساواة الجندرية، وساندت الحراكات النسوية دون أن تتورط في رطانة النسويات اللغوية.
سكناها مع تشامبان دون زواج لثلاث سنوات لم يكن سراً، إذ كانت تلك الفتاة الريفية الذكية غالباً المرأة الوحيدة في اجتماعات نخبة مثقفي العاصمة في منزل تشامبان بحي ستراند؛ لكنها أصبحت فيما بعد مركز فضيحة مجتمعية، بعدما انتقلت للعيش علناً مع الكاتب جورج هنري لويس الذي كان متزوجاً، فقاطعها أهلها، وامتنعت نساء المدينة عن التعاطي معها وخضن في سمعتها. خلال تلك الفترة ترجمت كتاب الفيلسوف الألماني لوديغ فيورباخ «جوهر المسيحية» الذي كان أساسياً في إطلاق الفلسفة المادية لاحقاً على يد كارل ماركس، وأنهت ترجمتها عام 1856 لتحفة دو سبينوزا وعمله الأخير «الأخلاق – 1677» الذي رغم تأثيره الكثيف على الثقافة الأوروبية لم تكن أفكاره الثورية قد عبرت بعد حاجز اللغة بين جانبي القنال الإنجليزي، ولاحقاً في 1857 استجمعت ثقتها لتنشر أول نتاجها الأدبي «مشاهد من حياة رجال الدين» وهي مجموعة قصص قصيرة تجمعها ثيمة واحدة – تحت الاسم الأدبي المستعار جورج إليوت - قبل أن تلحقها في 1859 بروايتها الأولى «آدم بيد» لتتوالى من بعدها سلسلة من الدواوين الشعرية والأعمال الروائية، صدر آخرها عام 1873 «دانيال ديروندا»، التي ربما تكون أهم أعمالها أدبياً.
وقد توفيت ماري آن في عام 1881 بعد أشهر قليلة من زواجها بأميركي يصغرها بعشرين عاماً، وللمفارقة فقد عقدت قرانها عليه في الكنيسة، وهي التي قاطعت القداديس الدينية طوال أربعة عقود تقريباً.
حياتها الثرية التجارب هذه، وثقافتها الفلسفية الرفيعة، منحت كتابتها الأدبية عمقاً فريداً ووعياً اجتماعياً مبكراً لتأثيرات الرأسمالية على حياة الأفراد، وطبيعة القلق الروحي والاغتراب الذي كانت تعيشه النساء الإنجليزيات في ظلها، كما تلك الشبكات الواهنة من العلاقات الإنسانية التي تربط المجتمعات على مستويات مختلفة في أجواء تحولات ثقافية عاصفة.
شخصيات رواياتها معقدة، وتطرح وقائعها تساؤلات فلسفية وسيكولوجية وسيسيولوجية، وتؤطر في سياقاتها المآزق الفكرية والاجتماعية لجيلها. وقد اشتهر وصف فرجينيا وولف لروايتها «ميدل مارش» بأنها «من تلك الأعمال الأدبية النادرة التي كتبت لقراء ناضجين».
وفي الحقيقة، فإنه لا خلاف بين النقاد بمن فيهم أولئك الذين عابوا عليها أحياناً تطرفاتها الفلسفية أو السياسية، في أن مجمل نتاجها الأدبي يتسم بالنزاهة الفكرية، والحكمة، وصرامة الارتباط بقضايا الإنسان، وأن تلك الروح الثائرة المتمردة كانت على الإطلاق أهم مثقفات بريطانيا في القرن التاسع عشر.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.