الناشرة فاطمة البودي: تزوير الكتب في مصر أصبح مخيفاً

قالت إن الجوائز تنتج رواجاً... لكنها لا تصنع روائياً جيداً

فاطمة البودي
فاطمة البودي
TT

الناشرة فاطمة البودي: تزوير الكتب في مصر أصبح مخيفاً

فاطمة البودي
فاطمة البودي

اقتحمت دكتورة فاطمة البودي صاحبة «دار العين» مجال صناعة النشر في مصر منذ سنوات طويلة، واستطاعت في ظل الصعوبات التي تواجه النشر الورقي أن تحقق لدارها اسماً معروفاً في الوطن العربي، وليس المصري فقط.
ومنشورات الدار لا تقتصر على الكتب الأدبية الأدب، وإنما تشمل العلوم الإنسانية والعلمية والفكرية... هنا حوار معها عن إشكاليات صناعة النشر، والتحديات التي تخوضها في ظل مشاكل التزوير والكتب الرقمية، وارتفاع أسعار الورق والطباعة.
> انفتحت تجربة «دار العين» على كتاب كثيرين في العالم العربي، ولم تقتصر على المصريين فقط... كيف استطعت تحقيق ذلك؟
- حينما أخذت قرار دخول عالم صناعة النشر لم أكن أعلم خفاياه ومخاطره ومتاعبه، الوصول للنجاح سهل، لكن الحفاظ عليه صعب. ووجدت القارئ المصري لا يعرف غير اللامع جداً من الكتّاب العرب، وخلال مشاركتي في معارض الكتب العربية تعرفت على الكثير من الكتاب المبدعين من المغرب العربي تحديداً، وقلت لماذا لا أكون وسيطاً بينهم وبين القارئ المصري؟ بعض الكتّاب لمعت أسماؤهم من خلال الدار، منهم من استمر معي ومنهم من استكمل مع ناشرين من موطنه. عموماً، أعتبر ما تقوم به «دار العين» حجراً في ماء راكد أثرته بوعي لتحقيق هدف الدار في نشر إبداعات لكل الكتاب العرب، وأعتبر إقبالهم على النشر من خلالنا شهادة نجاح للدار.
> في رأيك، ما نوعية القراء هذه الأيام، أو ما هي معاييرهم في القراءة؟
- اختلفت معايير القراء مؤخراً بشكل يخالف التوقعات، ودخل صنف من الكتب التي لا يمكن تصنيفها، وهو أمر يهدد صناعة النشر والعقول، فنجد المكتبات غارقة بآلاف الـكتب السطحية، أو كتب «تنمية بشرية»، وهو المسمى الذي انتهك من قبل بعض محبي الشهرة والمدونين. لا تخلو هذه الكتب من الأمور الغثة، لكن للأسف يقبل عليها جمهور معارض الكتب. وعبر 12 عاماً من المشاركة في المعارض تعرفت على نوعيات القراء، جمهور المعارض نوعان أساسيان من القراء، هما: المحترفون يأتون بقائمة كتب، بينما قراء آخرون يستقون قائمتهم من مشاهير «السوشيال ميديا» ويأتون فقط لاقتنائها، والتباهي بها على «إنستغرام» أو «فيسبوك».
أقول هذا رغم أنني كنت من أوائل دور النشر التي استثمرت وجود «السوشيال ميديا» فالصورة باتت مؤثرة، لكنها باتت مستثمرة في انتشار أفقي لا يعمق المعرفة ولا يخلق قارئاً واعياً. وأراها أشبه بموضة «المدونات» التي اختفت لأنها لم تنجح في ربط القارئ بها.
> ما تفسيرك لظاهرة انتشار الكتب المترجمة في العامين الأخيرين؟
- الأمر مرتبط بمِنَح الترجمة التي تقدمها المراكز الثقافية الأجنبية، وهو أمر له شقان: شق إيجابي، حيث نعيد الجسور مع الإنتاج الفكري المعاصر للغرب، وشق سلبي هو نشر كتب غير مناسبة لثقافتنا، أو لها توجهات وأهداف معينة، وللأسف بعض الناشرين يقعون في هذا الفخ.
الترجمة مهمة لا شك لأن القارئ يكون ضامناً ماذا سيقرأ من أعمال استقرت في الوعي الجمعي العالمي، لكن للأسف مثلاً سنجد هذا العام أكثر من دار نشر ترجمت الروايات الأجنبية نفسها. هنا يجب أن نضع في الاعتبار أن القارئ أصبح لا يقبل إلا على كاتب يعرفه أو مؤثر عالمياً، ولا يقدِم على شراء كتب لكتاب جدد. هذه الكتب تحتاج إلى أن نقنع القارئ بها.
في «دار العين» بدأنا سلسلة ترجمة أعمال فرجينيا وولف بـ«غرفة يعقوب»، وسوف أستمر لأنها لم تأخذ حقها في الترجمة العربية. ونحن بصدد ترجمة رواية «أورلاندو» لفيرجينيا وولف خلال مارس (آذار) المقبل. فرجينيا وولف أول من قدم تيار الوعي، وأعتقد أنها لم تُكتشف بعد بالنسبة للقارئ العربي، وسوف نتيح الكثير من أعمالها بالعربية. وسوف نصدر رواية «الخطيئة» للكاتب الروسي زاخر ريليبن، هو كاتب معاصر ورواياته لها رواج كبير.
> هل تظل ترجمة الأدب العربي للغات الأجنبية التحدي الأكبر أمام انتشاره عالمياً؟
- نريد أن تقوم وزارتا الثقافة والخارجية بتأسيس مكاتب في السفارات لدعم الترجمة من العربية للغات الأخرى، وطالبت بذلك في يوم المترجم. لا بد أن نستغل المكاتب الثقافية في العالم لهذه المهمة، حتى لو بكتابين من كل دار نشر. بدأ اتحاد الناشرين العرب ينفّذ الفكرة على استحياء في معرض فرانكفورت. لا بد من ترجمة الكتب التي تترجم فكرنا وثقافتنا المعاصرة دون أن تكون الترجمات للكتب التي تعالج الأمور الشائكة كـزنا المحارم والشواذ، وغيرهما. مع العلم أن الكاتب لا يعيش من دخل طبعاته في مصر، وإنما من دخل وعوائد كتبه المترجمة.
> ما رأيك في ورش الكتابة، هل أضافت إلى صناعة النشر؟
- هناك دور نشر كثيرة خاضت التجربة، وهو أمر محمود، لكن يجب أن يتم تحت إشراف مبدع متمكن. لا يمكن الحكم على هذه التجربة لأنها لم تسفر عن كتّاب لهم وزن، لكنها تساهم ربما في إخراج قارئ واعٍ.
> في تقرير لأكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية، أفاد بأن معدل نشر شعر الفصحى 1 في المائة فقط مما نشر عام 2019 في مصر، كيف ترين هذه النسبة الضئيلة؟
- للأسف، الشعر لا يحقق مبيعات مهما كبر اسم الشاعر أو الشاعرة؛ لأن المناخ العام خلال السنوات العشر الأخيرة اختلط فيه الحابل بالنابل، ولم نعد في أوج ازدهار ثقافي. الشعر دائماً يعبّر عن الحالة الوجدانية للمبدعين ويرتبط كثيراً بالكثير من أحوال المجتمعات. رغم ذلك لم أتوقف بعد عن نشر الشعر. والعام الماضي كنت الدار الوحيدة التي قدمت شعراء وشاعرات من مختلف أنحاء العالم العربي. أتمنى أن أظل صامدة.
> هل يمكن أن يعزى السبب للجوائز المتعلقة بالنصوص السردية، هل غيرت من متطلبات صناعة النشر؟
- الجوائز تسببت في شيئين: أنها تصنع رواجاً، لكنها لا تصنع روائياً جيداً أبداً. صحيح تصنع شهرة للدار وللكاتب، وأحياناً كتاب يستمرون أو يختفون. المشكلة في رأيي أنها تخضع لذائقة الحكام كمعيار أولي، وهناك دور نشر ظهرت فقط من أجل الجوائز ولم تسع لتقديم خدمة ثقافية حقيقية، ثم اختفت.
> حدثينا عن إطلاق «دار العين» جائزة الكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل وأدب «النوفيلا»؟
- أعلنت عن الجائزة أثناء معرض الكويت، وبعد وفاته تقديراً له ولدوره؛ لأنه رجل وطني وعروبي وكتب ثلاثية عن القاهرة من أورع ما كتب. إسماعيل احتضن الجيل الحالي من الكتاب الكويتيين والناشرين الحاليين، وترك زخماً وبصمة في الأدب الكويتي. الجائزة مخصصة للنوع الأدبي «النوفيلا»، وهو لا يزال مهملاً في عالمنا العربي، لكن إسماعيل كان داعماً له، فجاءت الجائزة لتخلد دوره. وقصدت ألا تكون قيمتها مالية، بل أدبية من خلال نشر العمل وتعزيز للكاتب في أنحاء العالم العربي... وسيكون تقليداً سنوياً إعلان أسماء الفائزين في معرض الكويت وتكريمهم بمعرض القاهرة للكتاب.
> ما هي أبرز التحديات التي تواجهك بصفتك ناشرة؟
- التزوير وصل لدرجة مخيفة، وفي محيط وسط القاهرة (أهم بقعة في مصر) ستجدين الكثير من الكتب المزورة في الشارع، والأدهى أنهم معرفون بالاسم ويقومون بتصديرها، وتم ضبط شحنات تذهب للعالم العربي. الموزع قد يتعامل مع هؤلاء ويضر بسمعة دور النشر. وأطالب اتحاد الناشرين العرب بتنقية جداوله من المزورين؛ لأنها مهنة نبيلة لا يمكن أن تضم هؤلاء بين جداولها. لا أعلم كيف يمكن أن تنتهي هذه الدائرة الجهنمية. صناعة النشر صناعة ثقيلة ومهمة ودخل قومي لا بد أن نحميه. ناهيك عن الكتب التي تتم قرصنتها على الإنترنت.
> ما رأيك في تجارب مدن النشر، وهل تحتاج مصر إلى مدن متخصصة للنشر دفعاً للصناعة؟
- التجربة في مهدها ومدينة الشارقة للنشر بدأت تحقق نجاحاً، خاصة مع استقرار بعض الناشرين السوريين في الإمارات، وهنا يجب أن أحيي الناشرين السوريين الذين لم ينقطعوا عن المشاركة في أي معرض، وأتمنى أن تعود الأوضاع كما كانت في سوريا وأفضل.
حالياً في مصر لا نحتاج إلى مدينة نشر، لكن في حاجة ماسة إلى تخفيض الجمارك على الورق. فالورق سلعة ثقافية، كما نحتاج إلى تخفيض أسعار الأحبار والأصباغ الخاصة بالطباعة، وهو ما سينعكس بالضرورة على سعر الكتاب. نريد مزيداً من التسهيلات حتى على إرسال الكتب خارج البلاد، ونحتاج إلى عقوبات رادعة للمزور؛ لأنه يؤثر على صناعة النشر ويسبب خسائر كبيرة للناشرين.
> هل يؤثر خمول الحركة النقدية بشكل ملموس على صناعة النشر؟
- حركة النقد تعاني ركوداً، والنقاد باتوا مقلين في الكتابة ويفضلون الصالونات الأدبية أو الندوات. والصفحات الثقافية أيضاً لم تعد تلعب دورها كما يجب.
> لماذا لا نجد اهتماماً بترجمة الأدب العربي لكتاب المهجر، ولا سيما المغرب العربي الفرانكوفونيين؟
- بالفعل هي قضية مهمة يجب أن نسعى لنشر إبداعات ياسمينة خضرا، وليلى سليماني، وآسيا جبار أيضاً. هذا أمر مهم ونسعى أيضاً لترجمة روايات معاصرة من أدب أميركا اللاتينية، كما أننا في «دار العين» بصدد ترجمة روايات معاصرة من الإيطالية والألمانية.
> كيف تقيّمين انتشار نوادي القراءة في مصر وأيضاً النوادي الافتراضية؟
- هناك اهتمام كبير بالقراءة في مصر والكثير من نوادي القراءة، مجموعات قرائية كبيرة ومتناثرة وهو أمر يسعدني. الكويت من أهم البلاد التي تلعب النساء فيها دوراً كبيراً في رواج نوادي القراءة والصالونات الثقافية، وأتمنى أن تمتد نوادي القراءة للمحافظات المصرية. لكني أفضّل أن يكون نادي القراءة في مكان أو دار نشر، يساهم في بيع الكتب وتجري مناقشة حية مع الكاتب أو الروائي، وأنا بصدد تأسيس نادي قراءة في «دار العين».
> ماذا عن تطور صناعة النشر عربياً؟
- هذا العام ازدادت دور النشر الكويتية والإماراتية وهي خطوات إيجابية جداً، إلى جانب دور النشر المصرية. وهناك معارض كتب مهمة تدعم هذه الصناعة، منها معرض الرياض للكتاب وهو من أهم المعارض العربية، ولا يتم منع أي كتاب من المشاركة فيه «نهائياً»، ومعرض الشارقة الأخير للكتاب كان مبشراً.



الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم