«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

من روايات القائمة القصيرة لـ «البوكر العربية»

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف
TT

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

لا تنتمي رواية «الحي الروسي» لخليل الرز الصادرة عن داري «ضفاف» و«الاختلاف» إلى النمط التقليدي من الكتابة السردية، فمنذ الصفحات الأُوَل من الرواية يشعر القارئ أنه أمام حكاية مُتصدِّعة حطّم الكاتب نسقها السردي وأدخلها في متواليات زمكانية وحدثية تنسجم مع البنية المعمارية التي يقترحها خالق النص الروائي ومُبدعه الذي لا يراهن على البنية الأرسطية التي تقوم على مثلث «البداية والوسط والنهاية»، وإنما يعوّل على تشظية الوقائع وتقديمها على شكل جُرعات متقطّعة من دون أن يُخضعها إلى ثنائية التوتر والتصعيد الدراميين.
يشتغل خليل الرز في المنطقة الرمادية التي تفصل بين الواقع والخيال، فرواياته لا تعوِّل على الواقع كثيراً ولا تُراهن على الخيال الجامح، وإنما تأخذ من الاثنين ما ينسجم مع طبيعة النص السردي المختلف قليلاً عن النصوص السائدة. وعلى الرغم من أنّ وجود الحيوانات في الأدب ليس جديداً فإنّ رواية «الحي الروسي» تحتفي بعدد من الحيوانات وتمنح بعضها أدواراً موازية للشخصيات الأخرى التي تشترك في البطولة الجماعية، فميزة هذه الرواية هي غياب البطل الواحد، وهيمنة الأصوات المتعددة مثل الراوي، ونونّا، وبوريا، وعصام وغيرهم، إضافة إلى الحيوانات التي أخذت مساحة موازية للشخصيات الأخرى مثل الزرافة، والكلبة الأفغانية رئيسة بتروفنا، والكلب العجوز موستاش، ويمكن الإشارة إلى الذئبين الأعجفين، والعقبان الثلاثة، والقطة غزال، وسواها من الشخصيات الحيوانية التي منحت النص أبعاداً رمزية عميقة.
يمكن القول إن «الحي الروسي» هي رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث، فثمة شخصيات سورية وروسية كثيرة جعلها الكاتب خليل الرز تتحرك بين روسيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وبين سوريا إثر اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011. وقد اختار لها مكاناً افتراضياً أسماه بـ«الحي الروسي» الذي تقوده المافيا الروسية الممثلة بشخصية «بوريا» وثمة عدد آخر من الشخصيات التي قُدمت بطريقة المشاهِد السينمائية على مدار النص السردي، وأثثتهُ منذ مستهل الرواية حتى جملتها الختامية.
تحتل شخصية الراوي مساحة كبيرة من الرواية كما تسجّل حضوراً طاغياً في النص السردي ولا توازيه في هذا الحضور إلا شخصية الزرافة التي تُطل علينا في الفصل الأول وتسقط قتيلة في الفصل الأخير. وبما أنّ الروائي يعتمد أسلوب تشظية الحدث وتفتيته فلا بد أن يلتجئ إلى الاستطراد الذي ينتقل فيه من الحدث الرئيس إلى أحداث ثانوية قد تعزّز الحدث الأول أو تنصرف عنه كلياً. وبواسطة هذه التقنية نتعرّف على شخصية الراوي من دون الإشارة إلى اسمه، كما يُحيطنا علماً بشخصية أمه، المرأة السورية البسيطة المُصابة بمرض السُكري التي سوف يبتر الأطباء ساقها وتطلب من ابنها أن يدفنها في جبانة شيخ سعود إلى جانب قبر أبيها. ثم يعود بنا إلى الوراء ليخبرنا أنه خرّيج قسم اللغة الروسية وآدابها، ويعرف مدير «حديقة الحيوانات» فيكتور إيفانيتش الذي كان يعمل معه في مجلة «أنباء موسكو»، أما أقرب أصدقائه الخُلّص فهو صالح علي الذي سنصادفه في الفصول الأخيرة من الرواية.
وبموازاة الراوي تقف الزرافة شخصية رئيسة أفرد لها الكاتب فصولاً متعددة يقول فيها إن الزرافة تغنّي أحياناً في سكون الليل بصوت مبحوح خفيض، وإنها تكتفي بشربة ماء واحدة خلال يومين أو 3 أيام، ولا تنام إلا لفترات قصيرة جداً وهي واقفة، وإنّ لديها خوفاً غريزياً من السباع، ولذلك تُطلق أصواتاً غامضة تمنعها من النوم. ورغم أنها موجودة في «الأسر» منذ سنوات فإن خوف الزرافة، وصور الافتراس الموروثة لديها لم تضمحل في مخيلتها، ولعل صور الحيوانات المفترسة التي تظهر على سطح الشاشة التلفازية الكبيرة المثبّتة أمامها تُعيد لها هذه المخاوف وتؤكدها كلما شاهدت الأسود والنمور والضباع وهي تُطارد فرائسها في البراري المفتوحة والغابات المكتظة بالأشجار.
تتواصل المشاهِد لتزوّد القارئ بالحكايات وبعض القصص المتناثرة التي تحث الراوي على السرد، فأم الراوي هي أنموذج للمرأة السورية البريئة التي أنجبت أولادها في «الرقة» ولا تعرف غير هذه المدينة المحاذية للحدود العراقية، بل إن العراق كله لا يعني لها سوى المُطرب الريفي حضيري أبو عزيز أو الحزن العراقي الكثيف الذي يتسرّب من مَنجَم المناحات الأبدية في كربلاء والنجف والكوفة وبقية المدن العراقية المتشحة بالسواد.
أما الشخصيات الروسية فكثيرة هي الأخرى، أبرزها أركادي كوزميتش، الكاتب الروسي المغمور الذي يرفض الناشرون طبع رواياته، وقد عاش 35 سنة مع زوجته من دون أن يحبها أو يُدرِك أنها كانت مؤمنة بموهبته الأدبية إلا بعد فوات الأوان. ينتقل أركادي بتحفيز من ابنته إلى «الحي الروسي» في دمشق، ويدرّس في معهد اللغة الروسية في المركز الثقافي، لكن الحدث الأهم هو عثوره على رسالة قديمة للناشر تشجّعه على العودة إلى المخطوط وتصحيح الحريق في ذاكرة بطلته تانيا.
تُعدّ شخصية بوريا الأكثر غموضاً بين الشخصيات الروسية فهو المتنفِذ الفعلي بمصائر أُناس «الحي الروسي»، ويمثِّل شكلاً من أشكال المافيا الروسية الخطيرة التي انتقلت إلى سوريا، ولا بد أن تكون له علاقة وطيدة بالأفرع الأمنية في دمشق، وهو في النهاية لصٌ قوي منظّم يُحاصص الناس بأرزاقهم. وإذا كانت هناك شبه ذروة في ثيمة هذه الرواية فتتمثل بالتحدي القائم بين بوريا وعصام، الرياضي الذي حطّم أرقاماً قياسية في الرماية ورفع الأثقال، ورغم أنّ هذا التحدي سيظل قائماً فإن ذهاب عصام إلى «الغوطة» المُحررة ومَقتله هناك قد وضع حداً لهذا التحدي، ولا بد من تشييعه بطريقة تليق بالأبطال، إذ خرج الحي «الروسي» بقضّه وقضيضه وواروه الثرى على عجل تحت كشّافات طائرات الهليكوبتر. ثمة سيارة مفخخة تفجّرت أمام حديقة الحيوانات حطمت الباب الرئيس وأحدثت بعض الأضرار الطفيفة، لكنها سمحت للزرافة بالخروج من الباب إلى الشارع، ثم تحركت بخطى وئيدة موزونة فتبعها الجميع.
هناك مشهدان ملحميان في هذه الرواية؛ الأول تشييع عصام ودفنه في المقبرة تحت هدير الطائرات السمتية؛ والثاني خروج الزرافة من «الحي الروسي» ومرورها في بعض الأحياء المُحررة من «الغوطة»، ثم وصولها إلى ساحة «الأمويين» حيث تعرّضت إلى رشقة دوشكة مثبتة على دبابة «تي 90» أسقطتها أرضاً في الحال، ثم التقطتها رافعة ونقلتها إلى المبنى العسكري، بينما تولى جنود آخرون إزالة دماء الزرافة القتيلة، فيما سقط الراوي بين ذراعي صديقه القديم صالح، ولم يعد بوسعه أن يسمع شيئاً، لأن موستاش بدأ يهتف من جديد.
لم يشأ خليل الرز أن يتناول الحرب السورية إلا بهذه الطريقة الفنتازية التي أنقذت نصه من الوقوع في فخ المباشرة والتقريرية، كما لجأ إلى الترميز في مواضع كثيرة من النص السردي الذي يجمع بين الحوار المسرحي الذكي، واللغة الأدبية الفصيحة التي طرّزها بكثير من المفردات المألوفة في المحكية الشامية التي أصبحت جزءاً حيوياً من نسيج النص الإبداعي الذي يحتاج إلى دراسة موسعة للوقوف عند ثيماته الفرعية الكثيرة التي رصّعت المتن الروائي وأمدّته بمحمولات فكرية وثقافية واجتماعية تُدين الحرب وتعرّي العقول المريضة التي أشعلت أوراها منذ 2011 حتى الآن.
أصدر خليل الرز 9 روايات، من بينها «يوم آخر»، و«سلمون إرلندي» و«وسواس الهواء».


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.