آلان باديو مستعيداً جبهة الغرام من براثن التنين المعاصر

جمع بعض آرائه في كتابه «في مديح الحُب»

آلان باديو
آلان باديو
TT

آلان باديو مستعيداً جبهة الغرام من براثن التنين المعاصر

آلان باديو
آلان باديو

هو بوابة الأسئلة الكبرى، والتجارب الكبرى، والانتصارات الكبرى، والاشتعالات الكبرى، ومن دونه نحن سرود في قاع الحياة، على هامش اليومي والمألوف والمكرر. وكما يقول أفلاطون الفيلسوف اليوناني العظيم: «أيما بشري لم يتخذ من الحب نقطة انطلاق لمساءلة العالم، لن يكون بمقدوره فهم فحوى الفلسفة».
ولذا شبه آلان باديو (وُلد 1937) الفيلسوف الفرنسي الأهم على قيد الحياة اليوم، وأبعدهم عن الاكتفاء بالتأمل في أقدار البشر، تاركاً الإنسانية فريسة سهلة يفتك بها تنين الرأسمالية العالمية، شبه إعلان الحب للآخر كما اقتراف القصيدة، انتقال بالحدث – بمعناه الفلسفي – إلى كلمات، يمكنها أن تكون خيوطاً مربوطة بالأبدية. الحبيب كما الشاعر، يواجه تحدي سيولة العالم ولُزوجته وهلاميته الذي اكتشف وحده وجوده، بعد صدفة امتزاجه بنسخته الأخرى (المعشوق)، ليشيد معماراً له روح قادرة على الصمود، متماسكة عبر الزمان والمكان والتاريخ. إعلان الحب وكأنه بوح قصيدة تولد للبقاء لا للموت.
ولذا هو يقول بأن لحظة الإعلان ترتبط دائماً برهاب يشبه رهاب المسرح. إنه مواجهة شديدة الجدية مع العالم، كما لو كنت على وشك إلقاء خطابك الأول وحيداً أعزل خارج سجن ذاتك، وأمام كل الآخرين الذين صمتوا الآن ليصغوا إليك.
ويستعين بتعبير الشاعر مالارميه عن كون القصيدة «هزيمة للمصادفة تتحقق كلمة بكلمة» ليقول بأن الوفاء هزيمة لعشوائية اللقاء الأول، تتحقق يوماً فيوماً بالبناء المستمر للعالم الذي صار ممكناً بعده.
انخرط باديو منذ شبابه في نضالات ومساجلات وكتابات عديدة لاستعادة الفلسفة والتاريخ والسياسة والغد الأفضل للناس، بهدف مواجهة التسليع والتلفيق والتسطيح وأقفاص الهويات المختلقة، وأصبح نوعاً من أفلاطون معاصر يمشي بيننا ويصغي إليه الجميع باهتمام، حتى من يعارضه أكاديمياً وسياسياً؛ لكن كثيرين أيضاً لا يعلمون بأن باديو فيلسوف للحب أيضاً، وتلمع عيناه كما مراهق كلما سأله أحدهم عن رؤيته للغرام أو نظرته للحب أو تفسيره لأوجاع القلوب. وله حوارات عديدة في هذا الشأن، أشهرها ربما كان مع نيكولاس ترونغ، الصحافي بيومية «اللوموند» الباريسية، في مسرح الأفكار الذي استضافه مهرجان أفينيون (2008)، وجمعت بعض آرائه داخل كتاب لاحقاً أطلق عليه «في مديح الحب» استلهاماً من الفيلم السينمائي بالاسم ذاته، الذي كان قد قدمه المخرج الفرنسي الشهير جان - لو غودارد، صديق باديو المقرب.
عند باديو، فإن الحب هو الحالة الوحيدة التي تعيد الفيلسوف من التحليق في أجواء عالمه النظري إلى أرض الواقع، كما الكليشيه المسرحي لذلك المثقف المتحذلق الذي يوزع انتقاداته للشغف، وازدرائه لضعف البشر أمام متطلبات الجسد، ثم ما يلبث أن يقف مشدوهاً، وتتبخر أفكاره جميعاً، عندما تسرق أنفاسه تلك الحسناء التي ظهرت بلا مقدمات كما العاصفة، فخطفت روحه وجعلته أسير مشاعر غير مفهومة تماماً. ولذلك فهو يحذر رفاقه الفلاسفة بأن متطلبات المهنة من علم متمكن، وروح طفولية شاعرية، والتزام بمنطق سياسي تجاه العالم، جميعها لا يمكن أن تمثل درع حماية كافية من عنف لطمات الحب القاسية.
يقف باديو موقفاً نقدياً شديداً يصل إلى أطراف الازدراء لتجربة مواقع التعارف الإلكتروني، التي تَعِد مستعمليها بتجربة حب آمن خالٍ من المخاطرات، وعلاقات مهندسة لضمان حسن التوافق بين الطرفين، وتجنب اللوعات والألم مقابل استثمار مالي محدود. وهو يَعُدها تهديداً رأسمالياً خطيراً للحب، يفقده بعضاً من أهم عناصره البنيوية على الإطلاق: المغامرة، وشغف الترقب، ودافعية الاستكشاف، لتتبقى بعدها حصراً المتعة المادية العابرة القصيرة، التي تكاد حينئذ أن تتسبب في الكآبة أكثر من ارتقاء الشعور بتجربة الوجود.
ويرى أن الحب يمنحنا الفرصة الوحيدة كبشر، لخوض تجربة العيش في فضاء التباين خارج سجن الهوية الذاتية الخانق الموحش؛ لكنه غير مقتنع بفكرة غوته (الشاعر الألماني) عن «الحب الذي يحلق بنا للأعلى»، مجادلاً بأنه ليس ميتافيزيقيا طوباوية بقدر ما هو مشروع وجودي محض، يتطلب جهداً إيجابياً لإعادة تشييد للعالم من نقطة مزاحة عن مركزنا الذاتي النرجسي، الهم المعني أساساً بصراع البقاء. وهو في ذلك يتفق مع جاك لاكان (أستاذ التحليل النفسي الأهم بفرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين) في استحالة بناء جسور تواصل حقيقي بين عالمين مختلفين تماماً من نوعي البشر، عبر العلاقة الجسدية المحضة، وهي استحالة لا يمكن تعويضها إلا بإمكانية الحب، الذي يصبح عندئذ الفضاء الاستثناء؛ حيث يمكن للبشر الفانين أن يشهدوا غموض تجربة خلق العالم من جديد، خارج ذواتهم، وعلى نحو يلغي من أذهانهم شكل العالم الذي عرفوه من قبل. الحياة من غير الحب وفق ذلك حياة لم تعش ولم يتسنَّ اختبارها.
يعترف باديو بسحر ميتافيزيقي الطابع يتلحف به اللقاء الأول، ويمنحه فلسفياً مكانة الحدث الذي يأتي بخلاف نظام الأشياء المألوف، ويستحيل توقعه أو حسبانه؛ لكنه مهما كان شاهقاً وساطعاً وكثيفاً وصاعقاً، فإنه ليس إلا مجرد فاتحة للممكنات. الحب عنده مرتبط بما يحدث بعد الصاعقة: الاستمرارية، وعملية بناء عالم جديد مشترك من بوابة مفارقة تطابق رؤية الكائنين المختلفَيْن. وهو أشبه بمعمار على الطريقة الحرفية القديمة، يبدأ من تصور مشترك، فقاعدة، فتشييد، فتعديل ربما وإضافات - استجابة لتطورات تقدم العمل – فتجميل، فصمود في وجه العواصف وتقلبات الفصول، وانتصاره يتحقق ببقائه شامخاً قبالة التغيير الدائم في المكان والزمان والتاريخ.
وهو يقترب في ذلك من موقف الفيلسوف سورن كيركغارد، الذي كان يرى بأن باديو رغم أفكاره اليسارية يعتبر مؤسسة العائلة والزواج والأطفال نتاجاً طبيعياً لمعمار الحب؛ لكنه يحذر من أن أياً منها لا يكون غاية الحب ومنتهاه، كما في الروايات الرومانسية عن الأمير والأميرة اللذين تكلل حبهما بالزواج وكثير من الأطفال. الزواج عنده انتقال من مستوى الوجود الأدنى وأنانية المتعة الجسدية الذاتية المحضة، إلى مستوى الوجود الأخلاقي الواعي، المرتبط بالتزام تجاه العالم كما اكتشفناه خارج ذواتنا. وهو بذلك المعنى ممر إلى الحب لا نهاية محطة النهاية لرحلته، ويصبح الغرام الجسدي تعبيراً عنه وتجسيداً مادياً له، تماماً كما تتماهى حركات جسد الممثل مع الفكرة التي يقدمها على خشبة المسرح، فلا يعود هناك من فرق حقيقي بينهما.
يرفض باديو ربط البعض فكرة الحب بالحرب. فالحرب تتعلق أساساً بالصراع مع عدو لا يمكن التعايش معه من حيث المبدأ، بينما في الحب إذا كان ثمة من عدو فهو بالتأكيد «الأنا» لا الآخر، والصراعات الدرامية التي يعبر بها المحبون هي بخلاصتها انعكاس للتناقض المستمر بين الهوية الذاتية والاختلاف، وهو تناقض لن ينتهي يوماً ما دمنا بشراً. لكن ككل عملية بناء وتشييد للحقيقة الجديدة، فإن ورشة الحب قد لا تكون واحة سلام دائماً، وقد تتضمن عنفاً وخلافات، وقد تصل إلى حد الفراق. لعله هنا أشبه بالثورات التي تلغي عالماً قديماً وتشيد مكانه حقيقة أخرى مستحدثة. هل يمكن لثورة أن تتحقق بتوزيع الورود؟ لكنها في كل حالٍ تستهدف البناء والتشييد، لا الدمار والخراب.
وحسب ما يراه، فإن فكرة الحب كما تصورها الثقافة الدينية المتصوفة قائمة على الخضوع السلبي والانسحاق أمام الآخر، تصوراً سليماً لشكل العلاقة الندية المتفجرة المتجددة الإيجابية للحب الإنساني، التي حتى لو سلم الحبيب جسده وروحه فيها للآخر، فإنما يفعل ذلك من أجل ذاته، امتزاجاً واختلاطاً واشتباكاً، لا ذوباناً واضمحلالاً. الحب بهذا المعنى ليس بحثاً هادئاً في الممكن، بقدر ما هو نقض فاعل ثوري للمستحيل.



مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة