الضجيج هو الفارق الأول بين الدور السوفياتي في المنطقة والدور الروسي. فموسكو السوفياتية حين قررت، بعد رحيل جوزيف ستالين عام 1953.
أن تهبط جنوباً، سبقها دوي قوي: تحرير الشعوب، مكافحة الإمبريالية، نصرة الكادحين والمقهورين... وفي أواسط ذاك العقد دخلت إلى سوريا ومصر من بوابة كسر احتكار السلاح الغربي، فبدا الأمر لعباً استفزازياً بالنار.
الضباط العرب كانوا حينذاك يوالون الاستيلاء على السلطات في بلدانهم: عام 1958 في العراق، وقبل ذاك أطاحوا أديب الشيشكلي في سوريا وحكموا كـ«قوميين تقدميين» خلف واجهة مدنية. أما جمال عبد الناصر فكان قد اصطدم ببريطانيا وفرنسا عام 1956 ثم مضى يصادم الأميركيين في باقي المنطقة. السلاح السوفياتي، بسبب الانقلابات وتحولات الانقلابيين، غدا حاكماً.
في هذه الغضون، انضاف إلى المس بمُحرم السلاح المس بمُحرمين آخرين: بناء السد العالي في أسوان الذي وضع التنمية الاقتصادية في يد الدولة، والسياسات الخارجية من خلال «الحياد الإيجابي» و«عدم الانحياز».
إذن تصاحبت وفادة السوفيات إلينا مع انكسارات ضخمة أربعة: في طبيعة الحكام، في سلاحهم، في اقتصادهم، وفي سياستهم الخارجية.
والحال أن السوفيات لم يكونوا وحدهم من يطلب الضجيج. لقد استكمله طلب الحكام العسكريين الجدد عليه: إنهم يحتاجونه للتغطية على نقص شرعيتهم وعلى تعطيلهم كل حياة سياسية ومجتمع مدني. ولأنهم مثلوا فئات اجتماعية بعيدة تقليدياً عن السلطة، بدا ضرورياً أن يرفعوا صوتهم ويصرخوا: نحن هنا.
مع فلاديمير بوتين اختلف الأمر. بوتين صامت لا يحب الضجيج، وأهم من ذلك أن روسياه لا تملك اليوم ما تضج به. إنها لا تدعي أنها محامي الكادحين في العالم، ولا تملك أي رسالة خاصة لمعذبي الأرض. فوق هذا، هي لا تريد أن تنافس الغرب، بل تطمح إلى ملء الفراغات التي يخلفها انسحابه، وهذا عمل يجتمع فيه التنسيق الهادئ والتسلل غير المنظور. لقد كان الأولون أسوأ الشيوعيين وبات الأخيرون أسوأ الرأسماليين.
في المقابل، فالحكام المحليون الذين يسيرون في ركاب موسكو يشبهونها في تفضيل العمل الصامت على العمل الصاخب. إنهم أيضاً ليسوا أصحاب رسالة، وعلى عكس آبائهم الذين وصلوا إلى السلطة للمرة الأولى، فإن السلطة تعبت منهم، وهم يتمنون لو كان في وسعهم أن يمارسوا البطش من دون أن يسمعهم أو يراهم محكوموهم. ولما كان الصراع العربي - الإسرائيلي من محددات السياسة الخارجية، فإن السوفيات وتابعيهم كانوا، هنا أيضاً، أشد صخباً من الروس وتابعيهم. الأولون كانوا يتناقشون في حدود «التحرير»، والآخرون يتناقشون في شروط التكيف.
مع هذا فقواسم مشتركة كثيرة تجمع بين التمددين السوفياتي والروسي، معظمها من آثار الجيوبوليتيك الضارب جذره في القِدَم: توسيع النفوذ الإمبراطوري، واعتماد القوة والسلاح جسراً وحيداً للعلاقة بسبب الافتقار إلى سلع ورساميل يمكن تصديرها، ودوام سوريا «الحاقدة» - كما أسماها صحافي راحل - بوصفها بوابة العبور. ولا ننسى أن دمشق سبقت القاهرة إلى كسر احتكار السلاح الغربي في الخمسينات، وتفردت عربياً في إيصال الأمين العام لحزبها الشيوعي، خالد بكداش، إلى البرلمان.
وفضلاً عن الفوارق والقواسم بين الدورين، هناك التقاطعات: فلئن خرج السوفيات في جامعاتهم أعداداً ضخمة من الطلبة العرب، فهؤلاء غدوا، مع بوتين، أحد «أحزاب» روسيا التي لم تعد شيوعية. وبالمعنى نفسه، بات لها «حزب» آخر يستمد «كوادره» من طائفة الروم الأرثوذكس التي يكثر في أوساطها منظرو «حلف الأقليات»، و«حزب» ثالث هو من بقايا مَن تاجروا مع روسيا في الزمن السوفياتي أو كانوا وسطاء لسلعها القليلة إلى أسواقنا المحلية.
وإذا كانت روسيا اليوم تشارك الاتحاد السوفياتي إمساكه بمفاصل استراتيجية كبرى، كتنظيم العلاقة بين إيران وإسرائيل في الأراضي والسماء السورية، وإحداث توازنين مضبوطين مع إيران وتركيا، وإبرام معاهدات صداقة أو تعاون عسكري مع الزبائن المحليين، فالمؤكد أن بوتين، رجل المخابرات، تفوق على الأمناء العامين الراحلين في التعاطي بالتفاصيل، لا سيما في سوريا. فهو يشارك في «تنظيم عودة» ملايين اللاجئين المُقيمين راهناً في لبنان والأردن وتركيا، وفي تأسيس وحدات عسكرية تابعة لموسكو في الشمال، وتدريب ميليشيات كردية وعربية في الشرق، وتحويل مطار القامشلي قاعدة لها...
وغني عن القول أن الوجود العسكري في طرطوس موقع سياسي بقدر ما هو حربي. ولأنه كذلك، تقاطر على موسكو في العامين الماضيين معظم السياسيين اللبنانيين، وتردد أن موسكو أدلت بدلوها في شؤون لبنانية كتمثيل الطائفة الدرزية في الحكومة.
ولوهلة، يذكر هذا الوجود في طرطوس بسابقة المستشارين العسكريين السوفيات في مصر الناصرية بعد هزيمة 1967. لكن وجود هؤلاء الأخيرين وُصف بمساعدة مصر على «محو آثار العدوان»، فحين دعاهم أنور السادات، خليفة عبد الناصر، إلى المغادرة، غادروا.
ضيوف طرطوس أبلوا بلاءً حسناً في تدمير سوريا، لا سيما مدينة حلب، ومن المشكوك فيه أن يدعوهم بشار الأسد، أو أي وريث له من داخل السلطة نفسها، لأن يغادروا، ومن المشكوك فيه أكثر أن يفعلوا ذلك.
والحال أن بقاء هؤلاء عندنا ليس مرهوناً بقوتهم، ولا بقرارنا أن نناطح الغرب وإسرائيل، كما كان الأمر في العهد السوفياتي. إنه مرهون بغياب الغرب الذي ما إن يحضر، إذا حضر، حتى يتبدد كل شيء.
بين زائرنا السوفياتي وزائرنا الروسي
بين زائرنا السوفياتي وزائرنا الروسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة