مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 1): سمير صنبر... من صحافة قلب بيروت إلى الأمم المتحدة في نيويورك

يروي لـ «الشرق الأوسط» تجاربه الإعلامية تحت 5 أمناء عامين

في إحدى الجلسات الأممية اللبناني سمير صنبر إلى جانب هيلاري كلينتون
في إحدى الجلسات الأممية اللبناني سمير صنبر إلى جانب هيلاري كلينتون
TT

مذكرات عربي في الأمم المتحدة (الحلقة 1): سمير صنبر... من صحافة قلب بيروت إلى الأمم المتحدة في نيويورك

في إحدى الجلسات الأممية اللبناني سمير صنبر إلى جانب هيلاري كلينتون
في إحدى الجلسات الأممية اللبناني سمير صنبر إلى جانب هيلاري كلينتون

من بيروت «عاصمة الإعلام العربي» حسب تعبير اللبناني سمير صنبر، بدأت مسيرته، ليتنقل بين صحيفة وأخرى اعتلى خلالها مناصب عدّة، في فترة زمنية حملت بذور أيديولوجيات عالمية وصراعات خارجية تركت آثارها على العالم العربي، تابع صنبر معنى تعبير «الاشتراكية» التي انتشرت عناوينها في أحزاب رئيسية في العالم العربي، من مصر إلى سوريا ولبنان والعراق والأردن.
«غالبية القرارات الأساسية تأتي صدفة»، هكذا يقول صنبر الذي انتقل من العمل الصّحافي المكتوب إلى العمل في مكتب الأمم المتحدة، وعلى مدار نحو ثلاثة عقود، عمل مع خمسة أمناء. فكيف كانت تجربته الشّخصية مع كل واحد منهم خلال قياداتهم مراحل تاريخية مختلفة، من القضية الفلسطينية والجولان والحرب الإيرانية العراقية والحرب الباردة. تنشر معه «الشرق الأوسط» حوارا مطولا يدمج بين التأريخ السياسي والتقييم الإعلامي لدور الأمم المتحدة في صنع القرارات الدولية والمساعي الدبلوماسية في حلقات.
وهذا نص الأولى:
=- خوض مجال الأعمال الحرّة كان اختيار عائلتك، وأنت انتقيت الصحافة. قلت في مقابلة سابقة، إنّ «بيروت عاصمة الإعلام العربي». اليوم، كيف تقيّم خيارك؟ وهل لا تزال بيروت عاصمة الإعلام العربي؟
- بعد التجربة، ازدادت قناعتي بأنّ الصحافة كانت المهنة الأنسب لي، وإن لم تكن الأكثر ربحا. بيروت كانت بالفعل عاصمة الإعلام العربي والدُّولي. وألمع المراسلين الأجانب جاءوا للعيش بها. وأشهر الكتاب العرب اعتبروها مركزا للانطلاق نحو النجاح. وفيها وجدت الحركات السياسية والعقلانية مجالا للتنفس. رؤساء دول العالم آنذاك كانوا يستضيفون أصحاب الصحف والمجلات اللبنانية. فالرئيس إلياس سركيس كان يقول إنّ من أكثر المواضيع أهمية في اجتماع القمة العربية، كان التعليق على ما يظهر في الصحافة العاملة من لبنان. لكنّ الأمور تبدّلت بعد النزاعات الداخلية أو حروب الآخرين في لبنان، حسب تعبير الأستاذ الراحل غسان تويني. وعلى ما يبدو فإنّ النتيجة لم تكن محاولة تكسير وتسكير بيروت، بل «تكبيت» بيروت. أيامها الذهبية انتهت. بيد أنّها ورغم كل المحاولات تبقى موقعا حياً للصحافة الحرة.
> كنت صحافياً في لبنان، قبل أن تنتقل للعمل في الأمم المتحدة. أخبرنا عن أبرز ما تتذكره في تلك الأيام.
- ذهبت مع وفد الطلاب من الجامعة إلى مكتب «الصياد» في شارع رياض الصلح لكي نعرض أهداف المظاهرة السلمية. حدق بنا سعيد فرنجية بفضول غريزي من ثمّ اقترح علي كتابة موضوع بأسلوب واضح للنشر. جلست على مقعد هناك، وكتبت ما طُلب مني. قال لي يومها أن أعود في كلّ مرّة أرى أن هناك أمرا يهمّ القارئ العربي. بعد التّخرج عملت في دار الصياد بالحازمية. كنت أحرّر صفحة أسبوعية عنوانها «لكل حادث حديث». أذكر أنّني في مساء أحد الأيام خرجت مع زميل لي لتناول العشاء، وفجأة شاهدنا سيارة رباعية الدفع أمامنا تطلق الرصاص على عين رمانة من جهة وفرن الشباك من الجهة المقابلة. لتبدأ بعدها معركة تبادل النيران بين الجهتين.
تابعت بعدها القضايا العربية في جريدة الحياة. كان كامل مروة يشجعني بتواضع واثق وبابتسامة عريضة. ورحّب بي الأستاذ نصري معلوف في جريدة الجريدة. وعملت مع سليم اللوزي عندما أطلق مجلة الحوادث من شقة متواضعة مقابل قصر فرعول مع الأخ شفيق الحوت. وتعرفت على إحسان عبد القدوس، عندما أصبحت مراسلا لمجلة روز اليوسف. كان يحب زيارة لبنان. كان خجولا، ولطالما اهتمّ بسماع الحكايات الشخصية التي كان يحولها إلى روايات ناجحة.
شاركت في إصدار مجلة صباح الخير، وأصبحت صديقاً عزيزا لرئيس تحريرها أحمد بهاء الدين. وبات ضيفا دائما في بيروت.
> ما هي المواضيع التي لفتتك وتابعتها في تلك الفترة؟
- من المواضيع الرئيسية التي حاولت متابعتها كان معنى تعبير «الاشتراكية» التي انتشرت عناوينها في أحزاب رئيسية بالإضافة إلى الحزب الاشتراكي الذي كان حاكما في مصر أيام الرئيس جمال عبد الناصر، والبعث العربي الاشتراكي بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني؛ والحزب الوطني الاشتراكي في الأردن بقيادة سليمان النابلسي، وحزب الشعب الاشتراكي بقيادة صالح حبر في العراق، والتقدمي الاشتراكي في لبنان بقيادة كمال جنبلاط، الذي نشأت معه علاقة إنسانية ثقافية.
> بكلمات مختصرة ما هو رأيك بالسياسيين اللبنانيين الذين قابلتهم؟
- الرئيس رشيد كرامي، كان من أكثر السياسيين حرصا على الخدمة العامة. يتحدث دائما باللغة الفصحى. الرئيس المنتخب رينيه معوض كان من أعز الأصدقاء وأكثرهم حرصا على كرامة الآخرين. وقد تعلّمت الكثير من حميد فرنجية وشقيقه الرئيس سليمان فرنجية. تابعت الرئيس كميل شمعون ثم «الثورة» ضد التجديد بقيادة الرئيس صائب سلام الذي كان يبدي عناية خاصة بالصحافيين ويتابع أحوالهم المهنية والشخصية.
الرئيس فؤاد شهاب كان مثالاً راقياً ورمزا لافتا. حكم المؤسسات وكان حريصاً على سيادة الدستور ووحدة الشعب. ورفض التجديد. عاش على مرتبه التقاعدي، وزوجته لم تكن تجد أحيانا ما يكفي لدفع فاتورة البقال.
> بدأت عملك مع الأمم المتحدة في بيروت. وتنقلت بين عواصم عربية وأجنبية، كيف قررت ترك الصحافة المكتوبة وخوض هذه التجربة؟
- غالبية القرارات الأساسية تأتيك صدفة. في أحد الأيام دعاني محمد حسنين هيكل إلى القاهرة واقترح أن أعمل مراسلا لصحيفة الأهرام من بيروت لتغطية المنطقة العربية. كنت حينها في روما، وبينما كنت أفكّر بالأمر، وصلتني دعوة للعمل الإعلامي المؤقت في الأمم المتحدة. وعُرض علي العمل لثلاثة أشهر مع مدير عام مكتب الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف وهو كونت إيطالي. واقترح علي تجربة العمل لفترة وجيزة في مكتب الأمين العام بنيويورك.
> أبرز ما تتذكّره لدى زيارتك مقر الأمم المتحدة في نيويورك لأوّل مرّة عام 1966؟
- الإنجاز المهني والتّواضع البشري، أمران مهمان شعرت بهما. فخلال عملي الصحافي كنت أتطلع إلى ذلك المبنى الدولي في وسائل الإعلام وأتساءل «ماذا يحدث هناك». كانت فرصة العمر.
لم أكن أعرف أحدا في نيويورك، ولكنّي شعرت بالرّاحة في مقر الأمم المتحدة، عندما رحب بي الزملاء من مختلف مناطق العالم وحضاراتها. ذهبت مع الصديق رياض طبارة إلى بهو الوفود. انتظرت أن يأتي موظف لأخذ طلبي. بقيت أنتظر إلى أن أشار أحدهم إلى هنري كسينجر مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون وجون روجرز وزير الخارجية، يحملان صينية ويتوجهان إلى مقعد قريب. كان ذلك أول درس دولي في التعامل المناسب.
> على مدار نحو ثلاثة عقود، عملت مع خمسة أمناء للأمم المتحدة، كيف اختلفت تجربتك الشخصية مع كل واحد منهم؟
- كل أمين عام قاد مرحلة تاريخية مختلفة. الأمم المتحدة تحتاج إلى الدول الكبرى لكي تستمر وإلى الدول الصغرى لكي تنجح. كل واحد منهم حاول إيجاد التوازن الفعال بالتوقيت المناسب.
يو ثانت، عملت معه مساعدا في مكتبه الخاص. كان متواضعا واثقاً في التعامل مع الدول الكبرى والصغرى والمتوسطة على السواء. وقف بوجه التدخل الأميركي العسكري في فيتنام، وبوجه الاتحاد السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا خلال «ربيع براغ». شاهدته ينحني مرّة واحدة، عندما قبّل يد والدته في رانغون عاصمة بلده بورما. رفض التجديد. خلفه كورت فالدهايم من النمسا. كانت أوروبا وسط مرحلة التفاهم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أيام «الحرب الدافئة». أبدى اهتماما خاصا بقضايا الشرق الأوسط وبالوضع في الجولان، وحاول جهده عقد مؤتمر جنيف على أساس الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن.
كان يشعر بعلاقة حضارية بين بلاده ولبنان. توجه إلى قلب بيروت خلال النزاع الداخلي المسلح وقف على ركام في آخر سوق الطويلة وتساءل أمام وسائل الإعلام: «ماذا فعلتم بهذا البلد الرائع؟».
في بيروت عقد أول لقاء بين الأمين العام للأمم المتحدة وقائد منظمة التحرير الفلسطينية الرئيس ياسر عرفات. الهدف العملي كان تسهيل مرور قوات الأمم المتحدة من مطار بيروت إلى الجنوب. أمّا الهدف السياسي والرمزي فكان إنجاز اعتراف دولي بدور المنظمة. وكان أول أمين عام يتوجه إلى منطقة الخليج وآخر مسؤول يقابل الملك فيصل قبل استشهاده. استقبل الوفد في المطار أمير الرياض يومها (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان)، الذي أشرف على ترتيبات الضيافة.
لم يكن الدبلوماسي خافيير بيريز كويلار قد تابع عن كثب قضايا المنطقة العربية قبل أن يتسلم الأمانة العامة. وجد أنّ الأزمات تفرض نفسها على الأمين العام وليس العكس. وأن خطابات الدول -خصوصا الكبرى والنافذة - لا تتوافق عادة مع استفاداتها العملية من الأطراف الداخلية للنزاعات.
وبالطبع ربطتني علاقة خاصة مع الدكتور بطرس بطرس غالي. في البداية ظهرت بعض الحساسيات، كالعادة في كل عهد جديد، عندما حاول البعض الدس والتحريض على أنّني لا أبالي بقيادته. بل إنه طلب شفهيا في الأسابيع الأولى من مدير مكتبه جان كلود إنهاء عملي في الأمم المتحدة. طلبت ترتيب لقاء معه، وشرحت له باحترام وهدوء أنّه لدي عقد دائم غير قابل للإلغاء وأنّني انتخبت من كافة الموظفين رئيسا للجنة الرسمية التي تشرف على التّعيين والترقية وإنهاء الخدمة. ولكن بما أنّه أول أمين عربي ويهمني أن ينجح في المهمة الجديدة ما دام يعتبر أنني عثرة في الطريق، سأغادر عملي نهائيا يوم الاثنين. ويوم الجمعة، فوجئت به يتصل قائلاً: «عامل إيه يا سمير؟» ثم طلب مني التعاون في إخراج الدراسة التي أعدها بعد قمة مجلس الأمن بعنوان «أجندة السلام». ومن يومها نشأت علاقة وثيقة بيننا وقدمت له الجهد والولاء الكاملين.
كوفي أنان كان زميلي وصديقي لأعوام طوال، لكنّني شرحت له أن ولائي لبطرس غالي. وكنت معه في آخر يوم من السنة الأخيرة ورافقته حتى باب الخروج. وتقاعدت خلال ولاية كوفي أنان.
> ما الدور الذي لعبته في عهد الأمين العام الأسبق يو ثانت خصوصا في ملفي أزمة الصواريخ الكوبية؟
- يو ثانت نجح في تفادي حرب عالمية ثالثة حول أزمة الصواريخ الكوبية. جرت اتصالات جانبية معظمها في بهو الوفود في الطابق الثاني من مبنى الأمم المتحدة. كان في مكتب الأمين العام موظف أميركي على اتصال مباشر بالبيت الأبيض، وموظف سوفياتي على اتصال خاص بموسكو. باختصار كانت المحاولات منسقة على ثلاث طرق رئيسية: اتصالات مباشرة في مكتب الأمين العام، واتصالات جانبية في بهو الوفود واجتماعات رسمية في ردهات مجلس الأمن والبهو الإندونيسي.
- في الحلقة القادمة... صنبر يروي تفاصيل من قلب الحرب العراقية - الإيرانية، والسبب الذي أزاح بطرس بطرس غالي من الأمانة العامة.



استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».