حركات نسوية وتغيرات اقتصادية واجتماعية غيرت وجه الموضة إلى الأبد

العقد الذي فرضت فيه المرأة الشرقية أسلوبها والجيل الصاعد ميوله الإنسانية

قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
TT

حركات نسوية وتغيرات اقتصادية واجتماعية غيرت وجه الموضة إلى الأبد

قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»
قبل ماريا غراتزيا تشيوري في دار «ديور» قام الراحل كارل لاغرفيلد بثورة نسوية عام 2015 في «لوغران باليه»

أحداث كثيرة شهدها عام 2019، من موت كارل لاغرفيلد إلى انضمام المغنية ريهانا إلى مجموعة «إل في إم إتش» كمصممة في بادرة غير مسبوقة، وما شابه من أمور.
لكن سنة واحدة غير كافية لتحديد مسار الموضة ونحن نحتفل بنهاية عقد وبداية آخر، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العقد الأخير شهد أحداثاً درامية غيرت وجه الموضة إلى الأبد. وهذا يعني أنه يمكن القول إن عالم الموضة، بحلول عام 2020، سيدخل عهداً جديداً تُكتب فصوله منذ عام 2010، ولا تزال نهايته غير مكتملة تماماً. فخلال هذه السنوات العشر، وُضعت أساسات مفهوم الاستدامة وحماية البيئة والمناخ واحتضان التنوع بكل أشكاله وأحجامه وألوانه، إلى جانب تغيير النظرة إلى الأناقة ككل من خلال تعاملنا معها من زاوية لا تحركها الرغبة في الاستهلاك أو التباهي بقدر ما تحركها رغبة إنسانية حقيقية تفكر في الآخر وفي مستقبل الأجيال القادمة.
- هيمنة الأسلوب «السبور»
من أهم ما شهده العقد الأخير هيمنة الأسلوب «السبور» على منصات وشوارع الموضة. فمنذ ظهوره بداية هذا العقد وهو يرفض أن يبقى سجين الملاعب والنوادي الرياضية. كانت الموضة بدورها تتوق إلى التغيير، لهذا فتحت له الأبواب على مصراعيها ليدخل منها باسم الراحة والانطلاق. ومع ظهور كيني ويست ومصممين من أمثال فيرجيل أبلو، مصمم علامة «أوف وايت»، جاء الأسلوب السبور ليكون مضاداً حيوياً للموضة التقليدية كما كنا نعرفها لعقود. المغني كيني ويست لم يقدم شيئاً ثورياً من حيث الابتكار؛ كل ما قام به أنه غير تلك العلاقة التي كانت تربط المشاهير بصناع الموضة. لم يعد النجم مجرد متلقٍ يستعرض ما تمليه عليه الموضة، بل فرض أسلوبه الخاص، رغم غرابته أو خروجه عما ألفته العين. بداية هذا العقد، ربط علاقة تعاون مع المصمم الإيطالي ريكاردو تيشي، مصمم دار «جيفنشي» آنذاك، وظهر في مجموعة جريئة من تصاميمه، مثل «تي-شيرتات» وبنطلونات جينز تباع بمئات الدولارات، إن لم نقل الآلاف. نجاح هذه العلاقة كانت إشارة إلى أن الوقت كان جاهزاً لاستقبال نوع جديد من المصممين، من أمثال فازاليا ديمنا مصمم «فيتمون»، وفيرجل أبلو مصمم «أوف وايت» الذي تعامل مع كيني ويست، ويقال إن هذا الأخير كان له فضل كبير في تعريف العالم به. تصاميمهما، أي ديمنا وأبلو، كانت صادمة في بعض الأحيان، لكنها كانت معاصرة تنبض بروح الشارع. وربما لها السبب لم يُثر تعيين دار «لويس فويتون» لفيرجل أبلو مصمماً لقسمها الرجالي كثيراً من الاستغراب، خصوصاً أنه سبق للدار أن تعاونت مع المغني كيني ويست في عهد مارك جايكوبس، بطرحها مجموعة أحذية رياضية بأسعار نارية وجدت هوى في نفوس الشباب، وأكدت أن الوقت قد آن لتغيير دفة الموضة باتجاه يعانق ثقافة الشارع، ويحقق المعادلة الصعبة بين الأنيق والمريح. وتوالت التعاونات، ومعها أحذية رياضية بأشكال وألوان متنوعة تصب كلها في الخانة والهدف نفسيهما. وتعاونت دار «ألكسندر ماكوين» مع «بوما»، والمصمم يوجي ياماموتو مع «أديداس»، وكثير من المصممين الآخرين أكدوا استعدادهم للنزول عند رغبة الشارع، فحتى من لم تكن لهم رغبة في دخول الميادين «السبور» انتبهوا إلى أن عليهم أن ينزلوا من أبراجهم العالية إلى الشارع.
انتبهوا أيضاً إلى أن القرارات لم تعد بأياديهم؛ أي أنهم لم يعودوا هم من يؤثرون على ذوق المستهلك، بل أصبح هذا الأخير هو من يفرض ذوقه عليهم. وتجدر الإشارة إلى أن حركة مماثلة ولدت في السبعينات من القرن الماضي، ومن الشارع أيضاً، ألا وهي حركة «البانكس». الفرق بينها وبين الحركة المعاصرة أن هذه الأخيرة يقودها شباب يطالبون بتبني التنوع وتقبل الآخر، بدءاً من لونه إلى ثقافته، وليس فقط التمرد على المتعارف عليه من تابوهات اجتماعية.
- المرأة العربية تفرض نفسها
يمكن القول إن هذا العقد هو الذي فرضت فيه المرأة العربية نفسها على ساحة الموضة. فرغم أنها كانت من أهم زبونات «الهوت كوتير» منذ سبعينات القرن الماضي، ويُرد لها فضل كبير في الإبقاء على هذا الجانب منتعشاً حياً لسنوات، إلا أنها لم تأخذ حقها كاملاً. كانت تُعتبر مجرد مستهلكة تصرف أموالاً طائلة من دون أن يكون لها رأي أو ذوق خاص. كل هذا تغير، وبشكل واضح، من خلال ربط الموضة معها علاقة تفاعلية مبنية على الاحترام، بعد أن كانت مجرد مونولوج. دار «شانيل» عبرت عن هذا الاحترام بإقامة عرضها الخاص بـ«الكروز» عام 2015 لأول مرة في بلد عربي (دبي)، وهذا العام بإقامة دار «ديور» عرضها من الخط نفسه في مدينة مراكش المغربية، بيد أن التأثير الأكبر تجلى فيما أصبح يُعرف بـ«موديست فاشن». أسلوب يتميز بياقات عالية وأكمام طويلة وفساتين أو تنورات تتراوح بين «الميدي» و«الماكسي»، حتى الرأس أصبحت له أكسسواراته المبتكرة التي تتراوح بين إيشاربات الحرير الملفوفة بأشكال مبتكرة والعمامات العصرية.
البعض يُرجع هذه الظاهرة إلى الأحداث السياسية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة ككل، بينما يُرجعها البعض الآخر إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وصور شابات من المنطقة العربية بملابسهن المحتشمة وأكسسواراتهن الغالية الثمن وهن يتجولن في شوارع لندن أو لوس أنجلوس أو باريس. لم تعد الصورة ترتبط بالجانب الديني، بل تعكس جانباً ثقافياً ظل متجاهلاً يعاني طويلاً من النمطية. لا يختلف اثنان أيضاً على أن الأزمة الاقتصادية العالمية كان لها تأثيرها. فالجيل الجديد من زبونات الشرق الأوسط عارفات ومتذوقات للموضة مثل أمهاتهن، لكن على العكس من أمهاتهن يسألن عن كل صغيرة وكبيرة، ولا يقبلن بأن يكن مجرد مستهلكات. بعبارة أخرى، أصبح لهن صوت يتوقعن أن يسمعه المصممون جيداً، وإلا فإن السوق يزخر بغيرهم. أغلب بيوت الأزياء العالمية أنصتت، وركبت موجة الاحتشام، بدءاً من «فالنتينو» و«غوتشي» إلى «شانيل» و«بيربري» و«دولتشي أند غابانا» وكارولينا هيريرا، وهلم جرا. وحتى من لم يركبها علانية، اعتمد على أسلوب الطبقات المتعددة.
فمن كان يتصور منذ عقد من الزمن أن تتصدر صور محجبات أغلفة مجلات عالمية مثل «فوغ»، أو أن تصبح حليمة آيدن، وهي فتاة مسلمة محجبة، واحدة من أهم عارضات الأزياء في العالم؟ لم تقتصر هذه الموجة على الغرب، ففي الشرق ظهرت عدة مواقع تسوق إلكترونية تستغل الإقبال العالمي على هذا الأسلوب، مثل موقع «ذي موديست دوت كوم» الذي انطلق في دبي، مُسوقاً إطلالات تلعب على جمال الطبقات المتعددة لخلق صورة مفعمة بالجمال والحشمة. واللافت أن السوق الأولى للموقع هي السوق الأميركية، حسب قول غزلان غينيز، مؤسسة الموقع، وهو ما يؤكد أن هذه الظاهرة أصبحت عالمية لا تقتصر على المرأة العربية أو المسلمة فحسب.
فرغم أن السوق الصينية لا تزال الأقوى، من حيث عدد سكانها وإمكانياتهم التسوقية، فإنه من الخطأ الاستهانة بالمنطقة العربية، بحسب تقرير الاقتصاد الإسلامي العالمي، الذي أعدته وكالة «رويترز»، بالتعاون مع «دينار ستاندرد»، وأفاد بأن المسلمين أنفقوا ما يقدر بنحو 243 مليار دولار على الأزياء في عام 2015، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 368 مليار دولار في عام 2021؛ أي بزيادة قدرها 51 في المائة عن عام 2015.
البعض قرأ هذه الدراسة بشكل حرفي، ونهل من موروثات الشرق بشكل أثار كثيراً من الجدل، مثل الثنائي الإيطالي «دولتشي أند غابانا» عندما طرحا مجموعة عباءات في عام 2015، رأى فيها البعض تودداً ميكيافيلياً مبالغاً فيه، من دون تقديم أو إضافة أي جديد. لكن على العكس من «دولتشي أند غابانا»، اكتفى مصممون آخرون، مثل فيبي فيلو مصممة دار «سيلين»، و«إرديم» و«ديور» و«شانيل» وغيرهم، بإبداع تصميمات تجمع الحشمة بالأناقة العصرية، لتصبح التيار الرئيسي المميز للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
- الحركة النسوية
تزامنت هذه الموضة «المحتشمة» مع حركة نسوية جديدة قادتها المرأة من خلال حملة «#مي تو» ضد التحرش الجنسي والتمييز في أماكن العمل. ففي ظل فترة تسودها حالة من التوتر، ورغبة المرأة في استرداد حقوقها وفرض نفسها من جديد، أصبحت التصاميم التي تخفي تفاصيل الجسد بمثابة دروع تحتمي بها. هذا إلى جانب تمردها على ثقافة تلفزيون الواقع، فكلما انتشرت صور فضح كل لحظة حميمة وكل جزء من الجسد للاستهلاك العام، جاءت ردود أفعال مضادة تطالب بالعكس. وأكثر من قاد هذه الحركة النسوية المصممة الٍإيطالية ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور».
- تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
لا يختلف اثنان على قوة وسائل التواصل الاجتماعي في هذا العقد. فقد غيرت لغة الموضة، ومعها طريقة الشراء والاستهلاك. ما قامت به هذه الوسائل أنها فككت قوة المؤسسات الكبيرة التي كانت تعتمد على الإعلانات لفرض سطوتها على الذوق العام، كما غيرت طرق البيع والشراء تغييراً جذرياً. فبعد أن وضعت المؤسسات الكبيرة في مأزق، لم تجد هذه الأخيرة حلاً سوى تخصيص جزء لا يستهان به من إعلاناتها للمواقع الإلكترونية، وأيضاً لشراء ود وآراء المؤثرين، بعد أن كانت تقتصر على المجلات والصحف. أما بالنسبة للبيع، فقد بدأت ظاهرة الشراء مباشرة بعد العرض، عوض الانتظار 6 أشهر قبل طرحها في الأسواق. فقد كشفت وسائل التواصل الغموض الذي كان يحيط بهذه العروض سابقاً، كما فتحت الأبواب أمام محلات مثل «زارا» وغيرها لأن تستنسخ تصاميم مشابهة تطرحها بسرعة، وبأسعار زهيدة بالمقارنة. فجأة، أصبح ما يقدمه المصممون على المنصات بعد عرض كلفهم عشرات، وأحياناً مئات، الآلاف من الدولارات، وأشهراً من التحضيرات، يبدو قديماً بعد وصوله إلى المحلات. ومن جانب آخر، ساعدت هذه الوسائل مصممين شباب في الوصول إلى العالمية، من دون أن يتقيدوا بقواعد اللعبة التقليدية، لا سيما منهم من دخلوا مجال البيع الإلكتروني. انتبهوا أنهم لا يحتاجون إلى الوجود في محلات أسمنتية لكي تباع بضائعهم أو يشتهرون، فالإنستغرام أو اليوتيوب يقوم بهذه المهمة على أحسن وجه.
نتيجة لهذا، كان من البديهي أن تنتعش مواقع التسوق الإلكترونية، مثل «نيت أبورتيه» و«ماتشز فاشن»، وأن يُصبح لكل دار موقع خاص بها، عدا عن ظهور منصات تسوق ضخمة، مثل «فارفيتش».
- الثقافة الشعبوية... بين السلبي والإيجابي
سحابة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تخيم على مصممي العالم. فلندن معروفة باحتضانها كل من تتوسم فيه الموهبة، وتفتح له أحضانها، بغض النظر عن جنسياتهم. الثقافة الشعبوية التي ظهرت مؤخراً والبريكست قد يدفعان بالبعض للعودة إلى بلدانهم أو تغيير مقرات أعمالهم. الصعوبات المرتقبة بالنسبة لهؤلاء لا تتعلق بتأشيرات الدخول والخروج أو الإقامة فحسب، بل أيضاً بالضرائب الجمركية على استيراد الأقمشة وعلى المعامل. فهذه قد تكلف هذا القطاع نحو 900 مليون جنيه إسترليني تقريباً.
بيد أنه، ومن ناحية أخرى، خصوصاً بالنسبة لمن يروون دائماً أن الفنجان نصف ممتلئ، فإن حركات الشعبوية خلفت ردود فعل إيجابية من ناحية إقبال أكبر على تقبل الآخر. فعندما تصدرت عارضة الأزياء أدوت أكيش أغلفة 5 نسخ من مجلة «فوغ» في شهر واحد هذا العام، كان الأمر تتويجاً لجهود أكثر من عقد من الزمن لإلغاء التمييز العنصري، ثم جاء موقع «بيزنيس أوف فاشن» ليؤكد هذه الحقيقة، عندما تصدرت أدوت غلاف مجلته التي تصدر سنوياً متضمنة لائحة بأسماء أكثر الشخصيات تأثيراً على الموضة. أديت أكيش لمن لا يعرفها لاجئة من أصول سودانية، أي أن لون بشرتها داكن، لهذا لم يكن يخطر على البال منذ أكثر من عقد أن تتصدر غلاف مجلة «فوغ» على الإطلاق، بدليل أن العارضة ناعومي كامبل اشتكت في بداية مشوارها إلى الراحل إيف سان لوران من أن النسخة الفرنسية من المجلة رفضت أن تتصدر غلافها بسبب لونها. فقط عندما تدخل مستغلاً قوته الإعلانية، حصلت على أول غلاف لها في المجلة. نظرة سريعة حالياً على حال الموضة تؤكد أن الفرق شاسع بين ثقافة الأمس التي كانت تحتفل بالجمال الأشقر، وثقافة اليوم.
- احترام ثقافة الآخر ومشاعره
في صناعة كانت إلى عهد قريب تعتمد على النخبوية، وعلى مفاهيم جمالية تقليدية، أصبح التغيير ضرورة يُحركها جيل جديد يؤمن بأن التنوع والاختلاف واقع لا يجب تجاهله. ورغم أن العملية لا تزال في بدايتها، فإن من لا يحترم قواعدها الجديدة يدفع الثمن غالباً.
أكبر دليل على هذا ما تعرضت له كل من «غوتشي» و«برادا» و«دولتشي آند غابانا» من هجمات في نهاية العام الماضي. هذه الأخيرة عندما صورت حملة دعائية أثارت حفيظة الصينيين، كانت عبارة عن حملة إعلانية ظهرت فيها نجمة صينية في كامل أناقتها وهي تتناول السباغيتي بعيدان الأكل، وهو ما اعتبره الصينيون إهانة لتقاليدهم وانتقاصاً منهم. الشيء نفسه تعرضت له «غوتشي» عندما طرحت كنزة صوفية بياقة عالية تغطي نصف الوجه، تتخللها فتحة واسعة مرسومة على شكل شفاه مكتنزة، فسرها البعض على أنها تلميح لوجه «زنجي». فسارعت الدار الإيطالية بسحب التصميم من كل محلاتها ومواقعها الإلكترونية مباشرة. ومع ذلك، لم تسلم من الانتقادات ومن تهديدات المقاطعة إلا بعد تعيينها المصمم دابر دان، كمستشار لها لتلافي الوقوع في أخطاء مماثلة. وفي تغريدة لدابر دان، الذي كان واحداً من الذين قادوا الحملة ضد غوتشي في البداية، كتب: «لا يمكن أن يكون هناك احتضان للاختلاف من دون محاسبة». ومن جهتها، تعرضت «برادا» لهجمة مماثلة بسبب تزيينها واجهات محلها بنيويورك بتماثيل صغيرة لها شفاه مكتنزة ذكرت البعض بالصورة التي كان يرسمها العنصريون لوجوه الأفارقة في الماضي. كل هذه المطبات لم تعد تمر مرور الكرام، فالأعين بالمرصاد، وما كان يعتبر استقاء من مناهل ثقافات أخرى، أصبح يُفسر على أنه انتحال فني وأدبي يجب أن يُدفع ثمنه. المكسيك، مثلاً، اتهمت مؤخراً دار الأزياء «كارولينا هيرّيرا» بالانتحال الثقافي لاستخدامها رسوماً منسوخة من تراث الشعوب الأصلية المكسيكية ظهرت في مجموعة أزيائها الأخيرة. كما أن دار «لويس فويتون» الفرنسية سبق لها أن تعرّضت لتنبيهات وانتقادات من السلطات المكسيكية لاقتباساتها المتكررة من تراث الشعوب الأصلية في المكسيك لتصميم منتوجاتها من الحقائب الجلدية من دون أن يستفيد السكان الأصليون من أي شيء. وفي أواخر العام الماضي، قررت دار «نايكي» (Nike) سحب أحد أحذيتها من السوق، بعد أن احتجت مجموعة «Guna» للسكان الأصليين في باناما على «سرقة» تصميم الحذاء من رسوم «Mola» التي تعتبر جزءاً من تراثها الفولكلوري.
وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة والمنظمة العالمية للملكية الفكرية تنشطان منذ عامين في التفاوض حول اتفاقية دولية لحماية التراث الثقافي التقليدي، وتنظيم الاستفادة من محتواه لأغراض تجارية. ويعود ذلك بشكل أساسي للصحوة التي شهدتها الشعوب الأصلية في العقود الثلاثة المنصرمة، وما رافقها من وعي بأهمية تراثها وحقها في الدفاع عنه، وما نشأ عن ذلك من اتفاقات ومعاهدات دولية.
الطريف أن هذا لم يكن يخطر على بال أحد قبل 2010. فجون غاليانو قدم في عام 1997 تشكيلة مستوحاة بشكل كبير من ثقافة الهنود الحمر. ولم يرها النقاد انتحالاً لثقافتهم، حيث تركز الانتقادات على كونها مسرحية وصعب ترويضها وبيعها بسهولة. لكن شتان بين ذلك العهد وما تعاني منه بيوت أزياء كثيرة من انتقادات سلبية. ومن بين ضحايا هذه الانتقادات كل من «فكتوريا سيكريت» في عام 2012، و«جيفنشي» في عام 2015، ومارك جايكوبس في عام 2016، وحتى «ديور» في بداية هذا العام، عندما اضطرت إلى سحب حملتها الترويجية لعطر «سوفاج» التي كانت من بطولة النجم جوني ديب؛ جريمتها أنها استعملت رقصة خاصة بالهنود الحمر رآها البعض إهانة لهم.
ولا يختلف اثنان على أن الجيل الجديد من الزبائن وراء أغلب هذه الحركات. سلاحهم هو وسائل التواصل الاجتماعي التي يُتقنونها جيداً. أما دافعهم فهو تصحيح أوضاعاً يروون أنها لم تكن «أخلاقية»، لتتعالى أصواتهم مطالبة بموضة مستدامة تحترم البيئة والإنسان على حد سواء. فحتى عام 2016، كانوا يعبرون عن استيائهم وسخطهم، لكن لم يكن يصل بهم الحد إلى المقاطعة، بدليل أن الثنائي «دولتشي أند غابانا» صرحا من قبل بتصريحات مثيرة للجدل، و«فكتوريا سيكريت» كانت أيضاً تثير كثيراً من الاستياء بسبب طريقتها في تسويق المرأة، ومع ذلك لم تتأثر مبيعات أي من هذه البيوت إلا مؤخراً؛ «فكتوريا سيكريت» ألغت عرضها الأخير.
- الدور الإيجابي للإنترنت
انتعاش الإنترنت فتح الأبواب على مصراعيها أمام مصممين شباب ليست لديهم إمكانيات كبيرة لافتتاح محلات أسمنتية. بعضهم حقق نجاحاً كبيراً بتفاعله مع الزبون مباشرة، سواء تعلق الأمر بالأزياء أو الأكسسوارات أو مستحضرات التجميل. ولأن مصاريفهم أقل، كان بإمكانهم أن يوفروا منتجات جيدة بأسعار أقل من تلك التي تقدمها الأسماء الكبيرة التي لها محلات، لا سيما في ظل عزوف كثير من زبائن الجيل الجديد عن هذا المحلات، واقتصارهم على التسوق الإلكتروني. وربما يكون هذا هو العقد «الأسود» بالنسبة للمحلات ومجمعات التسوق الضخمة التي ازدهرت في ثمانينات القرن الماضي.
ويبدو أن الزبون نفسه الذي فرض فكرة التسوق الآني، أي «البيع بعد العرض مباشرة»، وفرض الموضة المستدامة والأخلاقية والمحتشمة، هو أيضاً من فرض فكرة أن تتحول محلات التسوق إلى أماكن تُوفر الترفيه والمتعة. لم يعد افتتاح محل ضخم وأنيق كافياً لجذبه، بل يجب أن يترافق مع فعاليات وإغراءات أخرى، مثل أن يكون هناك تفاعل أكبر وتسهيلات أكثر، إلى جانب حصوله على ذلك الإحساس بأنه مهم وله صوت مسموع.
- انتعاش منتجات التجميل
سيسجل تاريخ الموضة أنه في هذا العقد ولدت مليونيرات التجميل، مثل كايلي جينر وهدى قطان؛ الأخيرة بدأت برموش مستعارة وتوسعت إلى مستحضرات التجميل لتصبح مليارديرة. قوتها تكمن في أنها بدأت كإنفلونسر تُعلم كيفية وضع الماكياج على الإنستغرام، أتبعتها بقناة على يوتيوب خاصة بها. بدورها، حققت كايلي جينر ثروة طائلة من وراء منتجات روجت لها هي شخصياً على وسائل التواصل الاجتماعي. ولا شك أن مدوني التجميل من الإنفلونسرز، وأغلبهم من فناني التجميل، استفادوا من هذه العملية. أرقام المبيعات بدورها تؤكد أنه كان لهم مفعول السحر على بعض هذه الماركات، وهو ما لا يمكن قوله على الموضة التي لا تزال تتخبط بسبب عدم قدرتها على التمييز بين المؤثرين الحقيقيين والدخلاء. ما نجح فيه هؤلاء أنهم أخرجوا عالم التجميل من نخبويته، من خلال تقديمهم أسراراً عن كيفية وضع الماكياج كانت حكراً على النجوم. طرق سهلة تحول فتاة عادية جداً إلى فاتنة بعد كل جلسة ماكياج. ومما يُذكر في عام 2012، ظهور كيم كارداشيان في برنامجها الواقعي بوجه غريب، مخطط بألوان تتباين بين الداكن والباهت. وكانت هذه بداية انتشار أسلوب الـ«كونتورينغ» لتنحيف الوجه أو منحه التألق حسب الجزء الذي يتم التركيز عليه. بعد البرنامج، تحول إلى ظاهرة تُطبقها كل فتيات العالم. وكان لا بد أن تجعل شركات التجميل هذه الألوان المتدرجة عنصراً مهماً في كل مجموعة ماكياج تطرحها. وغني عن القول أن هذه الدروس سلطت الضوء على ماركات جديدة، وأنعشت أخرى قديمة مثل «بينيفت». بسرعة غيرت شركات التجميل وسائلها للتسويق والترويج ليتحول بعض الخبراء والإنفلونسرز إلى نجوم يوتيوب يؤثرون على مبيعات هذه الشركات، في حال اختاروا استعمال منتجاتها، طبعاً لقاء مبالغ طائلة جعلت بعضهم، خصوصا من تعدى عدد متابعيهم الـ100 ألف متابع، يتركون وظائفهم ويتفرغون للعمل كإنفلونسرز.
- الموضة المستدامة أصبحت واقعاً
قبل عام 2013، كان صناع الموضة يتكلمون على الاستدامة والموضة الأخلاقية كثيراً، لكن أفعالهم كانت تقول عكس ما يقولون، إلى أن حصلت كارثة «رانا بلازا». معمل بداكا أودى بحياة أكثر من ألف شخص كانوا يعملون لصالح شركات عالمية في ظروف صعبة جداً، وبرواتب لا تسد حاجتهم.
النيران التي اندلعت فيه كانت إيذاناً بضرورة التغيير الفعلي، فقد انكشف المستور ولم يعد بإمكان الماركات العالمية في باريس أو ميلانو أن تتغاضى عن الأمر أو تُبرره، كما تغيرت النظرة إلى الموضة الجاهزة الرخيصة التي تطرحها محلات بأسعار رخيصة. لأول مرة، بدأت النقاشات حول من يُنفذونها ويدفعون ثمن أسعارها الزهيدة من حياتهم. انشغلت وسائل التواصل، وأثيرت حفيظة الجيل الجديد من الزبائن، وبدأت مطالبهم بتغيير الوضع جذرياً، وتهديداتهم بمقاطعة أي علامة لا تحترم هذه المطالب. ولأول مرة، انتقلت النقاشات إلى قاعات أصحاب القرار من الرؤساء التنفيذيين. بات عليهم تحمل المسؤولية، وتبني طرق إنسانية جديدة. ومع مرور الوقت، توسعت هذه النقاشات لتشمل تأثيرات الموضة على البيئة والتغيرات المناخية، ومدى تأثيراتها على مستقبل الكون. في قمة المناخ عام 2015، وصلت هذه النقاشات ذروتها بعد قرار الأمم المتحدة الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وإلزام الحكومات بالعمل المناخي في قمة المناخ.
غيرت كل من «إل في إم إتش» و«كيرينغ» طرقها في التعامل مع الموضة، واعتذرت دار «بيربري» على إتلافها سنوياً فائضاً يقدر بنحو 40 مليون دولار من منتجاتها. ورغم أن البعض غير مقتنع تماماً بهذه الخطوات، على أساس أن تبني الموضة المستدامة من قبل المجموعات الكبيرة ما هو إلا عملية تسويقية جديدة، فإنها فعلاً بدأت تتحرك باتجاه صحيح، وإن بخطوات بطيئة. في عام 2017، أعلنت دار «غوتشي» توقفها عن استعمال الفرو في تصاميمها، لتليها بيوت أخرى كثيرة، مثل شانيل وبيربري، وهلم جرا.
2020 سيكون عام التحديات بالنسبة لصناع الموضة، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة. والسؤال المطروح حالياً هو: كيف ستواجه هذه التحديات من دون أن تتأثر أرباحها؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة.


مقالات ذات صلة

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

لمسات الموضة المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

دخول عزة فهمي عالم السينما ينسجم أولاً مع تاريخها في صناعة التراث وثانياً مع حركة عالمية لم تعد تكتفي برعاية المهرجانات أو الظهور على السجادة الحمراء.

جميلة حلفيشي (القاهرة)
لمسات الموضة المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرية للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي) play-circle 02:28

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

دخول عزة فهمي عالم السينما ينسجم أولاً مع تاريخها في صناعة التراث وثانياً مع حركة عالمية لم تعد تكتفي برعاية المهرجانات أو الظهور على السجادة الحمراء.

جميلة حلفيشي (القاهرة)
يوميات الشرق صورة من حساب القنصلية المغربية بباريس على «إكس»

القفطان المغربي… أناقة عبر القرون تتوجها «اليونيسكو» باعتراف عالمي

اعتراف عالمي بثراء التراث المغربي، وبقدرة هذا القفطان العريق على أن يتحول إلى لغة ثقافية عابرة للحدود، تجمع بين الجمال والهوية وتستمر في الإلهام عبر الزمن.

كوثر وكيل (نيودلهي )
لمسات الموضة «مي بولسا» حقائب تدمج الدفء الإسباني بالكلاسيكية البريطانية (مي بولسا)

حقائب اليد لهذا الموسم... بين النوستالجيا والتجديد

في تسعينات القرن الماضي، بلغت حقيبة اليد أوجها. حققت لمصمميها النجاح التجاري والشهرة. هذا الوهج هو ما تأمل بيوت أزياء كثيرة في استعادته

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة تانيا فارس خلال تلقي كلمتها بعد حصولها على جائزة تقدير على إسهاماتها في دعم المصممين الناشئين (غيتي)

تانيا فارس أول لبنانية تفوز بجائزة الموضة البريطانية وجوناثان أندرسون يحقق ثلاثية ذهبية

حفل جوائز الموضة البريطانية السنوي من أهم فعاليات عالم الموضة وتُقدَّم فيه جوائز لأهم المصممين العالميين والشباب إلى جانب صناع الموضة والمؤثرين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)
المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)
TT

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)
المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)

قد تظن أنك تعرف كل شيء عن أم كلثوم. ولِمَ لا؟ فقد كبرنا على أغانيها وتشبعنا بالحديث عنها وبسيرها الذاتية. لكن «فيلم «الست» يفاجئنا؛ لأنه يأخذنا إلى منطقة لم تتطرق إليها السيرة من قبل. منطقة تتناول حياة امرأة تعيش بين المجد والوحدة. محاطة طوال الوقت برجال، شعراء وموسيقيين، لكنها بذكاء الأنثى، وبعد تجربة فارقة في بدايتها، ظهرت فيها منى زكي بطلة الفيلم مع الممثلة أمينة خليل في لقطة سريعة، تعلمت أن المظهر جزء من النجاح. في قلب هذه الرحلة تشارك عزة فهمي بمجوهرات تُجسّد بشكل أو بآخر طبقات نفسية وزمنية عاشتها الأسطورة.

منى زكي ولقطة من دورها في «الست» أثارت جدلاً كبيراً (المقطع الترويجي للفيلم)

لم يكن «الست» مجرد فيلم عن أم كلثوم، بل نافذة واسعة أعاد فيها المخرج مروان حامد كشف جانب إنساني كان مخفياً وراء الصورة الأيقونية المهيبة. ومن بين كل العناصر التي أشركها في صناعة هذه الحكاية، تألقت مجوهرات عزة فهمي لغةً سرديةً موازية، تضيء لحظات ومواقف، وتُعزز ملامح الشخصية كما تستحضر زمناً جميلاً بكل وهجه وعنفوانه. تخرج بعد مشاهدة الفيلم وصورة لا تفارقك لكوكب الشرق، أعمق وأكثر إنسانية. فالفيلم لم يركز على الأسطورة. فهذه تم استنزافها وأصبح الكل يحفظها عن ظهر قلب، بل كشف لنا عن جانب إنساني تجسّده وحدتها النفسية رغم كل النجاحات وحب الملايين.

منى زكي في افتتاح فيلم «الست» بالقاهرة (عزة فهمي)

إشادات بعد انتقادات

غني عن القول أن فيلم «الست» أثار موجة واسعة من الجدل قبل عرضه، وصلت حدّ التنمر على بطلته منى زكي. والسبب لا يتعدى حكماً مسبقاً على إعلان ترويجي قصير.

ثم عُرض الفيلم في الدورة الـ22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ونال استحساناً كبيراً من قِبل النقاد والجمهور على حد سواء، ثم عُرض في القاهرة فتبدّل المزاج العام، وانهالت الإشادات. فالإخراج محكم، كذلك الموسيقى وباقي المؤثرات السينمائية، بما فيها الماكياج والأزياء والمجوهرات التي شكَلت لغة بصرية آسرة.

أما منى زكي، فتألَقت على مدى ساعتين ونصف الساعة تقريباً، وهي تؤدي مشاهد عدة من دون أن تنبس بكلمة، مكتفية بعيونها للتعبير عما بداخلها، بينما نجحت الأزياء والمجوهرات التي ظهرت بها، في رسم انتقالها من فتاة قروية، بسيطة ومحافِظة إلى امرأة واثقة تكتسح الساحة المصرية ثم العالم. خلعت ملابس القروية البسيطة وارتدت أزياء من دور فرنسية مثل «ديور» و«شانيل»، ومجوهرات من «كارتييه» و«فان كليف أند آربلز» وغيرهم. أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى.

المخرج مروان حامد وعزة فهمي يتوسطان أمينة وفاطمة غالي (عزة فهمي)

لم تفت المخرج مروان حامد أهمية الأزياء والمجوهرات، فكبار المخرجين العالميين يوظفونها في أدوار مهمة منذ عقود طويلة. يكفي استحضار أفلام مثل «إفطار في تيفاني»، حيث تحوّلت مجوهرات «تيفاني آند كو» جزءاً من ذاكرة السينما، أو «الرجال يفضلون الشقراوات»، حيث ارتبطت مارلين مونرو بالألماس من هاري وينستون ارتباطاً أيقونياً. لكن خصوصية «الست» أنه أعاد هذا التقليد إلى القاهرة، وجعله جزءاً من سردية محلية، متجذرة في الثقافة، لا مستوردة من هوليوود. مروان حامد هو الآخر استعملها هنا عنصراً سردياً درامياً لا مجرد إكسسوارات زينة. يزداد بريقها مع تصاعد الأحداث ويخفت وهجها عند الانكسار وجرح القلب، ويتوهّج ويتراقص في لحظات المجد والتألق.

سِوار من مجموعة «سومة» التي استوحتها المصممة من أم كلثوم منذ سنوات ولا تزال تلقى نجاحاً (عزة فهمي)

خيار حامد على عزة فهمي لكي تشاركه هذه التحفة الفنية لم يكن من باب الصدفة أو من باب المجاملة والمحاباة. كان خياره محسوباً؛ كونه يعرف أنها جزء من التراث الثقافي المصري الأصيل، فضلاً عن علاقة فنية متينة تربط الفنانة عزة فهمي نفسها بأم كلثوم؛ إذ استلهمت من أغانيها الشهيرة الكثير مما جسدته في خواتم وعقود وأساور وبروشات، مثل «أنت عمري» و«من أجل عينيك عشقت الهوى» وغيرهما من الأشعار. في عام 2014، طرحت مجموعة كاملة بعنوان «سومة» كرَّست فيها عزة حبها وإعجابها بإرث كوكب الشرق بشكل واضح.

عزة فهمي والسينما

إلى جانب كل هذا، فإن عزة فهمي نفسها، تحمل قصة كفاح تشبه قصص النساء اللواتي يتمردن على القوالب التقليدية لبناء أنفسهن، فضلاً عن أن تجاربها في السينما ليست جديدة. تعاونت سابقاً مع الراحل يوسف شاهين في فيلميه «المهاجر» و«المصير»، مقدمة مجوهرات تعكس طبيعة حقبتين مختلفتين وشخصياتهما. عملت أيضاً مع المخرج علي بدرخان في فيلم «شفيقة ومتولي»، حيث قدمت لسعاد حسني حلياً تميزت بالطابعين الغجري والفلاحي.

لهذا؛ جاءت مشاركتها في فيلم «الست» امتداداً لمسيرتها في صون التراث من جهة، ولحركة عالمية باتت فيها العلامات الفاخرة تستعمل الصورة وسيلةً لاكتساب مصداقية أكبر بصفتها رموزاً ثقافية.

عزة فهمي الأم مع بنتيها أمينة وفاطمة غالي (عزة فهمي)

فاطمة غالي، ابنة عزة فهمي الكبرى والرئيس التنفيذي للشركة، تكشف عن أن المشاركة في الفيلم جاءت بشكل عضوي، حين عرض عليها مروان حامد، صديق الطفولة ورفيق المدرسة، التفكير في المشروع. تقول: «لم أتردد لأني معجبة برؤيته الفنية، وكنت على ثقة بأنه سيُوظف هذه القطع بشكل يليق بها». وهذا ما تحقق فعلاً.

لكن الجزء الأكبر من العمل وقع على عاتق أمينة غالي، الابنة الصغرى ورئيسة قسم التصميم. هي من حملت على كتفيها مهمة ترجمة سيرة شبه ملحمية إلى لغة فنية. تستعيد أمينة التجربة وتقول إنها بقدر ما كانت ممتعة وملهمة لم تكن سهلة. لكنها ولحسن الحظ نجحت في الإمساك بروح أم كلثوم وكل حقبة عاشت فيها، من خلال تصميمات حملت تطورات اجتماعية وثقافية، وأحياناً نفسية.

حفلاتها الشهرية كانت حدثاً كبيراً (مشروع القاهرة عنواني)

التحدي والنجاح

تروي أمينة أن التجربة استغرقت عامين من البحث والعمل: «لم يكن مطروحاً بالنسبة لنا تقديم قطعة أنيقة فحسب. كان علينا درس كل حقبة وكل شخصية حسب مكانتها الاجتماعية وتطورها». فالفيلم يتتبع رحلة أم كلثوم من البدايات في كفر السنبلاوين إلى ذروة المجد، وكان لا بد من هوية بصرية تُجسد عصراً وثقافة وهالة. تستشهد أمينة بلقطة قصيرة ومتسارعة في بداية الفيلم تظهر فيها عائلة أم كلثوم في القطار وهم متجهون إلى القاهرة لأول مرة. يجلسون في الدرجة الثالثة، لكن يقررون النزول من باب الدرجة الأولى «بين الدرجة والدرجة تمر الكاميرا على وجوه نساء يضعن حلياً صغيرة وأبسط مما قد يُرى على الشاشة عادة، تتغير الصورة في الدرجتين الثانية والأولى». تشرح أمينة: «هذه اللقطة وحدها أخذت وقتاً طويلاً لنتأكد أن كل قطعة، مهما صغرت، تنطبق على الشخصية والطبقة التي تنتمي إليها».

تصاميم راعت فيها أمينة غالي محاكاة مجوهرات ظهرت بها أم كلثوم سابقاً بلغة عصرية (عزة فهمي)

مع تقدم الفيلم، تظهر المجوهرات وكأنها لغة قائمة بذاتها. الأقراط تتراقص وتتمايل مع طبقات الصوت، والعقود المرصعة بالأحجار الكريمة تتحدّث لغة القوة أو تروي وجعاً دفيناً، بينما تلمع أخرى مستلهمة من «الآرت ديكو» إيذاناً بولادة الأسطورة. كل تفصيلة كانت محسوبة. قارنت أمينة بين صور أرشيفية ومقتنيات من متاحف وصور حفلات الست وتسجيلات نادرة، محاولة فهم زمن لم تعشه، لكنه يسكن وجدانها من خلال أغانٍ عابرة للأجيال.

كانت المجوهرات مؤشراً على فترة زمنية أو حالة نفسية (عزة فهمي + وزارة الثقافة المصرية)

ما يُحسب لها أنها لم تستهدف استنساخ الأصل، سواء كان من «فان كليف أند آربلز» أو «كارتييه» أو «شوميه»، بل تقديم صياغة تحاكيه بأسلوب معاصر يعكس إرث عزة فهمي ولا يُشعِر المشاهد بالغربة التاريخية.

الهدف كان واضحاً ومتفقاً عليه منذ عام 2023، عندما بدأ الحديث عن الفيلم، أن تكون المجوهرات جزءاً من الحبكة وليس فقط للإبهار والزينة.

كانت أم كلثوم كأي امرأة تهتم بأدق تفاصيل أناقتها (عزة فهمي)

أم كلثوم وكوكو شانيل

فأم كلثوم، كما يكشف لنا حسن عبد الموجود في كتابه «أم كلثوم: من الميلاد إلى الأسطورة»، كانت امرأة وإنسانة قبل أن تكون أيقونة، وهذا يعني أنها كانت تهتم بأناقتها اهتماماً بالغاً. يروي الكاتب حكاية لقاء جرى بينها وبين كوكو شانيل في باريس، حيث كان الإعجاب بين أم كلثوم و كوكو شانيل متبادلاً، حسب ما جاء في الكتاب. استمعت شانيل لأم كلثوم باهتمام شديد، وعرفت أنها تفضل التصاميم المحتشمة والطويلة والأقمشة المرنة التي تتيح لها الحركة على المسرح، وكذلك ألوانها المفضلة من الزهري والأحمر والأبيض والأخضر بكل تدرجاتها.

كانت أم كلثوم تميل لألوان الزهري والأحمر والأخضر بكل تدرجاتها (الشرق الأوسط)

أخذت مقاساتها وأوكلت لمشغلها تفصيل مجموعة على المقاس، ترسلها لها بعد شهر. بيد أن الست لم تعد خالية اليدين، فقد أخذتها كوكو شانيل في جولة في المحل اختارت منه ما يروق لها من فساتين جاهزة ومعاطف بتصاميم بسيطة وعطور ومستحضرات تجميل.

تخرج من الفيلم وأنت مشبع بصرياً بالجمال، سواء من حيث المجوهرات أو الصوت والموسيقى وباقي المؤثرات، وفي الوقت ذاته بشعور غامر بأنك تحتاج إلى مشاهدته مرة ثانية لتستوعب كل الأحداث والمشاهد.


كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

TT

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرية للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)
المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرية للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)

قد تظن أنك تعرف كل شيء عن أم كلثوم. ولِمَ لا؟ فقد كبرنا على أغانيها وتشبعنا بالحديث عنها وبسيرها الذاتية. لكن «فيلم «الست» يفاجئنا؛ لأنه يأخذنا إلى منطقة لم تتطرق إليها السيرة من قبل. منطقة تتناول حياة امرأة تعيش بين المجد والوحدة. محاطة طوال الوقت برجال، شعراء وموسيقيين، لكنها بذكاء الأنثى، وبعد تجربة فارقة في بدايتها، ظهرت فيها منى زكي بطلة الفيلم مع الممثلة أمينة خليل في لقطة سريعة، تعلمت أن المظهر جزء من النجاح. في قلب هذه الرحلة تشارك عزة فهمي بمجوهرات تُجسّد بشكل أو بآخر طبقات نفسية وزمنية عاشتها الأسطورة.

منى زكي ولقطة من دورها في «الست» أثارت جدلاً كبيراً (المقطع الترويجي للفيلم)

لم يكن «الست» مجرد فيلم عن أم كلثوم، بل نافذة واسعة أعاد فيها المخرج مروان حامد كشف جانب إنساني كان مخفياً وراء الصورة الأيقونية المهيبة. ومن بين كل العناصر التي أشركها في صناعة هذه الحكاية، تألقت مجوهرات عزة فهمي لغةً سرديةً موازية، تضيء لحظات ومواقف، وتُعزز ملامح الشخصية كما تستحضر زمناً جميلاً بكل وهجه وعنفوانه. تخرج بعد مشاهدة الفيلم وصورة لا تفارقك لكوكب الشرق، أعمق وأكثر إنسانية. فالفيلم لم يركز على الأسطورة. فهذه تم استنزافها وأصبح الكل يحفظها عن ظهر قلب، بل كشف لنا عن جانب إنساني تجسّده وحدتها النفسية رغم كل النجاحات وحب الملايين.

منى زكي في افتتاح فيلم «الست» بالقاهرة (عزة فهمي)

إشادات بعد انتقادات

غني عن القول أن فيلم «الست» أثار موجة واسعة من الجدل قبل عرضه، وصلت حدّ التنمر على بطلته منى زكي. والسبب لا يتعدى حكماً مسبقاً على إعلان ترويجي قصير.

ثم عُرض الفيلم في الدورة الـ22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ونال استحساناً كبيراً من قِبل النقاد والجمهور على حد سواء، ثم عُرض في القاهرة فتبدّل المزاج العام، وانهالت الإشادات. فالإخراج محكم، كذلك الموسيقى وباقي المؤثرات السينمائية، بما فيها الماكياج والأزياء والمجوهرات التي شكَلت لغة بصرية آسرة.

أما منى زكي، فتألَقت على مدى ساعتين ونصف الساعة تقريباً، وهي تؤدي مشاهد عدة من دون أن تنبس بكلمة، مكتفية بعيونها للتعبير عما بداخلها، بينما نجحت الأزياء والمجوهرات التي ظهرت بها، في رسم انتقالها من فتاة قروية، بسيطة ومحافِظة إلى امرأة واثقة تكتسح الساحة المصرية ثم العالم. خلعت ملابس القروية البسيطة وارتدت أزياء من دور فرنسية مثل «ديور» و«شانيل»، ومجوهرات من «كارتييه» و«فان كليف أند آربلز» وغيرهم. أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى.

المخرج مروان حامد وعزة فهمي يتوسطان أمينة وفاطمة غالي (عزة فهمي)

لم تفت المخرج مروان حامد أهمية الأزياء والمجوهرات، فكبار المخرجين العالميين يوظفونها في أدوار مهمة منذ عقود طويلة. يكفي استحضار أفلام مثل «إفطار في تيفاني»، حيث تحوّلت مجوهرات «تيفاني آند كو» جزءاً من ذاكرة السينما، أو «الرجال يفضلون الشقراوات»، حيث ارتبطت مارلين مونرو بالألماس من هاري وينستون ارتباطاً أيقونياً. لكن خصوصية «الست» أنه أعاد هذا التقليد إلى القاهرة، وجعله جزءاً من سردية محلية، متجذرة في الثقافة، لا مستوردة من هوليوود. مروان حامد هو الآخر استعملها هنا عنصراً سردياً درامياً لا مجرد إكسسوارات زينة. يزداد بريقها مع تصاعد الأحداث ويخفت وهجها عند الانكسار وجرح القلب، ويتوهّج ويتراقص في لحظات المجد والتألق.

سِوار من مجموعة «سومة» التي استوحتها المصممة من أم كلثوم منذ سنوات ولا تزال تلقى نجاحاً (عزة فهمي)

خيار حامد على عزة فهمي لكي تشاركه هذه التحفة الفنية لم يكن من باب الصدفة أو من باب المجاملة والمحاباة. كان خياره محسوباً؛ كونه يعرف أنها جزء من التراث الثقافي المصري الأصيل، فضلاً عن علاقة فنية متينة تربط الفنانة عزة فهمي نفسها بأم كلثوم؛ إذ استلهمت من أغانيها الشهيرة الكثير مما جسدته في خواتم وعقود وأساور وبروشات، مثل «أنت عمري» و«من أجل عينيك عشقت الهوى» وغيرهما من الأشعار. في عام 2014، طرحت مجموعة كاملة بعنوان «سومة» كرَّست فيها عزة حبها وإعجابها بإرث كوكب الشرق بشكل واضح.

عزة فهمي والسينما

إلى جانب كل هذا، فإن عزة فهمي نفسها، تحمل قصة كفاح تشبه قصص النساء اللواتي يتمردن على القوالب التقليدية لبناء أنفسهن، فضلاً عن أن تجاربها في السينما ليست جديدة. تعاونت سابقاً مع الراحل يوسف شاهين في فيلميه «المهاجر» و«المصير»، مقدمة مجوهرات تعكس طبيعة حقبتين مختلفتين وشخصياتهما. عملت أيضاً مع المخرج علي بدرخان في فيلم «شفيقة ومتولي»، حيث قدمت لسعاد حسني حلياً تميزت بالطابعين الغجري والفلاحي.

لهذا؛ جاءت مشاركتها في فيلم «الست» امتداداً لمسيرتها في صون التراث من جهة، ولحركة عالمية باتت فيها العلامات الفاخرة تستعمل الصورة وسيلةً لاكتساب مصداقية أكبر بصفتها رموزاً ثقافية.

عزة فهمي الأم مع بنتيها أمينة وفاطمة غالي (عزة فهمي)

فاطمة غالي، ابنة عزة فهمي الكبرى والرئيس التنفيذي للشركة، تكشف عن أن المشاركة في الفيلم جاءت بشكل عضوي، حين عرض عليها مروان حامد، صديق الطفولة ورفيق المدرسة، التفكير في المشروع. تقول: «لم أتردد لأني معجبة برؤيته الفنية، وكنت على ثقة بأنه سيُوظف هذه القطع بشكل يليق بها». وهذا ما تحقق فعلاً.

لكن الجزء الأكبر من العمل وقع على عاتق أمينة غالي، الابنة الصغرى ورئيسة قسم التصميم. هي من حملت على كتفيها مهمة ترجمة سيرة شبه ملحمية إلى لغة فنية. تستعيد أمينة التجربة وتقول إنها بقدر ما كانت ممتعة وملهمة لم تكن سهلة. لكنها ولحسن الحظ نجحت في الإمساك بروح أم كلثوم وكل حقبة عاشت فيها، من خلال تصميمات حملت تطورات اجتماعية وثقافية، وأحياناً نفسية.

حفلاتها الشهرية كانت حدثاً كبيراً (مشروع القاهرة عنواني)

التحدي والنجاح

تروي أمينة أن التجربة استغرقت عامين من البحث والعمل: «لم يكن مطروحاً بالنسبة لنا تقديم قطعة أنيقة فحسب. كان علينا درس كل حقبة وكل شخصية حسب مكانتها الاجتماعية وتطورها». فالفيلم يتتبع رحلة أم كلثوم من البدايات في كفر السنبلاوين إلى ذروة المجد، وكان لا بد من هوية بصرية تُجسد عصراً وثقافة وهالة. تستشهد أمينة بلقطة قصيرة ومتسارعة في بداية الفيلم تظهر فيها عائلة أم كلثوم في القطار وهم متجهون إلى القاهرة لأول مرة. يجلسون في الدرجة الثالثة، لكن يقررون النزول من باب الدرجة الأولى «بين الدرجة والدرجة تمر الكاميرا على وجوه نساء يضعن حلياً صغيرة وأبسط مما قد يُرى على الشاشة عادة، تتغير الصورة في الدرجتين الثانية والأولى». تشرح أمينة: «هذه اللقطة وحدها أخذت وقتاً طويلاً لنتأكد أن كل قطعة، مهما صغرت، تنطبق على الشخصية والطبقة التي تنتمي إليها».

تصاميم راعت فيها أمينة غالي محاكاة مجوهرات ظهرت بها أم كلثوم سابقاً بلغة عصرية (عزة فهمي)

مع تقدم الفيلم، تظهر المجوهرات وكأنها لغة قائمة بذاتها. الأقراط تتراقص وتتمايل مع طبقات الصوت، والعقود المرصعة بالأحجار الكريمة تتحدّث لغة القوة أو تروي وجعاً دفيناً، بينما تلمع أخرى مستلهمة من «الآرت ديكو» إيذاناً بولادة الأسطورة. كل تفصيلة كانت محسوبة. قارنت أمينة بين صور أرشيفية ومقتنيات من متاحف وصور حفلات الست وتسجيلات نادرة، محاولة فهم زمن لم تعشه، لكنه يسكن وجدانها من خلال أغانٍ عابرة للأجيال.

كانت المجوهرات مؤشراً على فترة زمنية أو حالة نفسية (عزة فهمي + وزارة الثقافة المصرية)

ما يُحسب لها أنها لم تستهدف استنساخ الأصل، سواء كان من «فان كليف أند آربلز» أو «كارتييه» أو «شوميه»، بل تقديم صياغة تحاكيه بأسلوب معاصر يعكس إرث عزة فهمي ولا يُشعِر المشاهد بالغربة التاريخية.

الهدف كان واضحاً ومتفقاً عليه منذ عام 2023، عندما بدأ الحديث عن الفيلم، أن تكون المجوهرات جزءاً من الحبكة وليس فقط للإبهار والزينة.

كانت أم كلثوم كأي امرأة تهتم بأدق تفاصيل أناقتها (عزة فهمي)

أم كلثوم وكوكو شانيل

فأم كلثوم، كما يكشف لنا حسن عبد الموجود في كتابه «أم كلثوم: من الميلاد إلى الأسطورة»، كانت امرأة وإنسانة قبل أن تكون أيقونة، وهذا يعني أنها كانت تهتم بأناقتها اهتماماً بالغاً. يروي الكاتب حكاية لقاء جرى بينها وبين كوكو شانيل في باريس، حيث كان الإعجاب بين أم كلثوم و كوكو شانيل متبادلاً، حسب ما جاء في الكتاب. استمعت شانيل لأم كلثوم باهتمام شديد، وعرفت أنها تفضل التصاميم المحتشمة والطويلة والأقمشة المرنة التي تتيح لها الحركة على المسرح، وكذلك ألوانها المفضلة من الزهري والأحمر والأبيض والأخضر بكل تدرجاتها.

كانت أم كلثوم تميل لألوان الزهري والأحمر والأخضر بكل تدرجاتها (الشرق الأوسط)

أخذت مقاساتها وأوكلت لمشغلها تفصيل مجموعة على المقاس، ترسلها لها بعد شهر. بيد أن الست لم تعد خالية اليدين، فقد أخذتها كوكو شانيل في جولة في المحل اختارت منه ما يروق لها من فساتين جاهزة ومعاطف بتصاميم بسيطة وعطور ومستحضرات تجميل.

تخرج من الفيلم وأنت مشبع بصرياً بالجمال، سواء من حيث المجوهرات أو الصوت والموسيقى وباقي المؤثرات، وفي الوقت ذاته بشعور غامر بأنك تحتاج إلى مشاهدته مرة ثانية لتستوعب كل الأحداث والمشاهد.


حقائب اليد لهذا الموسم... بين النوستالجيا والتجديد

«مي بولسا» حقائب تدمج الدفء الإسباني بالكلاسيكية البريطانية (مي بولسا)
«مي بولسا» حقائب تدمج الدفء الإسباني بالكلاسيكية البريطانية (مي بولسا)
TT

حقائب اليد لهذا الموسم... بين النوستالجيا والتجديد

«مي بولسا» حقائب تدمج الدفء الإسباني بالكلاسيكية البريطانية (مي بولسا)
«مي بولسا» حقائب تدمج الدفء الإسباني بالكلاسيكية البريطانية (مي بولسا)

إذا كان هناك شيء واحد يمكن أن يجدد إطلالتك، فهو حقيبة اليد. إكسسوار يُثبت منذ تسعينات القرن الماضي قدرته العجيبة على الارتقاء بأي إطلالة مهما كانت بسيطة. منذ ذلك الحين وهو استثمار لا يخيب، على شرط اختياره بمواصفات معينة، تبدأ بمصدر الخامات وطريقة دباغتها إلى التصميم المبتكر، مروراً بجودة الخامة نفسها. فقط عندما تتوافر فيها هذه العناصر، تحافظ على قيمتها وقدرتها على شد الانتباه في الوقت ذاته.

الليدي إليزا وتوأمها الليدي أميليا سبنسر وحقائب للمساء والسهرة من «أسبينال» (أسبينال)

علاقة تجارية أولاً

الجدير بالذكر أنها لم تكتسب روح الاستثمار في التسعينات. فهذه الحقبة كانت المساحة التي بنت عليها سمعتها بوصفها إكسسواراً مهماً. شكّلت بالنسبة لصناع الموضة فرصة ذهبية لإغراء المرأة بشراء في كل موسم بجديد، ومن ثم تحقيق الربح. وسرعان ما أصبحت الترموميتر الذي تقاس به قدرة المصممين وتحدِّد نجاحهم وبقاءهم. كل هذا جعل المنافسة على أشدها بين كبار بيوت الأزياء لابتكار «حقيبة الموسم». وهذا يعني زيادة الضغوطات على المصممين الذين تسابقوا على طرح أشكال وألوان كثيرة منها، حتى إذا خابت واحدة تصيب أخرى. وطبعاً ساهمت المرأة في نشر هذه الثقافة الاستهلاكية بشرائها حقيبة أو أكثر في كل موسم.

بطلة السباحة يسرى مارديني وحقيبة من دار «سالفاتوري فيراغامو» (فيراغامو)

الأمر يختلف حالياً؛ إذ أصيب الجيل الجديد بنوع من التخمة من كثرة التصاميم الموسمية. عقليته وسلوكياته الشرائية أيضاً تختلف عن الجيل السابق. لم تعد منتجات تفقد وهجها بعد أشهر أو سنة تثيره، كما بدأ يبتعد عن كل ما يحمل «لوغو» صارخاً. الأناقة الحقيقية بالنسبة للغالبية هي تلك التي تقوم على الاستدامة والجودة العالية والابتكار، وهذا يعني الاستثمار في حقيبة يمكن أن تبقى معه طويلاً. تصرخ بالرقي من دون صوت أو ضجيج، بفضل شكلها وخاماتها. هذا التوجه كان له تأثير السحر على علامات معينة مثل «لورو بيانا» و«ذي رو» للأختين ماري كايت وآشلي أولسن، وعلامة «أسبينال»، التي تربطها خيوط متينة بالعائلات الأرستقراطية.

في حملتها الأخيرة، استعانت العلامة الإنجليزية بالليدي إليزا وأختها الليدي أميليا سبنسر، ابنتَيْ إيرل تشارلز سبنسر، شقيق الأميرة الراحلة ديانا لتسويق مجموعتها الجديدة. فهما سفيرتان للدار منذ سنوات، وتُجسدان روحها الإنجليزية الراقية. بينما بقيت التصاميم كلاسيكية، تنوعت أحجامها وتلونت بألوان الأحجار الكريمة، وكأنها تقول إنها لا تقل قيمة عنها. تشير الدار إلى أن الأختين ستظهران في كل مناسبات الأعياد بحقائب من هذه المجموعة؛ لأنها وبكل بساطة «تليق بالأميرات والملكات»، وتتنوع في أشكال تغطي كل المناسبات.

الليدي أميليا سبنسر وحقيبة «توت» لمناسبات النهار وأماكن العمل (أسبينال)

العودة إلى القديم

المشكلة المطروحة أن التنافس بين بيوت الأزياء والأسماء الكبيرة على خطف القلوب والوصول إلى الجيوب، خلق تنوعاً يُصيب بالحيرة، لا سيما أن جرعة الابتكار تضاعفت بدليل التصاميم التي طرحتها كل من «جيورجيو أرماني» و«ديور» و«بوتيغا فينيتا» و«سكياباريللي» و«فيراغامو» و«فندي» وغيرها. بعضهم تبنى فكرة أن تكون التصاميم جديدة بكل معنى الكلمة مثل «جيورجيو أرماني»، بينما عاد بعضهم الآخر إلى كلاسيكيات قديمة نجحت في عصرها باعتبارها مضمونة. في الحالتين، تستشعر رغبة محمومة في جعل حقيبة اليد تستعيد نفس النجومية التي حظيت بها في التسعينات وبداية الألفية، حين كان مجرد ظهور واحدة على كتف نجمة أو يد أخرى يجعلها، بين ليلة وضحاها، ظاهرة، تنفد من الأسواق، وتضاف إلى قوائم الانتظار لأشهر طويلة.

لشتاء 2025 شهدت حقيبة Paddington تطوراً دقيقاً مع الحفاظ على جوهرها (كلوي)

لم يكن هذا النجاح محض صدفة أو نتيجة تسويق ذكي، بل كان نابعاً من جاذبية التصميم. أكبر مثال على هذا، حقيبة «بادينغتون» التي تميزت بقفل كبير وجلد ناعم وتفاصيل مستوحاة من عالم الفروسية. حققت لدار «كلوي» نجاحاً منقطع النظير عندما أصدرتها أول مرة في عام 2005، وحلقت بفيبي فيلو، مصممتها آنذاك إلى العالمية. عيبها الوحيد كان وزنها الثقيل، وهو ما صححته «كلوي» هذا الموسم. استعملت معادن أخف وزناً، وجلداً أكثر نعومة ومرونة، وأضافت فتحة بسحاب واحد زاد من عمليتها. كل هذا من دون أن تغير بأساسيات هيكلها... فهو مكمن قوتها.

ولأنه من الصعب جداً ابتكار أشكال جديدة تماماً، فإن العديد من بيوت الأزياء الكبيرة عادت إلى قديمها بترجمات تقتصر على التفاصيل مثل المقابض والمشابك والتطريزات إضافة إلى إدخال مواد جديدة أو تطوير الخامات.

من بين هذا الكم الهائل من الحقائب المطروحة هذا الموسم والمواسم المقبلة، اخترنا التالي:

«لايدي ديور»

«لايدي ديور» النسخة الجديدة مزخرفة بحرفية وكأن قطرات ماء صافية تتدلى منها (ديور)

في كل موسم، يُعاد ابتكار حقيبة «لايدي ديور» بأسلوب يعكس روح الدار وحرفيّتها. وفي مجموعة «ديور كروز» لعام 2026، عادت بحلّة مصغّرة مصنوعة من الجلد الأبيض الناصع، تزينها تفاصيل شفافة وكأنها قطرات ماء صافية تؤكد مهارة حرفيي الدار في تقطيع الجلد، وصياغة المقابض وتثبيت كل جزئية بعناية مدروسة، بما في ذلك الأحرف التي نقش بها اسم «ديور». فهو ليس «لوغو» بقدر ما هو زخرفة تضاف لجمال الحقيبة.

من «جيورجيو أرماني»

دار «جيوجيو أرماني» استعارت تفاصيل من الأزياء في حقائب مفعمة بالأناقة والفخامة (جيورجيو أرماني)

تبرز مجموعة بجلود فاخرة وتفاصيل أنثوية دقيقة، منها الأيقونتان «لابريما» و«لابريما سوفت» إلى جانب تصاميم جديدة، تتميز بآليات إغلاف فريدة مستوحاة من السترات التي برع فيها المصمم الراحل وأصبحت مرادفاً لقدرة الدار على الإبداع. أما حقيبة توت الجديدة فتستحضر أشكالاً أرشيفية تم تجديد الجزء العلوي منها لتصبح أخف وأقرب إلى التصميم المفكك، ما يمنحها عملية وأناقة. فهي تحتوي على كيس داخلي وحزام كتف قابل للتفكيك. وتأتي بجلد العجل المحبب أو السويد. تضم التشكيلة أيضاً حقائب «كلاتش» لتلك المناسبات الخاصة من جلد النابا أو السويد مع تطريزات أنيقة، وحقائب كتف من جلد العجل المحبب أو السويد بشكل شبه منحرف وحواف معدنية.

من «فندي»

طرحت «فندي» نسخاً جديدة من أيقوناتها الناجحة (فندي)

ركّزت دار «فندي» في مجموعتها لربيع وصيف 2026 على إكسسوارات تلعب على نقش Falena (الفراشة) بأسلوب تجريدي، بدءاً من حقائب Baguette التي جاءت مطرّزة بأجنحة الفراشة أو مرصّعة بالترتر، إلى حقائب Peekaboo المصنوعة من صوف الشيرلينغ المجزوز أو بالأنماط الزخرفية المحبوكة. تمتد طبعات الفراشة أيضاً على حقيبة FENDI Spy الناعمة. وحقيبة FENDI Verse الجديدة متعددة الاستخدامات مع أحزمة كتف قابلة للتعديل ومزيّنة بقطع معدنية تحمل شعار FF، فيما تأتي حقيبة Baguette أيضاً بتصميم clutch مع مشبك إغلاق يحمل شعار FF.

إيكارنو من «سان لوران»

حقيبة «إيكارنو» من «سان لوران» أصبحت حقيبة معتمدة من قبل النجمات (سان لوران)

نسخة مصغرة أيضاً طرحتها دار «سان لوران» لخريف وشتاء 2025من تصميمها الشهير «إيكارنو». إضافة إلى حجمها الذي يراعى الموجة السائدة حالياً في عالم الحقائب، يمزج تصميمها الأناقة بالعملية الوظيفية، ما يجعلها مناسبة لكل الأوقات. فحجمها رغم صغره عملي بامتياز بفضل سحاب الإغلاق ونعومة الجلد، تحافظ على رموز الدار وشخصية «إيكارنو» من ناحية جلد العجل الناعم، والخياطة المضلعة ذات الشكل الماسي المسطح، فضلاً عن الألوان المتنوعة ما بين الأسود والرمادي والأخضر والبني الباهت والبرتقالي المطفي وغيرها من الألوان. اختيارها بلون كلاسيكي محايد يجعلها استثماراً بعيد المدى.

«نيو لاغيج» من «سيلين»

حقيبة «نيو لاغيج» من سيلين ربما تكون الأكبر حجماً لتستوفي كل عناصر الأناقة والعملية (سيلين)

يبدو أن «سيلين» Celine أيضاً عادت إلى قديمها لتجدده. رسا الاختيار هذه المرة على حقيبة «نيو لاغيج» NEW LUGGAGE المستوحاة من حقيبة «فانثوم لاغيج» Phantom Luggage التي صممتها مديرتها الإبداعية السابقة، فيبي فيلو، وحققت نجاحاً كبيراً في 2010 بتفاصيل تستحضر حقيبة «ميسترال» التي صُممت أول مرة في عام 1969 على يد سيلين فيبيانا، مؤسسة الدار سيلين.

النسخة الجديدة تتميز بحجم أكبر، ومن جلد الحمل الناعم واللامع، فيما تم تحسين هيكل الحقيبة باستعمال خياطة عكسية مع حواف مخيطة وسحاب. تفاصيل تزيد من نعومتها وخفة وزنها وفي الوقت ذاته من عمليتها. فهي مطروحة بأحجام متنوعة وباستخدامات متعددة. حجمها الصغير يتيح حملها على الكتف أو باليد بعد إزالة الحزام. وبحجمها المتوسط يمكن أن تحمل باليد أو على المرفق، وبحجمها الصغير على الكتف أو بمقبض اليد.

«مي بولسا» Mi Bolsa

رغم خاماتها المترفة مثل جلود العجل الناعم والتماسيح تؤمن «مي بولسا» بأن جمال الحقيبة في بنيتها لا في سعرها (مي بولسا)

تعني بالإسبانية «حقيبتي». عمرها لا يتعدى بضع سنوات، ومع ذلك أكدت أن لها رؤية مبتكرة تجمع الأسلوب الإسباني المنطلق والكلاسيكية البريطانية. تأسست على يد ميكايلا وشقيقها أليكس، اللذين يجمعان خلفيات وتجارب متنوعة. فميكايلا مثلاً كانت تعمل في قطاع المال بلندن، وبعدها في تطوير المنتجعات في كوريا الجنوبية لكن شغفها بالحقائب جعلها تتخلى عن مسيرة مهنية مضمونة لتدخل عالم المنافسة من خلال حقائب حرصت على أن تعكس شخصيتها، وكل ما تعنيه كلمة الفخامة من معانٍ، لكن بأسعار متوسطة. فهي ترى أن الفخامة لا تقاس بالسعر بقدر ما تقاس بتلك العلاقة التي تربطها بصاحبتها. والنتيجة أن العلامة تقدم مجموعة واسعة من التصاميم، تخاطب كل الأوقات والأذواق. لكن يبقى الجلد الناعم والخفة قاسمين مشتركين في كل هذه التصاميم، سواء تلك التي تُحمل باليد أو على الكتف.