في إحدى ليالي أواخر شهر يوليو (تموز) لعام 2012 كان كثير من المشاهدين أمام الشاشات يتحفزون لإعلان نتيجة السباق الانتخابي بين د. محمد مرسي والفريق أحمد شفيق، فيما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالتسريبات المرجحة لكفة أحد المتنافسين. كان السؤال الأكبر، هل حقا سيخرج «الإخوان المسلمون» إلى الضوء؟ كانت «البؤر» الإخوانية على امتداد العالم العربي تتحين لحظة الانتصار للجماعة الأم، لتتفجر بدورها في دول الفروع. وكان لهم ذلك. علا صوت «إخوان» الفروع في كل مكان، في الكويت انخرطوا في مظاهرات بتحالفات تشبه إلى حد كبير تحالفات الجماعة الأم في القاهرة. في الإمارات أعلن عن القبض على خلية إخوانية تخطط لقلب نظام الحكم، في السعودية القيادات «الإعلامية» للجماعة أصدرت البيانات تلو الأخرى، بلغت بها الوقوف حتى مع معتقلي تنظيم «القاعدة» الذين يطالب بهم إبراهيم الربيش، الإرهابي القيادي في «قاعدة» اليمن. في الأردن حلت مطالب أعلى سقفا وبوادر تحركات على الأرض، في تونس كانت الانتخابات تعلن فوز حزب «النهضة» الإخواني، وشرقها ليبيا كان الإخوان وميليشياتهم المسلحة يعقدون الصفقات السياسية.
كانت تجربة لافتة في صعود «القوى الأصولية» استمرت لمدة عام انتهت بمظاهرات عارمة في القاهرة تطالب بخلع حكم «الإخوان». والقبض على قيادات الجماعة بعد صراعات كر وفر مسلحة بين الجماعة والجيش المصري. ما دفع النظام المصري وبعض دول الخليج تصنيفهم كجماعة إرهابية.. وبقية القصة مشهورة.
وضع قيادات الجماعة الأم في مصر في السجون كان أشبه ما يكون بخنق «العقل السياسي» للفروع. وجدت هذه البؤر نفسها متروكة لمواهبها الخاصة، التي أظهرت اتجاهات الواقع السياسي أنها محدودة.. باستثناء تونس. يقول هاني نسيرة، مدير مركز العربية للدراسات في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «العمل أو النشاطية السرية في مصر صارت مشكلة عويصة بالنسبة لهم، لأنهم لم يخسروا القوى المدنية فقط ولكن خسروا قطاعات كبيرة من المدنيين، من الأزهر الذي اقتحموا مشيخته ومن الإفتاء الذي حاولوا اختطافه وخسر مرشحهم مفتي الجماعة في انتخاباته أوائل 2013. كما خسروا السلفيين مبكرا، قبل 30 يونيو (حزيران) وبعدها، وخسروا كذلك القطاع العريض من الجماعة الإسلامية الذي يقوده كل من ناجح إبراهيم وعبود الزمر، وقد أصدر الأخير مؤخرا عددا من المواقف ترفض مواقف الجماعة ورؤاها، ويرفض جمودها عند المطالبة بعودة مصر، ومدحا الجيش المصري الذي استطاع مواجهة الإرهاب المرتبط بها والمدافع عن أطروحاتها وحمى الدولة المصرية من التصدع والسقوط كما نشاهد في اليمن أو ليبيا! أو قوات المالكي المنحى في العراق».
ويزيد نسيرة «الجماعة الأم كانت كما وصفها قائد قبل تجربتها في الحكم، وقبل الثورات، إسفنجة جففت الماء عن فروعها، وظني أنها الأكثر تأزما الآن، لأنه تم تجريبها بعد 8 عقود من الوعد واليوتوبيا، فكانت جحيما تمرد عليها المصريون وأسقطوها، ولم يعد ممكنا لدى الفاعلين المصريين من مختلف القوى، حتى من اقتربوا من الإخوان قبل وبعد 30 يونيو القبول بإعادة معزولهم وجماعتهم للحكم».
«وفي حال لجأوا للتستر تحت غطاء جماعات أخرى، فهناك جماعة التبليغ والدعوة السلمية وغير المؤدلجة، التي تستر وانخرط فيها قادة جهاديون في السابق، لأنها ليست تنظيما، ولكن ظني أن هذه الجماعة صارت أكثر وعيا بإمكانيات اختراقها من الآخرين وكذلك الجمعيات الدينية كالشرعية وأنصار السنة، والأقرب برأيي للإخوان الآن هم الجهاديون والسلفية الجهادية في سيناء»، بحسب رأيه.
خارج الجغرافيا المصرية، بدا «إخوان الأردن» (أحد أهم الفروع) يعانون صعوبات بالغة. وصفها الصحافي والمحلل اللبناني حازم الأمين بأن «الإخوان المسلمون أصابهم الوهن من دون شك في أعقاب (الصفعة المصرية) التي ترددت أصداؤها في وجدانات جميع فروع الجماعة في العالم».
كانت العبارة السابقة من مقالة للأمين نشرت في صحيفة «الحياة» الدولية تحت عنوان «يا (إخوان الأردن)... لا تُخرجونا من حزبكم فتصيبنا المعصية»، تشرح بوادر تصدع داخلي في التنظيم داخل المملكة الأردنية.
والحال، يبدو أن الضربة الثانية لإخوان الأردن كانت عقب تصعيدها ضد الدولة الأردنية منذ بواكير الحرب الإسرائيلية على غزة. الجميع تحدث عن مظاهر تشكيلات مقاتلة قدمتها الأذرع الشبابية للإخوان في مهرجان «طبربور» لدعم حماس في غزة في حينه.
ما أفضى إلى تسريبات إعلامية رفيعة عن دراسة الحكومة الأردنية إلى اعتبار جماعة الإخوان المسلمين حزبا سياسيا غير مرخص والانتماء له محظور. في ذات الوقت الذي كانت حماس لا تجد بدا من الاقتراب من الدولة المصرية الجديدة والرضوخ لواقع القوى الإقليمية، وأن القاهرة.. عاصمة لا يمكن تجاوزها في حل معادلة السلام.
* إخوان الخليج
* تعرضت دول الخليج لهزات متفاوتة القوى جراء موجة «الربيع العربي»، كانت الكويت والمنامة الأكثر تأثرا كل منهما بمعطيات بيئته السياسية والاجتماعية والطائفية وتوازنها التعدادي، فيما كانت الرياض وأبوظبي العاصمتين الأكثر ثباتا، ومبادرة للتهدئة في دول الجوار والحد من تأثير صعود موجات «إسلام سياسي» يؤدي إلى التطرف والإرهاب. أما الدوحة فقد كانت مشغولة بتدوير عجلة صعود «الإخوان المسلمين» في مختلف دول الربيع، وأخيرا مسقط التي لاحت فيها بوادر أزمة داخلية لم تلبث أن توارت عن الأضواء.
يقول فهد الشافي، الباحث في الحركات الإسلامية في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تموضع فروع حركة الإخوان المسلمين في الخليج ليست على درجة واحدة من التجذر. فالكويت شهدت ولادة أقدم هذه الفروع الخليجية تنظيما من خلال عبد العزيز المطوع، الذي تعرف في منتصف الأربعينات من القرن الماضي على حسن البنا، وعاد للكويت وفي عنقه بيعة، تخوله إنشاء التنظيم. وتبعه عبد الرحمن الجودر في البحرين الذي بايع أيضا التنظيم الأم في القاهرة. في هاتين العاصمتين يبدو الإخوان أكثر مأسسة وتغولا في الحياة السياسية منها في بقية عواصم الخليج العربي».
ويضيف «في حالة الدول التي لا تسمح بالأحزاب السياسية، كان أفراد الجماعة عادة ما يلجأون للعمل والنشاط السري. وليس من الصعب تتبع التنظيرات السياسية لبعض نجوم الشباك في المشهد السعودي المحلي والخليجي من تيار (الإسلام السياسي) للتنبه إلى أن أدبياتهم تتبنى الرؤية الإخوانية».
وينبه الشافي في ختام مداخلته «هناك مأزق جديد يواجه (الإخوان الجدد) أو الجيل الشاب منهم، أن صيغة تكوينهم السياسي تختلف عن جيل الكبار الأوائل الذين كانوا أكثر مهاودة مع الأنظمة الحاكمة في حقب سابقة لثورات الربيع العربي. انخراط الجيل الشاب من الإخوان في الموقف الثوري، ومحاولتهم اكتساب موقف سياسي منه، سيجعل من الصعب عليهم التراجع لمربع التصالح مع النظام والدولة. تجربة الإخوان المسلمين في مصر خذلت حتى أكثر المتحمسين من تيارات الإسلام السياسي الأخرى، وقناعتي أن عودتهم للحياة السياسية ستكون صعبة جدا وهم مصنفون كجماعة إرهابية، دون أن ننسى تأثير المتغير المصري على المشهد بالعموم».
* إخوان المغرب العربي
* إذا كانت الحالة الليبية الأوضح لتغول ميليشيات «الإسلام السياسي» بما فيها التابعة لـ«الإخوان المسلمين» والتي تشير دوائر استخباراتية ورسمية إلى تلقيها أموالا خارجية لإنعاشها وتقويتها، فإن جارتها الصغيرة، تونس، تبدو حالة مثيرة للانتباه على مستوى الأداء السياسي لحزب «النهضة» هناك، الذراع الإخوانية.
«البراغماتية» السياسية التي أظهرها حزب النهضة، بقيادة راشد الغنوشي فرضها مأزق سقوط حكم الجماعة الأم في القاهرة.
احتفالية الانتهاء من كتابة الدستور وتمريره بالموافقة قبل نحو العام، جاءت لحزب النهضة الذي يقوده راشد الغنوشي كطوق نجاة، أو سجادة يمكن تخبئة المشكلات السياسية تحتها حتى موعد الانتخابات المقبلة على الأقل، المقررة في نهاية الشهر الجاري. فبينما كان الجميع يراقب تداعيات موجة سقوط حكم الإخوان العارمة في مصر على توازن القارب التونسي بقيادة حزب النهضة الإخواني. كان الغنوشي يبدي مرونة لم تكن لتظهر لولا التداعيات الشعبية في التجربة المصرية ومزاجها «الثوري» الذي كادت عدواه أن تنتقل لتحرك الشارع التونسي.
قال في حينه، الباجي السبسي رئيس حزب «نداء تونس» الأكثر قربا في أدبياته لأحزاب اليمين الليبرالي في حديثه لمجلة «لو بوان» الفرنسية بعد إقرار الدستور بأن هدف حزبه كان يتمثل في رحيل الحكومة السابقة، عادا أن تحقق ذلك مثّل يوما عظيما لتونس.
وأضاف السبسي، أحد رجالات الدولة البورقيبية، الذي تشير بعض المؤشرات واستطلاعات الرأي هنا وهناك عن تقارب نسب التأييد لحزبه منافسا للنهضة «منذ 2011 كنت أقنع حركة النهضة بالمشاركة في الحوار، وأخبرت راشد الغنوشي أنه في صورة عدم التعاون فإن النهضة ستزاح من الحكم بالقوة (...) ما نأخذه على حزب النهضة، ليس أنه حركة إسلامية بل تسببه في تأخر تونس كما لم يحدث من قبل ودفع البلاد نحو الإفلاس».
قبل أكثر من أسبوع كان الأب الروحي لـ«الإخوان المسلمين» يوسف القرضاوي ينشر على موقعه الخاص في «تويتر» تصريحا ينص على أنه لا يرضى أن تقاتل الولايات المتحدة الأميركية تنظيم داعش في العراق والشام.
على ذات النسق تبعه بأيام، راشد الغنوشي، في حواره مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية المقربة من حزب الله ونظام بشار الأسد. حول موقفه من التحالف الدولي الذي يشن أحد حروبه على الإرهاب المتمثل في تنظيم «داعش» بقوله «في هذا الإطار كان موقفنا واضحا ومشرفا بعد رفض المشاركة في تدخل التحالف الدولي في العراق وسوريا تحت غطاء محاربة ما يسمى (داعش) أو الإرهاب».
في سياق متصل، كان المؤلف والباحث مصطفى القلعي كتب مقالا في «الخلفية الإخوانية لحزب النهضة التونسي»، قائلا: «الإخوان يعرفون أنّ لهم دعما كبيرا تمثّله التيّارات السلفيّة بمختلف تشكّلاتها. ولهذا انعقدت بينهم العلاقات السريّة والعلنيّة. ولا يمكن للتيّار الإخواني أن يرفض المساعدة ممّن يتطوّع لإسناده في إزالة الخصوم من قبل الجماعات العنفيّة وعلى ترويض المجتمع عن طريق الدعاة والجمعيّات وأئمّة المساجد. ولعلّ هذا التقارب والتعاضد بين التيّار الإخواني والتيّارات السلفيّة الجهاديّة يتجلّى في أوضح صوره في سوريا اليوم».
«الإخوان المسلمون» كحالة سياسية متفاوتة الارتفاع والانخفاض على امتداد العالم العربي، وذهاب الكثير من الباحثين إلى أن الجانب «العنفي» لدى الجماعات المسلحة من تيارات الإسلام السياسي، مرده للأدبيات الإخوانية القائمة على مفاهيم الخلافة والجهاد المسلح. يضع الجماعة في مأزق سياسي فلسفي وجماهيري.
يشرحه نسيرة الذي أنهى أطروحته للدكتوراه حول العلاقة بين فكر شيخ الإسلام ابن تيمية والجماعات الجهادية المعاصرة في مصر والعالم العربي بقوله «الإخوان على المستوى الفكري والمطلبي الإسلامي الآن أقرب للتيارات الجهادية والسلفية الجهادية في موقفهم من دولة ما بعد 30 يونيو والدول الداعمة له، ولا شك أنه من المرجح عقدهم اتصالات قوية مع هذه التيارات والتنسيق فيما بينها، يتضح في التزامن بين المظاهرات والعمليات التفجيرية في كثير من الأحيان! والاستعداد العالي لدى قواعد الإخوان للعنف بعد سقوط حلمهم الذي كان كابوسا في الرئيس المعزول».
ويزيد «لكن نرجح أيضا أنه مع انشقاق جبهة 30 يونيو وعدم رأب الصدع مع حركات شبابية ثورية وحزبية وآيديولوجية، يسارية واحتجاجية ونقابية، قد يسعى الإخوان للانضمام تحت لوائها والانضمام إليها بنفس مطلبياتها الناقدة والمعارضة للدولة، أو المعارضة لقانون التظاهر، أو لبعض أحكام القضاء، وبعض ممارسات الأمن، والتي يزيد الإعلام الغوغائي في مصر من انتشارها لأن خطابه انقسامي وغير علمي وغير موضوعي في كثير من الأحيان.. قد ينضوي الإخوان تحت رايات هؤلاء بوصفهم نشطاء سريين لخدمة القضية الإخوانية ككل وتعميق فكرة النزوع الثوري المعارض من جهة أخرى على النظام القائم».
حالة «الانسداد السياسي» التي تعيشها الجماعة كآخر التجارب الأممية، بعد أفول نجم «الشيوعية» بدوره بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والفشل اللاحق للتجربة «القومية»، تدفع باتجاه ارتياب قلق من جماعات «الإسلام السياسي» و«الإخوان» تحديدا الذين بات مناصروها وقواعدها الشعبية تخوض ما يشبه حرب الشوارع في مصر. وحيث جميع الإشارات تشير إلى أنه لا مصالحة مع «الإرهاب» على حساب استقرار الأوطان وأمنها الإقليمي، على الأقل من قبل دول الخليج باستثناء قطر.. حتى الآن فإن الذاكرة الخليجية ما زالت تسترجع بمرارة، تجربة أوائل التسعينات من القرن الماضي، حين شكل موقف الجماعة (الأم) في مصر صدمة لأتباعها في الخليج، وفي الكويت تحديدا بعد تأييدها صدام حسين في غزوه الكويت. هذه الصدمة منبعها أنه إبان تلك الفترة كانت دول الخليج والكويت تحديدا أهم مصدر لاقتصاديات الإخوان.
تلك التجربة التي أظهرت ملمحا سياسيا جديدا قائما على التضحية بالهويات الفرعية للجماعة في سبيل تحقيق المشروع الأممي حتى لو كان بالتضامن مع صدام حسين في غزوه دولة عربية مجاورة، وحتى لو كان على حساب الخليج الذي غذى شرايين الجماعة ماديا لعقود، قبل أن تصنف الجماعة على أنها إرهابية في بعض دول الخليج، ما يعني أن الأسئلة القادمة الأكثر قلقا للفروع، ماذا سيحدث مع ما تواجهه الجماعة من تجفيف للمنابع الاقتصادية وحصار سياسي يزداد يوما بعد آخر؟