الرجل الذي جعل البريطانيين يعشقون الفلسفة

الفيلسوف والسياسي والشاعر الذي غادرنا

بريان ماغي
بريان ماغي
TT

الرجل الذي جعل البريطانيين يعشقون الفلسفة

بريان ماغي
بريان ماغي

غالباً ما يوصف هنري فورد بأنه الرجل الذي جعل أميركا تمشي على عجلات، وأرى أن هذا الوصف يصحّ تماماً - مع شيء من التحوير - مع الفيلسوف بريان ماغي؛ فهو الرجل المحبوب الذي جعل البريطانيين يتسمّرون أمام شاشات التلفاز ويتواصلون مع حوارياته المعروفة على شاشة الـBBC التي شهدت استضافته كبار فلاسفة العالم، وهم يتناولون أعقد التفاصيل الفلسفية الأكاديمية في حوارات محببة لن تغيب عن بال المشاهدين حتى بعد أن تقادمت بها الأيام.
بريان إدغار ماغي Bryan Edgar Magee الذي غادرنا أخيراً، فيلسوف، وسياسي، وشاعر، وكاتب، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامة، وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية.
تحدّر ماغي من عائلة عمالية، وكانت له في طفولته علاقة عميقة مع والده؛ بينما كانت علاقته بأمه على غير ما يرام بسبب صرامتها المفرطة وطباعها المتطلبة وإساءة معاملتها لأولادها. أبدى ماغي منذ يفاعته اهتماماً ملحوظاً بالسياسات الاشتراكية، ولطالما استهواه الاستماع للخطباء السياسيين في زاوية الخطابة في الهايدبارك بمدينة لندن، كما كان مولعاً بالمسرح ويواظب على حضور الحفلات الموسيقية.
خدم ماغي في الجيش البريطاني أثناء فترة الخدمة الوطنية الإلزامية، وفي أثناء خدمته تلك حصل على منحة دراسية في جامعة أكسفورد، وفضّل بادئ الأمر دراسة التاريخ في تلك الجامعة، ثم أتبعه بدراسة منهاج دراسي يضمّ كلاً من الفلسفة والسياسة والاقتصاد فأتمّه في سنة واحدة، ثم حصل على بعثة دراسية عليا لدراسة الفلسفة في جامعة ييل الأميركية.
ألّف ماغي الكثير من الكتب التي تتناول موضوعات مختلفة في الشعر والفلسفة والسياسة والتاريخ، نذكر منها:
- الصّلب وقصائد أخرى، 1951 - أن تعيش في خطر، 1960
- الثورة الديمقراطية، 1964 - الفلسفة البريطانية الحديثة، 1971
- مواجهة الموت، 1977 (وهي روايته الأولى والأخيرة)
- رجال الأفكار: بعض صُنّاع الفلسفة المعاصرة، 1978
- اعترافات فيلسوف، 1997 - فاغنر والفلسفة، 2001
- الأسئلة النهائية، 2016 - الحصول على أفضل ما في الحياة، 2018
وفي عام 2004 نشر البروفسور ماغي سيرته الذاتية بعنوان «سحائب المجد Clouds of glory».
تبقى المأثرة الكبرى للبروفسور ماغي على صعيد الثقافة الشعبية هي جهوده الحثيثة في جعل الفلسفة - والتفكير الفلسفي بعامة - مادة ثقافية متاحة لعامة الناس. بدأ جهد البروفسور ماغي في هذا الميدان في عامي 1971 و1972 عندما قدّم عبر إذاعة الـ«بي بي سي» (البرنامج الثالث) أحاديث مع فلاسفة بارزين، وقد حاور ماغي في هذه الأحاديث عدداً من الفلاسفة البريطانيين المعاصرين ابتداءً بالفيلسوف ذائع الصيت أنتوني كوينتن، وتناولت الأحاديث موضوعات فلسفية تقنية مثل الفلسفة الوضعية المنطقية، ومدرسة فرانكفورت، أو علقت على نتاجات فلاسفة مثل برتراند رسل، لودفيغ فتغنشتاين، كارل بوبر، إلخ، أو ناقشت العلاقة بين الفلسفة والأنساق الفكرية الأخرى في الحياة، مثل الدين والأدب والسياسة والسوسيولوجيا.
أعاد البروفسور ماغي عام 1978 فكرة هذه الحوارات في سلسلة جديدة من خمسة عشر حواراً بُثّت على الـ«بي بي سي» تحت عنوان «رجال الأفكار»، ابتدأ ماغي تلك الحوارات بحوارٍ تقديمي إلى فكرة الفلسفة عقده مع الفيلسوف إزايا برلين، ثم راحت الحوارات تتناول الفلسفة الماركسية، الفلسفة الوجودية الجديدة، أفكار نعوم تشومسكي، فلسفة العلم، الفلسفة والأدب، إلخ، وطُبِعت هذه الحوارات لاحقاً في كتاب بعنوان «رجال الأفكار: مدخل إلى الفلسفة المعاصرة».
واصل ماغي مسيرته الفلسفية الحوارية على تلفاز الـ«بي بي سي» عام 1987؛ فظهرت سلسلة جديدة من الحوارات حاور فيها عدداً من أكابر الفلاسفة الغربيين، وتناولت تلك الأحاديث أعاظم الفلاسفة على شاكلة: أفلاطون، أرسطو، ديكارت، حتى انتهت بحوار ثري مع الفيلسوف جون سيرل حول فلسفة فتغنشتاين.
أبدى ماغي طوال حياته عشقاً لا ينقطع تجاه الموسيقى الكلاسيكية، وبخاصة موسيقى فاغنر، وألّف كتباً مهمة في هذا الشأن. وأظهر ماغي إعجاباً كبيراً بفلسفة شوبنهاور وصنّف فيها كتاباً بعنوان «فلسفة شوبنهاور» اجتهد فيه لتبيان تأثير البوذية في فكر هذا الفيلسوف الكبير.
ولسنوات طوال تابعتُ حواريات برايان ماغي الممتعة واستكملت ولعي بها حين أقدمت على ترجمة الحوارية التي عقدها ماغي مع الروائية - الفيلسوفة آيريس مردوخ عام 1978، وظهرت تلك الحوارية في كتاب مطبوع عن «دار المدى» العراقية عام 2018، وقد أثرى ماغي الكتاب بمقدمة استهلالية مهّد بها لحواريته مع مردوخ قال فيها:
«لطالما كان بعض عظام الفلاسفة كُتّاباً عظاماً بحسب ما يعتقد الأدباء العظام ذوو الصنعة الفنية الراسخة، وأظن أن الأمثلة الأكثر تعبيراً عن هؤلاء الكتّاب - الفلاسفة هي: أفلاطون، القديس أوغسطين، شوبنهاور، نيتشه، وثمة آخرون وإن كانوا لا يعدّون قاماتٍ عظيمة مثل السابقين الذين ذكرتهم، لكنهم كانوا بالتأكيد كُتّاباً على قدر كبير من الصنعة الجيدة: ديكارت، باسكال، بيركلي، هيوم، روسو. في وقتنا الحاضر (وقت إجراء الحوار، المترجمة) فإن كلّاً من برتراند راسل وجان بول سارتر قد مُنِحا جائزة نوبل للأدب».
ثم يشير إلى مفارقة وجود فلاسفة عظماء لا ترقى كتاباتهم إلى مستوى فلسفتهم:
لكن ثمة في الوقت ذاته فلاسفة عظاماً هم كتّاب سيئون، ويحضر في الذهن على الفور كانط وأرسطو اللذان كانا فيلسوفين عظيمين واثنين من أكثر الكُتّاب رداءة في الكتابة الأدبية، أما آخرون سواهم - مثل القديس توماس الإكويني وجون لوك - فكانوا على قدر غير قليل من الركاكة الأدبية.......
ما أراد ماغي إثباته في هذه المقدمة هو افتراق الأدب عن الفلسفة باعتبارهما نوعين متمايزين من الاشتغال الفكري، فيعلن جازماً:
«... إن ما تكشف عنه الأمثلة السابقة بوضوح هو أن الفلسفة ليست تفريعاً أو حقلاً معرفياً منتمياً للأدب؛ إذ إن نوعية الكتابة الفلسفية وأهميتها تكمن في اعتبارات أبعد من القيمتين الأدبية والجمالية، وإذا ما كان الفيلسوف - أي فيلسوف - يجوّد في طريقة كتابته فتلك مزيّة تُحسبُ له بالتأكيد وستجعله على قدر كبير من الغواية التي تدفع الآخرين لدراسته؛ غير أن الكتابة الفاتنة لن تجعل منه فيلسوفاً أفضل...».
لكنه يشير لاحقاً إلى إمكانية التداخل بين الفلسفة والأدب بخاصة في أعمال آيريس مردوخ:
«...أقول هذا بوضوح صارم ومنذ البدء لأنني وفي سياق هذه المحاورة سأتناول بعض الجوانب التي يمكن أن تكون مناطق تداخل بين الفلسفة والأدب في عمل كاتبة تمتدّ خبراتها لتشمل عالمي الفلسفة والأدب معاً».
يختم البروفسور ماغي كتابه الأخير «الحصول على أفضل ما في الحياة» المنشور عام 2018 بالعبارات المثيرة التالية:
«لو كُشِف لي على وجه اليقين، ومنذ بدء حياتي، أن الحياة عديمة المعنى، وأن نصيبي فيها لن يعدو أن يكون النسيان الأبدي، ثمّ سُئِلتُ: (بعد أن تناهى لعلمك كلّ هذه الأمور، أفكنتَ تفضّل خيار الولادة من عدمه فيما لو كنت تملك هذا الخيار؟)؛ فسيكون جوابي هو الصراخ بأعلى صوتٍ متاح لي: نعم!. لطالما أحببتُ العيش حتى في تلك البرهات التي كانت تبدو لي فيها الحياة أسوأ سيناريو يمكن للمرء تصوّره؛ لكنها تبقى بالنسبة لي أفضل من تجربة عدم العيش بمقياس لانهائي يصعب تصوّر حدوده. إنه لأمرٌ محزنٌ أن يموت المرء؛ لكنْ حتى فكرة فنائه الأبدي تبقى ثمناً معقولاً يستوجب كفاح المرء ليعيش حياة تستحق دفع ذلك الثمن.....».
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!