لماذا يرفض اللاجئ الفلسطيني في لبنان إجازة العمل؟

إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
TT

لماذا يرفض اللاجئ الفلسطيني في لبنان إجازة العمل؟

إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)
إحدى اللافتات التي رفعها العمال الفلسطينيون احتجاجاً على القرارات الأخيرة (أ.ب)

قبل نحو شهر، خرجت احتجاجات فلسطينية في لبنان على قرار وزارة العمل بإلزام العمال الفلسطينيين بالحصول على إجازة عمل، أسوة بالعمال الأجانب، وذلك في معرض خطة أرادت الوزارة منها تفعيل قانون العمل اللبناني الذي لم يطبق، خلال السنوات الماضية، بحسب ما يقول وزير العمل كميل أبو سليمان.
خرجت المظاهرات، وقاطعت المخيمات المنتجات اللبنانية على سبيل الضغط على الحكومة اللبنانية للعودة عن القرار، وكالعادة انقسم أركان الحكم على أساس طائفي، إذ دعمت معظم الأحزاب المسيحية قرار وزارة العمل، ودعت إلى «لبننة العمالة» في سوق العمل، لتقليص نسبة البطالة بين اللبنانيين وزيادة مردود مالي إلى خزينة الدولة من رسوم إجازات العمل. أما أكثرية القيادات المسلمة فطالبت باستثناء الفلسطينيين من تلك الإجراءات، عملاً بمبدأ أن هؤلاء معدومو الخيارات، ويجب أن يحصلوا على أدنى حقوقهم بالعمل، في ظل أفق سياسي مسدود لحل القضية الفلسطينية وتحقيق «حق العودة».
والواقع أن الطرفين اللبنانيين، المسلمين والمسيحيين، لهم هواجسهم التي انطلقوا منها في التعامل مع ملف العمالة الفلسطينية. فالمسيحيون يتوجسون من أن يكون منح الفلسطينيين (والسوريين استطراداً) حق العمل أسوة باللبنانيين، تمهيداً ضمنياً لبقائهم، كون الاكتفاء المادي يمنحهم استقراراً في بلد يجب أن يكونوا فيه لاجئين مؤقتين. وبالتالي، سيكون ذلك توطيناً مقنعاً في بلد يغصّ بعدد سكانه وتتضاءل موارده، ويختل الميزان الديموغرافي فيه بين المسلمين والمسيحيين.
أما المسلمون، فيتوجسون من أن تكون هذه القرارات بمثابة ضغوط على الفلسطينيين للهجرة، وتضييقاً عليهم، مما يزيد من شتات الفلسطينيين ويبعثرهم، مما يفقدهم الثقل الديموغرافي الكافي للضغط على المجتمع الدولي بـ«حق العودة».
من هنا، اندلعت الأزمة، وتمثل الانقسام في فريقين، يقدم كل منهما هنا وجهة نظره في صفحة «قضايا».

يُعاني الفلسطيني بشكل عام من ظروف مُختلفة عن شعوب العالم أجمع، فهو لا يزال يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، ليكون الأطول منذ 71 عاماً.
ونتج عن هذا الاحتلال تشريد أعداد كبيرة من اللاجئين داخل المناطق الفلسطينية، أو إلى دول الجوار: لبنان، سوريا، الأردن ومصر، فضلاً عن أصقاع المعمورة.
يعيش اللاجئون الفلسطينيون تحت وطأة ضنك العيش، والظروف المعيشية والسياسية والقوانين التي تتفاوت بين بلد وآخر.
تزيد هذه المعاناة مع العجز الذي تُواجهه وكالة «الأونروا»، المُستهدفة بإلغائها لشطب القضية الفلسطينية، وفي الطليعة قضية اللاجئين.
يُدرك الفلسطينيون أنّ مُؤامرة إنهاء القضية مُستمرة، ولن تُمرّر الإدارة الأميركية والكيان الإسرائيلي إفشال «صفقة القرن» مُرور الكرام، دون تدفيع الفلسطيني الثمن، كما لبنان، الذي أيّد الرفض الفلسطيني للصفقة.
يبرز في صدارة اللاجئين مَنْ اضطرَّ للنزوح إلى لبنان إثر نكبة عام 1948. والذين تمَّ إحصاؤهم في عام 1950 فبلغ عددهم 127600.
لكن بقيت أعداد الإحصاءات تتفاوت، حيث تشير إحصاءات وكالة «الأونروا» لعام 2017 إلى أنّ العدد هو 463664. فيما مديرية الشؤون السياسية للاجئين في الجمهورية اللبنانية، حدّدت أنّ عددهم هو 592711، بينما التعداد الذي جرى حتى ديسمبر (كانون الأول) 2017. عبر شراكة بين «إدارة الإحصاء المركزي اللبناني» و«الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني»، تحت مظلّة «لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني» بتكليف من رئاسة مجلس الوزراء، أحصى 174422.
تباين الأعداد يدل على عدم وضوح الرؤية لجهة إحصاء اللاجئين من قِبل جهات مُعتمدة، فكيف الحال بشأن القضايا التفصيلية المُتعلّقة بالوجود الفلسطيني في لبنان؟
لذلك، فإنّ الهواجس والحذر لدى اللاجئين الفلسطينيين ترتبط بركيزتين:
1 - الواجبات: يلتزم بها اللاجئ الفلسطيني، ومطلوب منه إثبات براءته من اتهام دائم.
2 - الحقوق: محروم من كثير منها، تذرّعاً بمبدأ المُعاملة بالمثل بين الدول، وقد تمَّ تدارك بعض ما يتعلّق باستثناء الفلسطيني من ذلك، وفقاً لما نصّ عليه عدد من البروتوكولات.
المُؤسف أنّ التعامل مع الملف الفلسطيني هو وفق النظرة الأمنية، فأثبت أنّه لا يُوجد للفلسطيني أي مشروع، لا سياسياً ولا أمنياً في لبنان، بل تصدّى للإرهاب بكل أشكاله وبشهادة المسؤولين والقوى اللبنانية، ولعل تضحية الشاب الفلسطيني صابر ناصر مراد بنفسه، بالتصدّي للإرهابي عبد الرحمن مبسوط، عشية عيد الفطر المبارك في طرابلس، مساء الاثنين 3 - 6 - 2019. خير دليل.
أمام ذلك، مطلوب التعامل مع الملف الفلسطيني رُزمة مُتكاملة شاملة، بصراحة ووضوح.
برز في الآونة الأخيرة مع بدء تنفيذ وزارة العمل اللبنانية خطة تنظيم العمالة الأجنبية في لبنان من 10-7-2019. إجراءات استهدفت عمل اللاجئين الفلسطينيين، وإقفال مؤسّستين إحداهما هي «مؤسّسة عارف للسيراميك» التي يملكها الشاب الفلسطيني زياد عارف في بلدة ضهر العين في قضاء الكورة (شمالي لبنان)، مما أثار حراكاً جماهيرياً سلمياً داخل المُخيّمات والتجمّعات الفلسطينية، وتضامناً في مدن رئيسية لبنانية.
هذا الحراك وعناوينه، طرح أهمية تحديد توصيف وضع الفلسطينيين في لبنان: أهم أجانب أم لاجئون؟
- إنْ كانوا أجانب، فيجب عدم حرمانهم من حق التملّك، الذي يتمتّع به الأجنبي!
- إنْ كانوا لاجئين، فيجب عدم حرمانهم من حق العمل، الذي أقرّته وكفلته الأعراف والمواثيق الدولية!
المُستغرب هو الإصرار على أنْ يحصل الفلسطيني على إجازة عمل، وإنْ تغيّرت شروط الحصول عليها، ما يُثير الهواجس، لأنّه في أي دولة لا يحتاج المُواطن إلى إجازة عمل، فهو يحمل جنسيتها.
وفي دول العالم، فإنّ الحصول على إقامة، كفيل بمُزاولة العمل، ويكون مُرتبطاً بمدّة صلاحيتها، واللاجئ الفلسطيني يحمل بطاقة هوية صادرة عن وزارة الداخلية - مديرية الشؤون السياسية، والتي تُعتبر إقامة له، ما ينفي عن الفلسطيني صفة الأجنبي، لأنّ القانون نصَّ على اشتراط حصول الأجنبي على إقامة أو تأشيرة دخول.
بالتالي فإنّ الفلسطيني ليس بحاجة لإجازة عمل.
كما أنّ تحديد الحاجة إلى العمل، يتطلّب دراسة حاجة السوق، والدورة الاقتصادية للاجئ الفلسطيني هي دائمة داخل لبنان، وما يُنتجه يصرفه، ولا يرسله إلى الخارج، بل إنّ أفراد العائلة يكدّون في لهيب الشمس وصقيع البرد، ويحوّلون أموالاً إلى عائلاتهم في لبنان، مما يُشكّل مورداً يُساهم بإنعاش الاقتصاد اللبناني.
ويبقى الحصول على إجازة العمل مشروطاً بـ:
- مهن مُحدّدة، ولمدّة مُحدّدة، وفقاً لحاجة السوق.
- إنّ المستندات المطلوبة والرسوم من الممكن أنْ تتغيّر وفق قرارات من الوزير، وحسب الاستنسابية، وإنْ كانت الآن مُعفاة من الرسوم، فمَنْ يضمن غداً تحديد رسوم، لا يدري أحد قيمتها.
- إنّ مُدّة صلاحية الإجازة مُحدّدة بفترة عامين، ويُمكن تعديل صلاحيتها حتى 3 أو 5 أعوام، وتجديدها دورياً، وفق حاجة السوق، فمَنْ يضمن التجديد؟
- إنّ منحها وفق مهنة مُحدّدة، ويُحذّر الحاصل على الإجازة، العمل بمهنة أخرى، أو مؤسّسة أخرى، والطبيب والمهندس الفلسطيني في لبنان يعمل سائقاً أو بائعاً!
- تجديد إجازة العمل مُرتبط بالتسجيل في الضمان الصحي، ما يتوجب دفع ما نسبته 25.5 في المائة من قيمة الراتب، علماً بأنّه لا يحصل إلا على 8.5 في المائة هو تعويض نهاية الخدمة، مما يؤدي إلى عدم تصريح رب العمل عن العامل الفلسطيني.
- ضرورة الحصول على عقد عمل بين رب العمل والعامل.
- أما رب العمل الفلسطيني، فعليه إيداع مبلغ 60 ألف دولار أميركي في المصرف.
- توظيف 75 في المائة من العمال اللبنانيين مُقابل عامل أجنبي.
- عدم تمكّن رب العمل الفلسطيني من التقدّم للحصول على قروض من المصارف، التي لا تُوافق على فتح اعتمادات لمَنْ تقترب مدّة انتهاء صلاحية إجازته.
- إنْ كانت إجازة العمل معفاة من الرسوم، لكن من أجل الحصول عليها، قد يتكبّد طالبها «إكراميات»، أو دخول وسطاء يُطالبون بمبالغ مالية مُرتفعة!
خلال الاجتماع بين وزير العمل الدكتور كميل أبو سليمان وسفير دولة فلسطين لدى لبنان أشرف دبور، وبحضور رئيس «لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني» الوزير السابق الدكتور حسن منيمنة، الذي عُقِدَ يوم الاثنين في 15 - 7 - 2019 - وشاركتُ بحضوره - قدّم الوزير أبو سليمان الكثير من التسهيلات لجهة:
- إعفاء رب العمل الفلسطيني من إيداع مبلغ في المصرف.
- إلغاء اشتراط تشغيل 75 في المائة من العمال اللبنانيين.
- عدم ارتباط التسجيل في الضمان الصحي، للحصول على إجازة العمل.
لكن الموقف الفلسطيني كان واضحاً، رفض إجازة العمل، لأنّ الفلسطيني ليس أجنبياً.
أمام ذلك، فإنّ مُعالجة الأمر، تتوزّع على مراحل: منها ما هو سريع، وأخرى في مجلسي الوزراء والنوّاب.
* بشأن الخطوات السريعة، قام الوزير أبو سليمان بإجراءات داخلية، بالإيعاز إلى المُفتشين في الوزارة، بعدم إقفال أي مُؤسّسة يملكها فلسطيني، أو توقيف العمال الفلسطينيين عن العمل.
* أما الخطوات المُرتقبة، فهي كما جرى الإعلان خلال جلسة مجلس النواب بين الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، بإحالة الملف على مجلس الوزراء، لاتخاذ المُقتضى.
ولأنّ الفرقاء اللبنانيين كانوا يُطالبون بإجازة عمل، وإنْ كانت مُعفاة من الرسوم، وهو ما أُقر في الفقرة 3 من المادة 59 من القانون 129 الصادر بتاريخ 24 - 8 - 2010. والذي نصَّ على أنّ «يُعفى من رسوم إجازة العمل اللاجئون الفلسطينيون» - أي أنّهم أعفوا من الرسوم وليس من الإجازة، وإلغاء هذه المادة بحاجة إلى تعديل القانون من خلال التقدّم بذلك إلى المجلس النيابي، وباتت صيغته جاهزة... كذلك تعديل قانون الضمان الاجتماعي رقم 128.
وبانتظار ذلك، فإنّ الحوار مُتواصل، ومحوره: الرئيس بري، الرئيس الحريري، الوزير أبو سليمان، رئيسة «كتلة المستقبل النيابية» النائبة بهية الحريري، المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الوزير السابق منيمنة والسفير دبور.
كما أنّ الحراك السلمي المطلبي مُتواصل، حيث أفشلت الجهود الفلسطينية - اللبنانية أكثر من مُخطّط توتيري، ومنها تحويل وجهة الحراك السلمي في مخيّم عين الحلوة عن المطالبة بإقرار الحقوق الفلسطينية إلى استهداف الجيش اللبناني، وأيضاً العمل الإرهابي، الذي قام به بلال العرقوب ومجموعته باغتيال الشاب حسين جمال علاء الدين «الخميني»، بعد مُشاركته في «جمعة الغضب» الثالثة بتاريخ 2 - 8 - 2019 وما أعقبها من تصفية بلال العرقوب واعتقال نجليه يوسف وأسامة وتسليمهما إلى مخابرات الجيش اللبناني.
ومنعاً لاستغلال الورقة الفلسطينية في التجاذبات الداخلية اللبنانية، والتي يكون ضحيتها الفلسطيني، فإنّ الضرورة أصبحت مُلحة إلى إطلاق حوار لبناني - فلسطيني لمُناقشة الحقوق الفلسطينية والمعيشية والمدنية، وحق العمل والتملك بما يؤدي إلى:
- إلغاء الحصول على إجازة العمل.
- تعديل الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون 296 الذي أقر في مجلس النواب بتاريخ 21-3-2001. والذي استثنى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من شروط الملكية العقارية المُطبقة على سائر الرعايا العرب، بذريعة رفض التوطين.
- السماح للفلسطيني بإنشاء الجمعيات والانتساب إليها وإلى النقابات.
- الاستفادة من خدمات يدفعها اللاجئون الفلسطينيون كضرائب ورسوم إلى الخزينة اللبنانية، ولا يستفيدون منها.
- الالتزام بـ«بروتوكول الدار البيضاء» لعام 1965، الذي صادق لبنان على معظم بنوده، وينص على استثناء مُعاملة الفلسطينيين في الدول العربية التي يُقيمون فيها وتيسير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بالجنسية الفلسطينية، لأنّ الفلسطيني يرفض التوطين أو التهجير - خاصة أنّ هناك مَنْ عاد إلى فتح أبواب الهجرة - ويتمسّك بالعودة إلى أرض وطنه، وبانتظار ذلك أنْ يعيش بكرامة.

- عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني.
[email protected]



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك كثيرون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلة، يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلد يراكم الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى أكثر لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدّام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.