ممتعة هي رواية «البيت الصغير» للكاتبة اليابانية كيوكو ناكاجيما الصادرة بترجمة إنجليزية هذا العام، عن دار «دارف»، بشرط ألا يقارنها قارئ الأدب الياباني بما ترجم سابقا لأدباء متميزين سبروا غور المجتمع بفلسفته وتراثه بأسلوب مركّب أو ملحمي، إذ ينحو النص الروائي هنا، إلى السرد المباشر البسيط الذي يقود تراكمه مع تقدم الرواية إلى استكشاف عوالم المجتمع الياباني، في طوكيو تحديدا، بين 1930 و1945، وإلى بلورة صورة ليابان ما قبل الحرب ثم يابان فترة الحرب العالمية الثانية وصولا إلى الحاضر.
تستعيد تاكي ساردة الرواية، تفاصيل حياتها بصفتها خادمة لعائلة هيراي في ضواحي طوكيو. مراهقة قدمت من صقيع الريف الشمالي الفقير، بحثا عن عمل يجلب دخلا بسيطا يساعد عائلتها في تكاليف العيش. فبنات الفقراء كن خزانا لخدمة بيوت الأغنياء أو لفتيات الغيشا المختصات ببيوت المتعة. وقد وجدت تاكي نفسها في خدمة توكيكو العروس الشابة التي تكبر خادمتها بسنوات قليلة. قبل ذلك عملت في منزل الروائي كوناكا. أخبرها الرجل العجوز غريب الأطوار أن الخادمة مسؤولة عن سعادة زواج أصحاب البيت، وهو شعار تضمه تاكي إلى قلبها، وتطبقه في عملها لدى العائلة التالية. تتطور العلاقة بين السيدة والخادمة إلى رابطة قوية «أخواتية» ومع سيد البيت والطفل المصاب بسيقان واهية أقرب إلى الشلل، حتى يصبح وجودها في البيت هو كل حياتها تستغني معه تقريبا عن علاقتها بأهلها، بعد أن تغيرت مفاهيمها عن الحياة بفضل عيشها، هي ابنة الريف غير المتحضر، في المدينة الكبيرة الحديثة. وضعت تاكي كل جهدها في خدمة البيت ذي السقف القرميدي الأحمر المبني على الطراز الغربي والقابع فوق تلة بحي راق، فتزرع حديقته بالنباتات والأعشاب المستخدمة في الطبخ والعلاج، وتحصل من الجزار والبقال بذرابة لسانها على أحسن السلع للعائلة خصوصا في فترة التقنين التي شهدها اليابانيون فترة الحرب العالمية الثانية.
تسرد تاكي، التي باتت عجوزا الآن، يومياتها، بتكليف من مسؤولة دار نشر، كانت كلفتها سابقا بكتاب عن التدبير المنزلي موجه للشابات الصغيرات، مشددة عليها أن مشروع الكتاب الجديد يهدف إلى تعريف القراء بتفاصيل الحياة في طوكيو قبل نصف قرن: طبيعة العلاقات الإنسانية، وأطباق الأكل، والحياة الترفيهية، والعمارة؛ فالجيل الجديد لم يختبر موضوع إقامة خادمة بالبيت كما كان عليه الحال قديما في اليابان، عندما كان وجود خادمة أو أكثر بالبيت إشارة إلى تميز العائلة اجتماعيا. أي سبر الفترة المعروفة بـ«مرحلة شوا» نسبة إلى فترة حكم الإمبراطور هيروهيتو (1926 - 1989) التي يعدها الباحثون المرحلة السابقة على اليابان الحديثة.
في طوكيو، اندمجت تاكي بتفاصيل الحياة الجذابة فاعتبرت نفسها مع الأيام ابنة العاصمة، تبنت لهجتها المنمقة، وانغمست بالحياة الحديثة المنشغلة بالأخبار العامة والمشاريع الاقتصادية وآخر صيحات الموضة وعروض السينما، وحيث الإعلام الذي يتمظهر من خلال مجلة للمرأة ترأس تحريرها صديقة السيدة توكيكو، وصحيفة يومية سياسية يحضرها سيد البيت ويقرأها هو وزوجته، كذلك مشروع المجلات المصورة الشهيرة بـ«المانغا».
يتلصص القريب الشاب على مذكرات تاكي عند زيارته لها لمساعدتها في شأن ما، مندهشا من اطلاع العمة على تفاصيل تفوق اهتمامات خادمة يفترض أنها مهمومة بمتابعة شؤون البيت وخدمة السيدين والطفل كويشي الضعيف البنية. وكثيرا ما تدخل الشاب وناقشها بصحة التفاصيل مقارنة بما هو موثق في الكتب. غير أن الحياة عموما ما هي إلا شأن سياسي. فحديث السيد هيراي عن محاولة اليابان الفاشلة لاستضافة الألعاب الأولمبية التي ستجلب الازدهار لطوكيو، وما ينقله من أخبار في مجال عمله أو ما يعبر عنه من مخاوف تأثير التقلبات السياسية أو اقتراب شبح الحرب على مسار عمل مصنع ألعاب الأطفال الذي يعمل مديرا له، هي ضمن مسار السياسة. كذلك تفاصيل مواجهة أهل طوكيو لفترة الحرب من تقنين في الطعام واختلاق تاكي لأفانين أطباق جديدة بسيطة مستوحاة من المتوفر في الحديقة والمسرب لها من البائعين، ليس كلاما عن الطبخ والطعام فقط.
يتفاجأ قارئ الرواية ببساطة العلاقة بين المرأتين، الخادمة والمخدومة، حيث تغيب الطبقية التي قرأنا عنها في أعمال روائية أو أعمال سينمائية يابانية. وكأننا في مرحلة بدء سد الفجوة بين الطبقات مع ترك مساحة من التمايز، خصوصا ما في العلاقة بين النساء من تضامن ومساندة، إضافة إلى تمرد صديقة السيدة رئيسة تحرير المجلة النسوية على التقاليد الذكورية في اليابان (النسوية بأشكالها المبكرة). وتلحظ الخادمة في مرحلة ما انجذاب سيدتها إلى شاب فنان في مجلات المانغا المصورة، الذي يتردد عليهم لعمله مع الزوج في مصنع الألعاب، فتحاول أن تتصدى لاحتمال فضيحة ستؤثر على السيد الصغير في المدرسة وعلى استقرار البيت عموما. وهذه العلاقة هي تحديدا ما ركز عليه فيلم من إنتاج ياباني مستوحى من الرواية وبالاسم نفسه، عام 2016، وقد وصل إلى المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي بعدة ترشيحات للدب الذهبي، وحصل على جائزة أفضل ممثلة.
وحدها الحرب تفرق بين السيدة والخادمة حيث الضيق المادي وتدهور الاقتصاد وسقوط القنابل الأميركية على البلاد، توقفت المصانع وبينها مصنع السيد هيراي للألعاب، بعد تكريس كل المواد الخام للإنتاج العسكري، وبات المواطنون يساقون إلى الخدمة العسكرية. تعود تاكي إلى شمالها البارد بكل معانيه وتبقى متعلقة بالبيت الصغير ودفئه. وعندما تتاح لها فرصة زيارة طوكيو في مهمة سريعة تحمل في جيوب معطفها، بعض الطعام لسيدتها، حيث العاصمة دكت وباتت على شفا جوع. في المرة التالية ستجد البيت قد تعرض للدمار وقتل ساكنوه في واحدة من الغارات.
إننا في رواية «البيت الصغير» أمام عوالم هيأت اليابان المعاصرة، التي خرجت من عباءة الماضي والتراث المنغلق على أصحابه، إلى فضاءات التعرف على العالم بأزيائه وفنونه وصناعته، حتى بدأت الحرب العالمية الثانية، ثم مواجهة الغرب عسكريا، إلى مواجهته سلميا بالبناء والتحديث بعد الهزيمة.
بعد جنازة العمة، يقرر ابن الأخ الشاب البحث عن أماكن وشخصيات اليوميات مع انتقاله للعمل في العاصمة. لكن طوكيو كانت قد تغيرت كثيرا والضاحية الهادئة التي ضمت البيت الصغير باتت مزدحمة بالسكان وأعيد بناؤها بعد أن دمرتها الغارات، لتنتهي الرواية بعين الشاب بعد أن بدأت بعين المرأة المسنة.
«البيت الصغير» رواية تقترب من الواقع بسرد روائي بسيط وعميق لا يخوض في التعقيدات السيكولوجية أو الواقعية السحرية والأساطير التي تشكل الموروث التاريخي لليابان، لكنها لا تتجاهل هذا الموروث بحدوده الواقعية المباشرة، فتتحدث عن طقوس احتفالية، وعن الوجبات الرئيسية في المطبخ الياباني، الأرز وأنواعه وكذلك الخضار، وكيفية طهي وجبات معينة، عن الأزياء، ومفردات أخرى من دون إقحام. كل ذلك من خلال حيلة بسيطة هي كتابة مذكرات لتنشر في كتاب. وقد يكون للخلفية الصحافية لكيوكو ناكاجيما دور في إخراج نصها من موروث الآباء اليابانيين في الرواية.
ناكاجيما فازت بجائزة نوكي للأدب عام 2010 عن رواية «البيت الصغير»، وهي من مواليد 1964.
«البيت الصغير»... اليابان تُروى على لسان خادمة
«البيت الصغير»... اليابان تُروى على لسان خادمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة