في بروكسل كان القادة الأوروبيون قد أمضوا أكثر من 14 ساعة يتفاوضون فيها على مَن سيخلف جان كلود يونكر في رئاسة المفوضية. وفي ألمانيا، في مكان معزول وبعيد عن العاصمة برلين، كانت وزيرة الدفاع أورسولا فون در لايين تشارك في «خلوة» مع مسؤولين عسكريين كبار لمناقشة الإصلاحات التي ستطال الجيش الألماني.
عندما انتهت تلك «الخلوة» التي كانت قد استغرقت يومين، خرجت فون در لايين من الاجتماع بعد الظهر، وإلى جانبها مسؤول عسكري كبير في وزارة الدفاع.
نظر هو إلى هاتفه لتفقد الأخبار، ليفاجأ بأن اسم الوزيرة الواقفة إلى جانبه مطروح لرئاسة المفوضية.
الحقيقة، لم يشكل طرح اسم فون در لايين مفاجأة فقط للعاملين معها في وزارة الدفاع، بل أيضا لنواب البرلمان الأوروبي وزملائها الاشتراكيين في الحكومة الألمانية، وحتى لرئيستها المستشارة أنجيلا ميركل. ويُقال إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أول من أتى على ذكر اسمها، بعدما رفض تماماً تأييد ترشيح ألماني آخر هو مانفريد فيبر، الذي دعمته ميركل، وهو رئيس أكبر كتلة (محافظة) في البرلمان الأوروبي. أما حجة ماكرون، فكانت أن فيبر لا يمتلك خبرة سياسية تمكنه من تسلم المنصب. ولكن البعض كان يرى أن في رفضه أكثر من ذلك، يتعلق بمنع الألمان من قيادة الاتحاد الأوروبي لأسباب تاريخية. وهذا، مع أنه بعد فشل ماكرون بالحصول على تأييد لمرشحته المفضلة من الكتلة الليبرالية مارغريت فيستاغر، ثم مرشح الاشتراكيين فرانتس تيمرمانس، طرح اسم فون در لايين ليثبت أنه لا يعارض تسلم ألماني للمنصب. وهي بالنسبة إليه «حل مقبول» لكونها «أوروبية بامتياز» كما وصفها، و«فرانكفونية» تتكلّم الفرنسية بطلاقة ولديها خبرة سياسية طويلة.
حتى قبل أشهر قليلة، كان اسم أورسولا فون در لايين يطرح في أروقة حلف شمال الأطلسي «ناتو» على أنها الخليفة الأوفر حظاً في خلافة أمين عام الحلف يانس شتولتنبيرغ، الذي كانت فترة قيادته ستنتهي في سبتمبر (أيلول) من العام المقبل. إلا أن اتفاق دول الحلف في مارس (آذار) الماضي على تمديد مهمته سنتين إضافيتين «أجّل» وصول أول امرأة لرئاسة «ناتو».
وقبل أشهر من ذلك، كان اسم فون در لايين يطرح في أروقة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي لوراثة منصب المستشارة أنجيلا ميركل. ولكن عندما استقالت ميركل من زعامة الحزب في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، لم تدخل فون در لايين السباق لخلافتها. بل، قررت عوضا عن ذلك البقاء إلى جانب ميركل في الحكومة على رأس وزارة الدفاع التي تسلمتها عام 2013. والواقع أن فون در لايين لم تغادر جانب ميركل منذ السنوات الأولى لدخولها عالم السياسة عام 2001. إذ انضمت لحكومة ميركل الأولى عام 2005. وتنقلت في مناصب وزارية مختلفة منذ ذلك الحين. وتحوّلت إلى الوجه الوحيد الثابت في حكومات ميركل المتعاقبة منذ 2005.
- بداية سياسية متأخرة
على الرغم أن هذه السيدة دخلت عالم السياسة متأخرة، في سن الـ42، فإنها نجحت ببناء رصيد سياسي مهم وكسبت إعجاباً واحتراماً دوليين من خلال عملها في «ناتو». حتى إن وزير الدفاع البريطاني السابق مايكل فالون وصفها في مقال نشره في صحيفة «التليغراف» البريطانية بأنها «شقراء، محافظة وتسحر الجميع». وأضاف أنه «عمل إلى جانبها طوال ثلاث سنوات ونصف وكانا يلتقيان خلال اجتماعات الحلف ووزراء الدفاع الأوروبيين وفي الندوات الدولية حول الأمن الدفاعي... وكانت دائما حاضرة كنجمة قوية واضحة وشغوفة». وأضاف أنها «دائماً الشخص الأول الذي تريد التحادث معه لدى دخولك القاعة». ومع أن التكهنات كانت قوية عن انتقال فون در لايين إلى منصب دولي بعد عملها في الحكومة الألمانية، فإن اسمها لم يطرح لرئاسة المفوضية الأوروبية إلا قبل أيام قليلة.
ثمة مَن يقول إن الوزيرة الشقراء استفادت من الخلافات بين ميركل وماكرون حول اسم يخلف يونكر في رئاسة المفوضية ويلاقي قبولاً من دول الاتحاد كاملة. إلا أن فون در لايين، بعد اختيارها تجد نفسها الآن أمام تحد جديد هو إقناع البرلمان الأوروبي بالتصويت لها، بعد إعلان الكتلة الاشتراكية رفضها تسميتها وانتقاد كتلة «الخضر» للتسمية كذلك. ذلك أنه بالنسبة للكتلتين، تخطى القادة الأوروبيون «العُرف» باختيار رئيس المفوضية من النواب المنتخبين. ثم إنه جرت العادة على تسليم المنصب لرئيس أكبر كتلة نيابية، وهي كتلة المحافظين التي يرأسها فيبر.
من جهة ثانية، بالنسبة لبعض الاشتراكيين الألمان، فإن فون در لايين «غير جديرة» بالمنصب. وذهب مارتن شولتز، رئيس البرلمان الأوروبي السابق ورئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الألماني، أبعد من ذلك، فوصفها بأنها من «أضعف الوزراء» في الحكومة الألمانية. بل حتى إن صحيفة «سود دويتشه تسايتونغ» الألمانية دعت البرلمان الأوروبي في مقال لها، لرفض التصويت لفون در لايين لأن اختيارها للمنصب، وهي التي لم تترشح للبرلمان الأوروبي، سيقوض الثقة بالاتحاد الأوروبي ومؤسساته. ثم، وصفتها بأنها «ليست الشخص المناسب» للمنصب بسبب أدائها «السيئ» في وزارة الدفاع، مضيفة أنه كان سيئا لدرجة أنه «من الأفضل أن لو استقالت منذ مدة»!
- مشاكل وزارة الدفاع
وحقاً، فإن المشاكل والفضائح تلاحق أورسولا فون در لايين منذ تسلمها حقيبة وزارة الدفاع قبل 6 سنوات. حتى إنها واجهت مؤخراً دعوات للاستقالة على خلفية فضائح تورّط بها عناصر من الجيش تتراوح بين التحرّش الجنسي والانتماء إلى تنظيمات يمينية متطرفة. وقبل بضعة أشهر، كشف تقرير نشرته مجلة «در شبيغل» أن أعداد الجنود الذين طُردوا من الجيش بسبب انتماءاتهم اليمينية المتطرفة أكبر بكثير من الأرقام التي أعلنتها الحكومة.
وكانت الحكومة قالت إنه جرى طرد 10 جنود بين العامين 2017 و2018، إلا أن تقرير «در شبيغل» أشار إلى أرقام أكبر بكثير. وتحدث أيضا عن تحقيقات جارية بحق ما يقارب 500 عنصر لارتباطهم بجماعات يمينية متطرفة. وعلى خلفية ذلك، وجّه نواب من حزب «دي لينكه» اليساري وحزب «الخضر» انتقادات لاذعة للحكومة ووزارة الدفاع، أبرزها أن مشكلة التطرف داخل الجيش مشكلة «بنيوية» وليست مقتصرة فقط على «بضعة أفراد». ومع ذلك لم تقدم وزارة الدفاع خطة واضحة لمواجهة هذه الاتهامات الخطيرة للجيش الألماني. وفون در لايين نفسها تحدثت عن «مشكلة سلوكيات» لدى البعض في الجيش.
أيضاً، تواجه فون در لايين اتهامات بمخالفة إرشادات منح العقود لشركات خارجية بقيمة مئات الملايين، ومنح عقود لشركات بسبب المحسوبيات من دون طرح دعوة للمناقصات من أجل الحصول على أسعار تنافسية. ومن بين تلك الشركات شركة يعمل أحد أبنائها فيها. ولقد فتحت لجنة برلمانية تحقيقاً في الموضوع قبل بضعة أشهر، وما زال التحقيق مستمراً.
وإلى جانب كل ذلك، تتهم الوزيرة بالفشل في تطوير وزارة الدفاع والمؤسسات التابعة لها، خاصة الجيش الألماني الهرم، رغم الزيادة الكبيرة في الميزانية منذ تسلمها المنصب. وقد أثارت إعادة تأهيل سفينة حربية، مثلاً، ضجة كبيرة بعدما وصلت كلفة تأهيلها إلى 130 مليون يورو بعدما كان التقدير الأولي 10 ملايين يورو فقط.
- مزايا لافتة
على الرغم من كل ما سبق، تتمتع أورسولا فون در لايين بمزايا لافتة جعلت منها المرشحة المفضلة لرئاسة المفوضية الأوروبية. فهي ابنة مدينة بروكسل، لكونها ولدت في العاصمة البلجيكية والأوروبية لأب دبلوماسي، كان من أوائل السياسيين العاملين في المفوضية الأوروبية بعد تأسيسها عام 1958. وبقيت في بروكسل حتى سن الـ12 ما يعني أنها تعلمت الفرنسية حتى باتت تتقنها كلغتها الأم. وإضافة إلى ذلك، فهي تتكلّم أيضاً اللغة الإنجليزية بطلاقة.
أكثر من ذلك، تعتبر فون در لايين من أشد المؤيدين للاتحاد الأوروبي ومشروعه. وهي تتحدث حتى عن «ولايات متحدة أوروبية» أشبه بالولايات المتحدة الأميركية، وتقول إنها تطمح إلى أن يتحوّل الاتحاد الأوروبي إلى ولايات متحدة أشبه بسويسرا و«كانتوناتها» أو ألمانيا و«ولاياتها». ثم إنها تروّج كذلك إلى جانب الفرنسيين، منذ سنتين تقريباً، لفكرة إنشاء «جيش أوروبي موحّد». مع أن هذه فكرة لا تلاقي كثيرا من الترحيب، خاصة من «الناتو» الذي يتخوف من منافسة محتملة وازدواجية في العمل.
ورداً على انتقادات المنتقدين، يدافع كثيرون عن سجلّها في وزارة الدفاع، قائلين إنها ورثت جيشا هرما يصعب تحديثه. وحقاً، لا يعدّ الجيش الألماني أكثر من 180 ألف عنصر، كما أن آلياته العسكرية قديمة ومعظمها غير جاهز للاستخدام بسبب نقص الصيانة أو التقادم. وحسب تقرير صدر في فبراير (شباط) 2018، فإن نصف عدد الدبابات التي يملكها الجيش، فقط، في وضع يسمح بالتشغيل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى 12 هليكوبتر «تايغر» من أصل 50. كما أن الغواصات الـ6 التي تملكها ألمانيا خرجت عن الخدمة. وكتبت مجلة «الإيكونومست» البريطانية أن فون در لايين تُحمّل مسؤولية بطء تأهيل الجيش الألماني «بشكل مجحف»، وأضافت أن «وزيرة الدفاع تقاتل ضد كل أشكال التعطيل في سعيها لتحديث الجيش، وأحد هذه الأشكال معارضة الألمان لزيادة الإنفاق العسكري».
وللعلم، خلال السنوات الأخيرة، تزايدت التحديات أمام الجيش بسبب التزامات برلين في أوكرانيا والعراق وأفغانستان، كذلك تزايدت الانتقادات الأميركية العلنية تحت قيادة الرئيس دونالد ترمب لألمانيا بسبب تلكئها بصرف 2 في المائة من ميزانيتها على الدفاع، كما تنص توصيات «ناتو» للدول الأعضاء. كل هذا دفع الحكومة الاتحادية الألمانية إلى زيادة ميزانية وزارة الدفاع، وفون در لايين إلى محاولة تحديث الجيش كي يتمكن من أداء المهام الجديدة الموكلة إليه.
ولكن رغم شراء معدات عسكرية جديدة، فإن نقص الجنود مشكلة أخرى تقف في وجه القدرة على استكمال التحديث. وبحسب «الإيكونوميست» فإن «المعدات الجديدة التي اشتريت» لا تجد مَن يمكنه استخدامها داخل الجيش. وتضيف المجلة أنه رغم التسهيلات التي تحاول وزارة الدفاع، مؤخراً، تقديمها للألمان لحثهم على الانضمام للجيش، فإن الوظائف العسكرية تبقى غير مستساغة في المجتمع الألماني لأسباب تاريخية. وهنا يشار إلى أن الحكومة تسعى لتوظيف 20 ألف جندي إضافي ليصل عدد الجيش الألماني إلى 200 ألف عنصر.
- سيرة شخصية
على الجانب الشخصي، ومع أن أورسولا فون در لايين انتهت وزيرة للدفاع - حتى الآن - فإنها ما كانت في الأصل تمتلك خبرة تذكر في مجال الدفاع أو الأمن، بل كان تخصصها الطب.
لقد ولدت أورسولا ألبريخت (وهذا هو اسمها الأصلي قبل الزواج) في أكتوبر 1958 في ضاحية إيكسل الراقية بالعاصمة البلجيكية بروكسل. وبعد عودتها لتستقر في ألمانيا درست الاقتصاد في جامعة غوتينغن ثم جامعة مونستر العريقتين بين 1977 و1980. إلا أنها تحوّلت إلى دراسة الطب في معهد هانوفر الطبي حيث تخرّجت طبيبة عام 1987، ومن ثم مارست مهنة الطب في المركز الطبي التابع للمعهد.
عام 1992، توقفت فون در لايين عن العمل في المركز بعدما أنجيت توأمين، ثم انتقلت مع زوجها هايكو فون در لايين البروفسور في الطب إلى الولايات المتحدة حيث عمل هو في جامعة ستانفورد (الشهيرة بولاية كاليفورنيا) وبقيت هي ربّة منزل طوال 4 سنوات. واليوم فون در لايين، المسيحية المحافظة التي تنتمي للكنيسة اللوثرية الإنجيلية، أم لـ7 أولاد.
ومجدداً، بعد العودة من أميركا، عام 1998، رجعت فون در لايين للعمل في هانوفر عام 1998، وأكملت العمل في الوقت نفسه على أطروحة دراسات عليا في الطب العام قدمتها عام 2001. إلا أنها واجهت اتهامات بأن أطروحتها تضمنت نقلاً من كتاب آخرين، ما اضطر الجامعة لفتح تحقيق بالموضوع. لكن اللجنة التي أجرت التدقيق في أطروحتها لم تجد نقلا مهماً، ما يعني أنها برأتها في النهاية.
- طريق السياسة
من ناحية أخرى، مع أن فون در لايين كانت عضوا في حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي منذ أيام دراستها الطب عام 1990، فإنها لم تبد اهتماما بالسياسة إلا عام 1999. وخلال سنتين، أي عام 2001، خاضت غمار السياسة فعلياً على المستوى المحلي في مدينتها هانوفر، عاصمة ولاية ساكسونيا السفلى. وعام 2003 انتخبت نائباً في برلمان ساكسونيا السفلى، وعينت بمنصب وزاري في حكومة الولاية بين عامي 2003 و2005. وفي 2005 انتقلت مع أنجيلا ميركل إلى العاصمة الاتحادية برلين، لتغدو وزيرة لشؤون العائلة والشباب.
وعام 2009، وهو العام الذي شهد انتخابها نائباً في البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) انتقلت لشغل منصب وزيرة للعمل والشؤون الاجتماعية بين 2009 و2013، ثم أسند إليها منذ عام 2013 وحتى اليوم منصب وزيرة الدفاع. مع الإشارة إلى أنها اختيرت نائبة لزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010.