لماذا يقرر قارئ أن يتخلى عن الجديد الذي تدفع به المطابع، ويستدير للوراء ليقرأ كتاباً سبق أن قرأه؟
تتضاعف مشروعية هذا السؤال إذا ما اتفقنا على أن القارئ الشغوف من أكثر البشر وعياً بمحدودية العمر. مع ذلك، يتخلى عن فضول الاكتشاف، ويعود إلى القديم. لا بد أن لدى كل قارئ سبباً أو أسباباً تدفعه إلى تلك العودة.
على الأغلب هو يعود بحثاً عن شيء محدد تركه ذات يوم داخل هذا الكتاب؛ متعة أو فكرة. ربما يعود القارئ إلى ذكرى أيام حلوة كانت قراءة ذلك الكتاب جزءاً من حلاوتها، ويريد أن يبعث الماضي من خلاله، مثلما بعث مارسيل بروست طفولته من خلال مذاق قطعة من حلوى المادلين. البعض يعود لكتاب قديم كتمرين للذاكرة المنهارة ينصح به الأطباء.
وقد نجد في الكتاب ما كنا نبحث عنه، وقد نعود بإحباط الفشل في العثور على ما تركناه بأيدينا بين تلك الصفحات. مع ذلك، لن نرجع من الرحلة خائبين، حيث سنجد أشياء غفلنا عنها في القراءة السابقة، وقد تكون الاكتشافات الجديدة أقيم من ذكرياتنا التي عدنا من أجلها.
بالنسبة لي، عدت إلى «الأبله» مؤخراً لأنني كنت بحاجة لقراءة شيء مضمون المتعة. وبينما أمسح الغبار عن المجلدين، طالعت عبارة دوستويفسكي التي لا أذكر أنني توقفت أمامها في القراءة السابقة؛ العبارة مدونة على الغلاف الأخير لترجمة سامي الدروبي، طبعة دار «رادوغا»، فخر السلطة السوفياتية التي كانت تقتل وتعتقل الكُتَّاب الأحياء وتحتفي بكتب آبائهم الراحلين. لا تفصح الطبعة عن المصدر الذي نقلت عنه عبارات دوستويفسكي هذه: «فكرة الرواية هي فكرتي القديمة المحببة والصعبة إلى درجة أنني ظللت طويلاً لا أجرؤ على تناولها... والفكرة الرئيسية للرواية هي تصوير إنسان رائع تماماً، ولا يوجد شيء أصعب من ذلك في الدنيا، خصوصاً الآن. فكل الكتاب، وليس كتابنا فحسب، بل حتى وجميع الكتاب الأوروبيين الذين حاولوا التصدي لتصوير الإنسان الرائع تماماً، كلهم نكصوا لأن هذه المهمة لا حدود لها، فالرائع هو المثال، والمثال - سواء كان لدينا أم لدى أوروبا المتحضرة - لم يتشكل بعد».
هذه الرغبة المبدئية لدى دوستويفسكي، أو «النية المسبقة»، كانت كشفاً خاصاً في القراءة الجديدة، ولسوف أتوقف كذلك داخل المتن أمام عبارات لم أتوقف أمامها في القراءة الأولى، بينما سأستغرب ما تركه القارئ الشاب من علامات إعجاب بالقلم الرصاص أحياناً، وبالحبر أحياناً أخرى، تحت جمل وفقرات لا يكن لها القارئ الكهل ذلك الاحترام!
ثلاثون عاماً تفصل بين قراءتي الأولى للرواية والقراءة الجديدة. ومن الطبيعي أن يقع هذا الاختلاف بين القارئ الشاب والقارئ الكهل، لكن عقدة الرواية القائمة على العفة الكاملة لم تتبدد بالكامل في عتمة ذاكرة الكهل.
ميشكين الأمير الأبله، ابن السادسة والعشرين، الذي نراه للمرة الأولى في القطار عائداً بعد غياب عن روسيا لمدة أربع سنوات، كان يعالج خلالها من داء الصرع الذي حرمه من إتمام تعليمه. وبالمصادفة، يتحدث مع الشاب «روغوجين» الجالس أمامه في المقعد المقابل، ويتعارفان سريعاً، فيعرف أن روغوجين مهووس بالشابة خارقة الجمال ناستاسيا فيليبوفنا، وسنعرف من هذا اللقاء أن ميشكين سليل عائلة نبيلة منقرضة لم يبقَ منها إلا هو وإليزابيتا بروكوفيفنا، زوجة الجنرال إيبانتشن. السيدة التي يسبغون عليها لقب الجنرالة إلحاقاً بلقب زوجها على الطريقة الروسية لا تعرف ميشكين، ولم تكترث بالعلاقة العائلية التي يزعمها، فلم ترد عليه عندما راسلها من سويسرا. ومع ذلك، يغادر ميشكين القطار، ويتوجه مباشرة إلى بيت الجنرالة. يستقبله خادم بتشكك، لكنه يطمئن إليه، ثم يسلمه إلى السكرتير، قبل أن يــُسمح له بالدخول إلى الجنرال، وينجح في كسب حبه، حتى أنه يقرر إدخاله إلى نساء البيت، فيقع حبه مباشرة في قلب الجنرالة وبناتها الثلاث معاً. هذه الأسرة هي التي ستمنحه لقب أبله، توصيفاً لطريقته الساذجة وصراحته، دون أن تتخلى عن حبه. وسنراه بعد ذلك يسير على قلوب كل من يقابله من الرجال والنساء، كما يمشي المسيح على الماء. وسنلاحظ أن أحداً لم يتشكك في نسبته لعائلة نبيلة، ولا يستطيع القارئ أن يعرف درجة نبالة تلك العائلة التي تسوغ لقب «الأمير» لهذا الشاب غريب الأطوار، خصوصاً أن قريبته يُقال لها الجنرالة إلحاقاً لها بلقب زوجها، وكان الأجدر أن يكون لقبها «الأميرة»، ما دام أنها من العائلة ذاتها التي منحت ميشكين لقب الأمير.
الحب بين ميشكين وكل من يراه ينشب فجأة، وكأننا بصدد انفجار أو اشتعال حريق، ليس وقوعاً من النظرة الأولى، فغالباً ما يكون التشكك والرفض هو الشعور الأول الذي يولده مظهر الأمير المحير، ثم يتحول الموقف في لحظة يسقط فيها الستار لنرى تمثال الحب مكتملاً مبهراً؛ يجري هذا على امتداد الرواية، ابتداءً من دخوله بيت الجنرال إيفان فيدروفيتش إيبانتشن. في بداية المقابلة، بدا الرجل العسكري منزعجاً من ذلك المتطفل رث الثياب الذي اقتحمه دون موعد، لكن أتت لحظة يصورها دوستويفسكي: «فاضت فيها نظرة الأمير لطفاً وبشاشة، حتى أن الجنرال توقف، ونظر إلى ضيفه فجأة بعين جديدة. وقد تحقق كل هذا التحول في نظرته في طرفة عين»، الأمر نفسه حدث مع أسرة الجنرال، وحتى مع ناستاسيا التي اعتبرته خادماً في المرة الأولى التي طالعت فيها وجهه.
لنحمل إعجاب الرجال بالأمير بعيداً عن مجاهل الشهوة، رغم أن السرد في تصويره لانشداه واستلاب الآخرين تجاهه يبلغ أحياناً حداً مذهلاً من التباس الأحاسيس، لكن إقبال النساء عليه يجوس في عتمة هذه الغابة من المشاعر والرغبات. ولا يرفض الأمير حباً مُنح إليه، لكنه لا يقوى على حمله، فيتملص من كل وعد بالخطبة، بسذاجة أحياناً، وبالاختفاء دون تقديم تفسير أحياناً، وبترضيات عقلية متينة الحجة في أحيان أخرى، حفاظاً على الشرط الذي قامت عليه حبكة الرواية: العفة الكاملة.
هذه العقدة أشهر من أن تُنسى مهما وهنت ذاكرة القارئ، لهذا لم يعد الكهل الذي صرت إليه مهتماً بطي الصفحات سريعاً بحثاً عن استقرار الأمير مع واحدة من الجميلات اللائي أغرمن به، مثلما فعل القارئ الشاب ذات يوم.
لقد قام دوستويفسكي بالتأسيس لعفة ميشكين مبكراً؛ في بداية الرواية خلال ثرثرته مع روغوجين في عربة الدرجة الثالثة من القطار الذي أقله إلى بطرسبرغ؛ يسأله روغوجين:
ـ قل لي أولاً، يا أمير، أأنت تحب الجنس اللطيف كثيراً؟
ـ أنا؟ لا! يجب أن أقول لك. لعلك لا تعلم. ولكنني بسبب مرضي الولادي لم أعرف النساء قط.
ـ إذا كان الأمر كذلك، يا أمير، فأنت عبيط حقاً! والله يحب أمثالك!
رغم هذا الكشف المبكر، لا يمكن لقارئ شاب أن يأخذ اعتراف ميشكين على محمل الجد. في الشباب، نحب أن نرى العالم على شاكلتنا، نحب أن يلقى الخيرون الحب الذي نتطلع إليه لأنفسنا. وقد كنت في القراءة الأولى مثل مشاهد السينما الغرير الذي يصرخ محذراً البطل الطيب من الشر المتربص به.
ناستاسيا فيليبوفنا، صاحبة الجمال الصاخب، معذبة رجال وشباب مجتمع بطرسبرغ الراقي، تجثو تحت قدميه؛ الجنرالة إيبانتشين وبناتها الثلاث يقعن في غرامه، لكن هذه السحابة من الأنوثة في بيت إيبانتشين ستتوافق على أن يكون المطر آجلايا الصغيرة الأكثر فتنة بينهن، ويتصرفن على أن خطبته لآجلايا أمر مفروغ منه. وأكاد أهتف به: انجز أيها الأبله! إن كنت تخشى ناستاسيا صاحبة الماضي المعقد مع كافلها ومربيها، فها هي فاكهة بيت إيبانتشين في انتظارك، لا تخذلها!
لكنه لم يفعل. وبقي في قلب كل امرأة بالرواية شيء من الأبله، لكن المصير الأكثر بؤساً كان للفتاتين الأجمل اللتين تعلقتا به تعلقاً جنونياً، فناستاسيا يقتلها روغوجين، وآجلايا تتشرد في باريس مع محتال بولندي، بينما يرتد هو إلى درجة المرض الشديد، ويعود إلى عيادة الدكتور شنايدر، نراه ذاهلاً عن كل شيء، وآخر من نراه يزوره في المصحة، ويتقطع قلبه ألماً عليه، هي إليزابيتا بروكوفيفنا التي تعرف أن مأساة ابنتها تنبع من سحر هذا الشاب الأبله الذي عاش مشفقاً على الآخرين، معتمداً على شفقتهم في الوقت ذاته، وكأنه هبط على ذلك المجتمع المستقر في مسراته الناقصة المضجرة، المتصالح على دناءاته، ليفرض عليه معتقده الخاص الذي تصرح به الرواية نصاً: «الشفقة هي القانون الأساسي، وربما القانون الوحيد الذي يحكم الوجود الإنساني». لكن ما أرادته النساء كان الحب، لا الشفقة؛ لقد أحببنه كرجل، وليس كروح، وقد نبهه روغوجين إلى هذه الحقيقة في لحظة مكاشفة، لكنه حتى النهاية لم يتصرف كرجل؛ ولهذا لم يرَ لحظة سعادة، ولم يمنحها لامرأة.
الأكثر من ذلك، لا توجد لحظة سعادة واحدة يمنحها رجل آخر لامرأة أخرى في الرواية، أو العكس، وكأن الألم - لا الشفقة - هو القانون الأساسي للوجود.
بوسعنا أن نُسمي روايات كثيرة مجيدة بعد «الأبله» تمتثل لنظرية فرويد في التحليل النفسي التي تتحدث عن نزعة تدميرية ينطوي عليها الجنس؛ من رواية د. ه. لورانس «عشيق الليدي شاترلي» إلى نوفيلا توماس مان «الموت في البندقية» ونوفيلا ياسوناري كاواباتا «الجميلات النائمات»، إلى رواية «الوله التركي» لأنطونيو غالا، لكن دوستويفسكي الذي جاء إلى الحياة قبل فرويد بخمسة وثلاثين عاماً يقف في الجانب الآخر تماماً، ليقول إن العفة الكاملة ظلمة يكتنفها الموت ونزعة التدمير.
وبسبب نزعة التدمير هذه، ربما يصعب الحديث عن ميشكين بوصفه «إنساناً رائعاً من كل الوجوه»، لكن روعة الرواية مؤكدة، ولا يمكن الإحاطة بدروسها الجمالية، ولا مراميها الفكرية التي تبدو لا نهائية، ونسميها رواية فحسب لأننا يجب أن نُسمي الأشياء لكي نُقرِّبها من الأذهان، لكن المحيط ليس مجرد لجة من الماء، ولا يتخذ معناه بالكامل إلا لدى من يرتاده، ويرى ظلمة ليله ولحظات الإشراق فوقه، وتوحش حيتانه وموجه العارم المهدِدِ في كل لحظة.
زيارة جديدة لأبله دوستويفسكي
عودة لكتاب قديم
زيارة جديدة لأبله دوستويفسكي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة