ربما بدأ الأدب العربي يشق طريقه نحو العالمية. هكذا فكرت بينما كنت أراقب عن قرب الروائية العمانية جوخة الحارثي بأناقتها العربية الكلاسيكية المحتشمة وهي تعتلي منصة الاحتفال لتسلم الجائزة مع مترجمتها الأميركية أستاذة الأدب في جامعة أوكسفورد مارلين بوث، عقب إعلان رئيسة لجنة التحكيم لجائزة البوكر بنسختها الدولية الدكتورة بيتاني هيوز، فوز رواية سيدات القمر بالجائزة التي تبلغ قيمتها 50 ألف جنيه إسترليني مناصفة بين المؤلفة والمترجمة لعام 2019.
ما الذي جعل رواية نشرت أول مرة عام 2010 ولم تفز بأي جائزة عربية مغرقة في محليتها، تفوز بهذه الجائزة التي تنافست عليها روايات متقنة الحبكة والصنعة الأدبية ومن خمس لغات عالمية بالإضافة إلى العربية وهي على التوالي: الفرنسية والبولندية والألمانية والإسبانية بواقع روايتين؟
توجهت بالسؤال إلى رئيسة لجنة التحكيم مباشرة عقب انتهاء مراسم تسلم الجائزة من قبل الفائزتين، بيتاني هيوز فقالت بأنها قرأت الرواية ثلاث مرات وأنها أحبت كل كلمة فيها وكل شخصيات الرواية لأنها رواية مختلفة وغير مألوفة بالنسبة للقارئ الغربي، «فما أن يبدأ القارئ بصفحاتها الأولى حتى ينفتح أمامه عالم آخر من الدراما المحلية المنسابة بهدوء والتي تدور في قرية من قرى عمان، لكن القارئ سيشعر أنه مرحب به في هذا العالم الهادئ والمستكين، كل ذلك بلغة يختلط بها الشعر والنثر والأمثال الشعبية ووصفات الطب الشعبي وغيرها من التفاصيل الكثيرة». وأضافت بيتاني: «أن عملية اختيار هذه الرواية من بين ست روايات لم تكن عملية سهلة لأن كل الروايات المتنافسة على القائمة القصيرة كانت تتناول ثيمات إنسانية ومكتوبة بتقنية ولغة أدبية عالية، لكننا توصلنا إلى اختيار هذه الرواية بعد تصويت لجنة التحكيم عليها». إنها كما يبدو من كلامها متحمسة جدا لأن «هذه الرواية من منطقة الخليج وآمل أن تتم قراءتها من قبل عدد كبير من القراء وأن تكون الرواية باباً يُفتح على الأدب العربي في تلك المنطقة».
وجوخة الحارثي، أستاذة الأدب العربي في جامعة السلطان قابوس، هي أول روائية عمانية تتم ترجمة ثاني رواياتها الثلاث إلى الإنجليزية وبعنوان مغاير هو (أجرام سماوية)، والروايات على التوالي هي (منامات 2004 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ثم سيدات القمر 2010 عن دار الآداب، ثم نارنجة عن دار إلى داب عام 2016 والرواية الأخيرة فازت بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب لعام 2016). بينما ألفت المترجمة مارلين بوث كتابين وترجمت نتاج عدد من الروائيين العرب منهم حسن داود، رجاء الصانع، عالية ممدوح، هدى بركات ولطيفة الزيات غيرهم. وقد صرحت المترجمة أنها أبقت على بعض المفردات الشعبية العمانية كما جاءت بالنص الأصلي مثل مفردة (فلج) لأنها لم تجد مرادفا لها يعطي ذات المعنى بالإنجليزية.
ومن المصادفات الجميلة في رواية (سيدات القمر) أن إحدى شخصياتها النسائية تدعى لندن البنت التي ستتخرج من كلية الطب وستتجاوز أزمتها العاطفية، وقد أطلقت عليها أمها هذا الاسم لكونها أحبت علي بن خلف الذي قضى سنين الدراسة في لندن، أحبته حبا صامتا شبه صوفي مع كثير من الوعود والابتهالات أثناء صلاتها: «أحلف لك يا ربي أني لا أريد غير رؤيته، بالعرق على جبينه مرة أخرى، بيده على جذع النخلة، بالتمرة يلوكها في فمه» ص6. لكنه لم يلتفت لها، وبقيت صامتة طوال أحداث الرواية. كان صمت ميا وشحوبها هو فعلها المؤثر الذي مارس سطوته على أهلها وزوجها، وحين ضحكت في إحدى الليالي بعد أن سألها زوجها هل تحبه، كانت ضحكتها مفزعة لدرجة كادت تهدم جدران البيت وسببت ذعر الأولاد.
وميا هي أكبر الأخوات التي تدور الرواية عنهن والتي تنفتح حياتهن على حيوات شخصيات أخرى، أسماء التي تحب القراءة، وخولة التي تحب مرآتها، وأمهما سالمة عروس الفلج. الرواية تسرد ذلك القدر الهائل من تفاصيل حياة الناس الفقراء والأغنياء، العقلاء والمجانين، الشيوخ والعبيد، وترتكز بشكل خاص على حياة النساء في تلك القرية، في حقبة زمنية قريبة من تاريخ عمان، حقبة التحول نحو الحداثة والتخلص من تبعات الماضي مثل التجارة بالعبيد وتقرير مصير النساء نيابة عنهن والإشارة إلى قتلهن بمجرد الشك في عفتهن. لكن الرواية أيضا تحكي تلك الحكايات الكثيرة غير المدونة وغير المقروءة والتي قد تكون في طور النسيان أو نُسيت فعلا. وحالما يبدأ تدفق السرد، فإن زخمه الدلالي سيحمل القارئ، عبر شبكة فرعية من الترابطات الاجتماعية والمكانية والزمانية، تتيح لنا الدخول إلى تلك القرية المتخيلة، ونستشعر كيف أن ميا الشاحبة المنكبة على ماكينة خياطتها هربا من وجع روحها بعد قصة حب صامتة، وكيف أن أختها خولة تنتصر لنفسها ولقرارها بالانفصال عن زوجها أخيرا بعد سنوات من انتظار عودته من كندا، ونستشعر تقلبات حياة العبدتين (ظريفة وأمها عنكبوتة) وتأثيرهما القوي في حياة سيديهما. هناك سرد ذكي يتيح لنا قراءة ما لم يُكتب وأحداث نوهت لها الكاتبة ولم تبح بها مباشرة، مثل قصة الحب المختلفة والحرة بين البدوية نجية وزعران والد البنات الثلاث، وقصة الحب التي بقينا نجهل تفاصيلها والتي راحت ضحيتها أم عبد الله زوجة التاجر سليمان مع أحد عبيد الشيخ سعيد. كأننا نطلّ عن بعد على هذه الأحداث ونمارس القراءة البعيدة التي تتيح لنا التركيز على تفاصيل صغيرة جدا في متن السرد، مثل الحلوى التي تحبها ظريفة العبدة وطريقة استعمال أصابعها بالرجرجة عليها، الرمل الذي ينثره عزان عن ملابسه بعد لقائه مع نجية في الصحراء، الشباك الصغير في الغرفة الذي تنادي من خلاله مسعودة على الناس كي تثبت لهم أنها ما تزال على قيد الحياة، البئر ورمزيته في حلم عبد الله بعد أن ماتت ظريفة وحيدة، وعلى تفاصيل أخرى كبيرة مثل الثيمات والمصائر والأجناس والمجازات. لقد أمحت الكاتبة الفوارق بين ذاكرتها الفردية التي عايشتها وبين الذاكرة الجماعية لأهل بلدها، وكشفت بأسلوبها الخاص وسردها المحكم مختلف جوانب الوجود في تلك القرية الصغيرة (العوافي) في المرحلة التاريخية من بداية القرن العشرين إلى سبعينياته وهي فترة مسكوت عنها تقريبا من تاريخ عمان.
تتناوب الأصوات في هذه الرواية بين صوت الراوي العليم وصوت الأنا المباشر الذي يسرده عبد الله ابن التاجر سليمان الذي يأتينا على شكل هذيان مسافر متعب يتطلع من نافذة الطائرة المتجهة نحو فرانكفورت، إلى أعماق روحه في استدعاء حر وتداخل بين الذكريات والأزمنة والشخوص والأمنيات، عبد الله هو الشاهد والمراقب في هذه الرواية على تحولات الناس والقرية نحو أنماط حياتية جديدة. كل ذلك في أسلوب سردي محنك ولغة سهلة لكنها دقيقة، كثيفة، ومكتفية بذاتها في الوصف، وتغترف من الحكايات والميثولوجيا التي سمعتها أو عايشتها الكاتبة، كأنها بتدوينها لتلك الحكايات في سياق الرواية تتضامن مع الموروث الشعبي والتاريخي لبلدها. ورغم ذلك فقد نسجت الكاتبة عالما روائيا محليا متداخلا يصنع أبعاده وتخومه بنفسه، ويتصرف بزمنه وفضائه وشخصياته وبما يحويه من أشياء وأساطير. لقد لبتّ هذه الرواية من خلال كل ذلك وبإبداع شروط وتقنيات وآليات الكتابة الروائية، واستحقت هذا الفوز الأدبي الكبير.
رئيسة لجنة التحكيم لـ «الشرق الأوسط» أحببت كل كلمة في الرواية
فوز العمانية جوخة الحارثي بـ «بوكر الدولية» يثير ردود أفعال مختلفة
رئيسة لجنة التحكيم لـ «الشرق الأوسط» أحببت كل كلمة في الرواية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة