التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

كتاب جديد يؤكد مساهمتها في النمو الاقتصادي وإنشاء نظام للابتكار

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً
TT

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

تصدرت صناعة الثقافة وسبل تنميتها منظومة التغيرات الكبرى في الصين التي جذبت اهتمامات كثير من الباحثين والخبراء في كل أنحاء العالم، بعد ما شهدته من قفزات هائلة منذ تأسيسها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1949 وحتى الآن، وقد صاحب هذه النهضة عمل بحثي لتفسير المعجزة الصينية من قبل مفكرين غربيين وأميركيين، لكن علماء الصين وباحثيها، لم يتركوا الساحة خالية لتفسير تجربتهم، فقد ظهرت مساهمات لأصحاب التجربة نفسها، سعت لتفسير ما جرى، وتوضيح أسراره، ومن هؤلاء الكاتبان وو لي، ووانغ لاي، اللذان أصدرا كتابا عام 2015 بمناسبة مرور 65 عاما عن انطلاقة الجمهورية الصينية، ومسيرتها نحو التقدم.
الكتاب الذي صدر حديثا في القاهرة، بطبعة مشتركة عن دار الحكمة الصينية وكنوز المصرية، وترجمه الباحث المصري محمد ماهر بسيوني، يحاول أن يستقصي رحلة دولة حولها أبناؤها من مجتمع فقير ضعيف ممزق، نصف مُستعمَر ونصف إقطاعي إلى قوة عظمى مزدهرة ذات سياسات واضحة، ومجتمع مستقر، وكيان اقتصادي يصنف الثاني عالمياً، فضلاً عن ارتفاع الدخل الفردي لأكثر من 6500 دولار أميركي، منذ عام 2013.
وتحقق هذه الإنجازات جاء رغم عجز الموارد الفردية والاستئثار برأس المال، وقد سعى المؤلفان إلى الكشف عن الوقائع البارزة والإخفاقات والإنجازات التي مرت في تاريخ بلديهما، وكانت سببا في تشكل صورتها التي يعرفها العالم الآن.
أهم الأسرار التي كشف عنها الكتاب كانت في الجانب الثقافي الذي تم اعتماده لوصول الصين إلى ما وصلت إليه، ففي أكتوبر عام 1996 بدأ السعي لتقوية التقدم في هذا المجال وتسليح الناس بالنظريات العلمية، وإلهامهم بالأعمال المتميزة والانضباط الذاتي، ما ساعد على توفير مناخ ملائم لمواصلة تعميق الإصلاح والتعجيل بالتنمية.
وذكر المؤلفان أنه في عام 2000 تم اقتراح مفهوم جديد لـ«صناعة الثقافة» تم على أساسه تقسيمها إلى مشاريع ثقافية وصناعة ثقافية، لضمان ازدهار ثقافة الصينيين، وتلبية احتياجاتهم في ظل ظروف اقتصاد السوق. مع التشديد على الدور الأساسي له في التخصيص الرشيد للموارد الثقافية.
وفي عام 2006، صدرت الخطوط العريضة لخطة تنمية الثقافة الوطنية، وزاد الإنفاق الحكومي على المشاريع الثقافية والصناعة زيادة كبيرة. وبلغت النفقات الثقافية والرياضية والإعلامية المصروفة من التمويل العام الوطني 68.5 مليار يوان في عام 2006، وارتفعت بنسبة 23 في المائة في المتوسط كل عام خلال الخطة الخمسية.
وبعد ثلاثة أعوام تم إقرار أول تخطيط متخصص لإعادة تنشيط الصناعة الثقافية لتصبح واحدة من الصناعات الاستراتيجية للبلاد. كما تم طرح مفهوم الصناعة الثقافية كركيزة في الاقتصاد الوطني، وفي عام 2012 تجاوز إنتاجها الإجمالي 4 تريليونات يوان، الدولار الأميركي يساوي 7 يوان تقريبا.
وحققت الكيانات الاعتبارية للصناعة الثقافية قيمة مضافة بلغت 1.807.1 مليار يوان تمثل 3.48 في المائة من إجمالي الناتج المحلى بزيادة 16.5 في المائة عن العام السابق. كما أسهمت الصناعة الثقافية بنسبة 5.5 في المائة من النمو الاقتصادي الإجمالي في ذلك العام. وتم طرح فكرة إنشاء نظام وطني للابتكار، يوفر ضمانا مؤسسيا فعالا لتسويق وتصنيع إنجازات التكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا الجديدة وتغيير وضع البلد المنخفض في سلسلة القيمة الصناعية العالمية. وصدر في عام 2006، برنامج متوسط وطويل الأجل هدفه تطوير العلوم والتكنولوجيا وتعزيز القدرة على الابتكار، مع زيادة استثمارات البحث والتطوير بأكثر من 20 في المائة سنويا، ففي الفترة من 2006 إلى 2011، ارتفعت من 300 مليار يوان إلى 861 مليار يوان، وارتفعت نسبتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.83 في المائة من 1.42 في المائة، لتحتل المرتبة الثالثة في العالم وفي عام 2013 بلغت نفقات البحث والتطوير 1190.6 مليار يوان، وارتفعت نسبة الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.09 في المائة.
وزاد عدد الموهوبين في العلوم والتكنولوجيا ليبلغ 57 مليون عالم ومبتكر لتحتل الصين المرتبة الأولى في العالم، وتواكب العالم في توحيد تكنولوجيا النانو، ومجال الاستشعار عن بعد في الفضاء، وأمن المعلومات، والمعدات البحرية، ومواد ألياف الكربون، كما قامت بتطوير كومبيوتر عملاق قادر على إكمال 2.57 مليون مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة، محتلا المرتبة الأولى في العالم.
وعلى جانب آخر يحكي مؤلفا الكتاب قصة الصين بداية من فترة ما قبل عام 1949 عندما كانت نصف المُستعمَرة ونصف الإقطاعية موصومة بالفقر المدقع، والفساد السياسي، والعوز الاقتصادي، والمجتمع الفوضوي. وظهور أباطرة الحرب المتناحرين بعد «ثورة شينهاي» عام 1911، وتوحيد الصين اسمياً من قبل الكومينتانغ، وسيطرة رأس المال الأجنبي والرأسمالية الحكومية والوطنية على الصناعات الرئيسية والتجارة والموارد المالية.
ولفت الكتاب إلى أن حكومة الكومينتانغ في نانجينغ كانت تعمل لمصلحة طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية، لكن تأسيس الجمهورية أنهى قرناً من الحروب، وقوض أركان المجتمع الاستعماري الإقطاعي الذي استمر منذ عام 1840 (العام الذي اندلعت فيه حرب الأفيون الأولى)، ووضع الأمة على مسار قوي، وغير المخطط السياسي والاقتصادي العالمي.
وتحدث الكتاب في الشأن الاقتصادي عن أسس الملكية، ونظام إقامة وتطوير القطاعات الاقتصادية المتعددة، وإرساء قاعدة «التخصص والتعاون وكل شيء في موضعه»، والمزج بين إدارة التخطيط الحكومية وضوابط السوق؛ ومراعاة المصالح العامة والخاصة على السواء، والتعاون المشترك بين مناطق الحضر والريف، وتنفيذ شعار «الأرض لمن يزرعها».
ولفت وو لي ووانغ لاي إلى أن الشركات التي أنشأتها الصين بعد مصادرة ممتلكات الرأسمالية الحكومية، أسهمت في شق شريان الحياة الاقتصادي في البلاد، وركزت أساساً على مجالات مثل الصناعة الحديثة والنقل والتمويل والتجارة الخارجية. أما فيما يتعلق بالشركات المملوكة للقطاع الخاص والتي كانت منتشرة على نطاق واسع في مناطق الحضر والريف، فقد اعتمدت الحكومة سياسات حماية الصناعة والتجارة الوطنية، وتشجيع المشاريع والعمليات التي يمكن أن تفيد الاقتصاد.
وقال وو لي ووانغ لاي إن الصين فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي، محت الصفوة الفاسدة التي كانت بمثابة طفيليات اجتماعية ترعى في ظل الاقتصاد الإقطاعي، ودشنت قوانين الإصلاح الزراعي؛ وقضت على العصابات المتفشية التي تشكلت على مدى فترة طويلة، من خلال الإصلاح الديمقراطي الحضري، وطهرت المجتمع من العادات الخبيثة والرذائل، مثل تعاطي المخدرات، والبغاء، والميسر، واتخاذ المحظيات. وبهذه الطريقة، اتخذ العقد الاجتماعي والقيم والنسق الروحي للشعب منحى مغايراً تماماً لما كان يحدث قبل ما يقرب من سبعين عاما.
وتحدث الكتاب عن السياسة الخارجية الصينية، ونص البرنامج العام الذي يشير صراحة إلى مبادئ السياسة الخارجية السلمية، وحماية الاستقلال الوطني والحرية ووحدة الإقليم، والدعوة للسلام الدائم والصداقة والتعاون الدوليين، ومجابهة سياسات العدوان والحرب الاستعمارية. وإلغاء امتيازات الدول الاستعمارية هناك. والاستعداد لإقامة علاقات دبلوماسية والتعاون مع أي دولة أخرى تلتزم بمبادئ المساواة والمنفعة المشتركة والاحترام المتبادل للسيادة الإقليمية.
وخصص الكتاب جزءا منه للحديث عن، تطوير التعليم بسرعة، وتحسن مستوى التعليم الأساسي بشكل ملحوظ. فقد اتصفت الصين القديمة بالتخلف التعليمي وانتشار الأمية. وبعد تأسيس الجمهورية، ازدهرت قضية التعليم... وقد راكم التطور السريع للتعليم الأساسي خلال هذه الفترة ثروة من رأس المال البشري من أجل التنمية الاقتصادية السريعة، بعد أن بدأ الإصلاح والانفتاح في عام 1978.



مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة