«حوثنة» التعليم العالي في اليمن... فساد وتمويل للمجهود الانقلابي

أكاديميون لـ «الشرق الأوسط»: الميليشيات تتحكم في المساقات الدراسية والتسجيل والفعاليات

يمنيون في المدينة القديمة بصنعاء (أ.ف.ب)
يمنيون في المدينة القديمة بصنعاء (أ.ف.ب)
TT

«حوثنة» التعليم العالي في اليمن... فساد وتمويل للمجهود الانقلابي

يمنيون في المدينة القديمة بصنعاء (أ.ف.ب)
يمنيون في المدينة القديمة بصنعاء (أ.ف.ب)

تتردد يسرى ناصر رفقة أمها الطاعنة في السن على وزارة التعليم العالي الخاضعة لسيطرة ميليشيات الحوثي في صنعاء منذ ثلاثة أشهر من أجل الحصول على توجيه لاستكمال دراستها الجامعية، لكنها اصطدمت بصلف المسؤولين الحوثيين.
تقول يسرى لـ«الشرق الأوسط»: «أوقفت دراستي بالجامعة لمدة سنتين لظروف قاهرة، وعندما أردت العودة لإكمال دراستي قالوا لي بالجامعة لا بد من توجيه من الوزارة، وها أنذا أذرع الأرض جيئة وذهاباً منذ ثلاثة أشهر لمجرد السماح باستكمال دراستي وليس للحصول على منحة داخلية من المنح التي باتت لأتباع الجماعة فقط».
ويوضح أكاديميون بصنعاء لـ«الشرق الأوسط» بأن «الجامعات الحكومية والخاصة الواقعة تحت قبضة الميليشيات الحوثية تعاني من ابتزاز ونهب منظم؛ إذ تتحكم الميليشيات بعملية التسجيل وإقرار المساقات الدراسية والإشراف على الأنشطة والفعاليات عبر وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات».
وأوجدت هيمنة الميليشيات على الجامعات - بحسب الأكاديميين - حالة من التلاعب «ساهمت في انتشار الوساطات والمحسوبيات وزيادة الضغوط الاجتماعية، ونهب المال العام وابتزاز الجامعات الخاصة بإتاوات دون وجه حق واستغلال العملية التعليمية برمتها لخدمة الميليشيات».
ويؤكد عيبان القدسي، في مالية الوزارة «أن إيرادات وزارة التعليم العالي تزيد على خمسة مليارات ريال يمني (الدولار يساوي نحو 500 ريال) من الجامعات الحكومية والخاصة والتي تزيد على 20 جامعة، في حين تبلغ الإيرادات من جامعة صنعاء وحدها فقط ثلاثة مليارات ريال في السنة ما بين رسوم امتحان قبول، ورسوم تسجيل وقيمة البطاقة، وكذلك رسوم المسجلين في نظام التعليم الموازي التي تدفع بالعملة الصعبة».
وتضم جامعة صنعاء على سبيل المثال أكثر من 124 تخصصاً، وهي تخصصات متوزعة في 14 كلية في المقر الرئيسي بصنعاء، و10 كليات فرعية، ويصل عدد الطلاب فيها إلى 150 ألف طالب وطالبة.
ويستغرب محمد الشرفي، وهو موظف في رئاسة الجامعة، من عدم صرف جماعة الحوثي رواتب الأكاديميين في الوقت الذي يبلغ دخل الوزارة من الجامعات الحكومية مليارات الريالات، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إيرادات الجامعة تكفي لتغطية رواتب الهيئة التدريسية والموظفين، لكن نفاجأ بعدم صرفها، وحتى النفقات التشغيلية تم إيقافها، فأين يذهبون بكل هذه الأموال؟!».
ويفرض مركز تقنية المعلومات (البوابة الإلكترونية) الخاضعة للميليشيات في صنعاء على كل طالب 1000 ريال رسوم تسجيل لكل عام جديد، وكذلك 500 ريال لمجلس الاعتماد الأكاديمي على كل طالب في كل عام، إلى جانب الرسوم المعتمدة.
ويقول قاسم سرور، وهو موظف في نيابة شؤون الطلاب بجامعة أروى: «لا تعترف الوزارة بالرسوم التي تدفع لمركز المعلومات (البوابة الإلكترونية)، ولا تريد التعامل بها وتريد التسجيل يدوياً، وتفرض رسوم قيمة استمارة تسجيل بألف ريال على كل طالب، والاستمارة تعتبر خاصة بالوزارة».
ويضيف سرور: «قامت الوزارة التابعة للانقلابيين بإخضاع الجامعات الخاصة عبر التهديد بسحب الترخيص، كما تطلب مبالغ مالية إلى جانب فرض توظيف 5 في المائة من الكادر بالجامعة من الميليشيات».
من جهته، يؤكد إسماعيل السنافي، وهو مسؤول مالي بجامعة أروى «أن المبالغ التي تقوم بصرفها الجامعات للوزارة في متابعة وتسهيلات للمعاملات هي أضعاف مبالغ الرسوم الرسمية التي تدفع للوزارة».
ويسترسل السنافي: «فرضت ميليشيات الحوثي الانقلابية تخصيص المنح الدراسية الداخلية لأبناء وبنات القيادات السلالية مجاناً، علاوة على فرض مبالغ مالية كبيرة دعماً لمجهودها الحربي».
أمين السياغي، الموظف بجامعة العلوم الحديثة، يقول: «تفرض الوزارة الحوثية على الجامعات منحاً مجانية إلى جانب فرضها 5 في المائة من المنح المعتمدة لموظفي الوزارة، ومع ذلك لا يتم الالتزام بالنسبة المقررة، بل يتم فرض أكثر من 35 في المائة من الطلاب منحاً، ويتم احتسابهم من الطاقة الاستيعابية المعتمدة للجامعة في الوزارة».
ويضيف السياغي: «لا نستطيع أن نأخذ من الطلبة الحوثيين رسوم الوزارة أو البوابة الإلكترونية أو رسوم الاعتماد الأكاديمي، وقد تم إرسالهم إلينا بمنح تحت مسميات عدة، منها المجاهدون أو أبناء الشهداء أو النازحون».
ويرى الدكتور محمد إسحاق «أن هذا الابتزاز من قبل ميليشيات الحوثي الانقلابية أدى إلى تحويل أعلى هرم تعليمي (الجامعات) بمختلف تخصصاتها إلى منصات طائفية ومكان لأساليب النهب وللحشد والتعبئة إلى الجبهات عبر جماعات طلابية ومشرفين ودكاترة، من السلالة تفرضهم الميليشيات».
ووفق إسحاق «تلزم ميليشيات الحوثي الجامعات اليمنية بإدخال مواد تعليمية جديدة وتدرسيها في جميع الكليات والجامعات الخاضعة لسيطرتها مثل مقرر (الثقافة الإسلامية) المعدل طائفياً، ومواد تربوية وأخرى تاريخية وأدبية تمحو وتزيف كل تاريخ القرن العشرين، حيث تتضمن مواد فكرية ومنهجية حوثية مستوردة من إيران».
وينتقد عبد الله القيسي، موظف في العلاقات العامة برئاسة جامعة صنعاء، ما وصلت إليه حال الجامعة قائلاً: «يواجه الدكتور أو الموظف الجامعي القمع والاعتداءات والملاحقات وقطع الراتب، وصولاً إلى الاختطاف أو القتل في حالة اعترض على بعض الممارسات أو طالب براتبه».
ويضيف القيسي: «كذلك هو وضع الطالب الجامعي فنصيبه من الانتهاكات الحوثية لا يقل عن المدرس؛ إذ تعرض العشرات منهم إلى الضرب والملاحقات والتحقيقات، والاختطافات للطلاب والطالبات على السواء».
وفي ظاهرة مخزية تتنافى مع عادات وتقاليد المجتمع اليمني، تعرض سكن الطالبات التابع لجامعة صنعاء إلى اقتحامات عدة من قبل (نسوة الميليشيات الانقلابية)، وقمن بتفتيش غرف الطالبات والعبث بأغراضهن الشخصية، وتهديدهن بالاختطاف في حال قمن بأي انتقاد.
ويوضح الدكتور سامي الشوافي «تتعامل ميليشيات الحوثي الانقلابية مع الجامعات الحكومية بإقصاء الكوادر الوطنية في قيادة الجامعات والكليات ورؤساء الأقسام وجميع الموظفين في المواقع المهمة بآخرين من أتباعها».
ويكشف عامر يحيى، المعيد بكلية التربية «تعمد الميليشيات الحوثية في الجامعات الحكومية إلى التحكم في كونترول الكلية، وممارسة التزوير في نتائج الطلبة الراسبين من عناصرها».
ويضيف يحيى «تم تغيير المسؤولين الماليين والمحصلين في كل الكليات، واستبدالهم بأشخاص من جماعة الحوثي حتى لو كان غير موظف في الجامعة؛ إذ يورد كل ما يتم تحصيله إلى الميليشيات وتحصيل أموال من الطلبة تحت اسم أنشطة ومساهمات ومشاركة، وتحصيلها بسندات مزورة». ويردف «قامت جماعة الحوثي بتغيير أسماء القاعات إلى أسماء مقاتليهم وقادتهم السلاليين».
وكان قد صرح حسين حازب، المعين من قبل الميليشيات وزيراً للتعليم العالي، لوسائل إعلام محلية الشهر الماضي (أبريل/نيسان)، بأن بعض الجامعات الأهلية عمرها أكثر من 20 سنة ولا يوجد لديها تصريح قانوني ولم ترتب أوضاعها، وتوعد بأنه لن يتم الاعتراف بها ولا بوثائق مخرجاتها، في تلميح لعملية ابتزاز قادمة سوف تتم عبر مجلس الاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم العالي الخاضع للجماعة.
ويصف حسن الرضي، وهو موظف في جامعة صنعاء، إعلان الميليشيات الحوثية اعتماد 2020 عاماً للاعتماد العالمي للشهادات الجامعية، بأنه إعلان أجوف هدفه استغلال التعليم العالي والطالب والعملية التعليمية برمتها، وإيجاد مصادر مالية للجماعة تدعم بها المجهود الحربي وتمول أنشطتها الطائفية.
ويشير محمد الشرع، وهو موظف بجامعة المستقبل، إلى معاناة الجامعات الخاصة من الوزارة الحوثية، بقوله «نحن نعاني من الوزارة؛ إذ يولد الصراع والانقسام الحاصل بين المسؤولين الحوثيين ازدواجية في القرارات والتوجيهات حتى وصل الأمر إلى أن الجامعات الأهلية تتلقى قرارين وتوجيهين، كل واحد يناقض الآخر وينفيه فنصاب بالحيرة».
وعند فتح تخصص جديد في الجامعات الأهلية تقول الدكتورة أسماء المغلس «يصدر الوزير الحوثي قراراً بفتح تخصصات جديدة لبعض الجامعات بعد استكمال الإجراءات القانونية ونزول لجان للتقييم والموافقة وتسديد الرسوم المستحقة لذلك، لكن نفاجأ بأن الوكيل الحوثي في الوزارة نفسها يرفض الإجراء ويلغي القرار».
وينفي حامد العودي وجود أي إدارة مؤهلة بوزارة التعليم الحوثية تلبي متطلبات واحتياجات الجامعات حتى بأقل المعايير. ويقول: «توجد شهية مفتوحة لابتزاز الجامعات ونهبها»، ويسترسل العودي: «تعاني الجامعات الخاصة من انتهازية الوزارة؛ إذ تكلف لجاناً للنزول كل شهر للجامعات، ولا يوجد مبرر قانوني لهذه اللجان وكل فترة تحت أي مسمى حتى أصبحت الجامعات الخاصة لا تبحث عن التطوير العلمي والجودة، وإنما عن رضا الوزارة الحوثية والنافذين فيها».
ويفصح مراد المقدم، وهو مندوب الجامعة اللبنانية لدى الوزارة «كل غالبية مسميات اللجان متكررة والهدف نفسه والوثائق نفسها، وتختلف مطالب كل لجنة عن تابعتها، فبعضها تستعلم عن الأنشطة والأخرى عن الطلاب الذين يحضرون ومرة يريدون مقاعد إضافية لأبناء القتلى، وكل هذه اللجان تريد مبالغ مالية».
ويضيف «مع كل هذا الابتزاز لا تستطيع الجامعة أن ترفض؛ فسيتم ابتزازها بالكثير من الأساليب منها إنزال لجان أو حذف تخصصاتها من البوابة الإلكترونية ولا تستطيع تسجيل أي طالب أو يتم إصدار قرار بإغلاقها أو التشهير بها عبر وسائل الإعلام».
أم أنور، مسؤولة الأنشطة بجامعة العلوم والتكنولوجيا للبنات، تقول: «يتم إلزام الجامعات بتحمل نفقات الأنشطة والفعاليات التي تسعى إلى حشد الطلاب، ومن ثم الدفع بهم نحو الجبهات، وتتم تسمية الفعاليات تحت شعار تطوير جودة التعليم، وتشمل ندوات فكرية وثقافية وإقامة الكثير من المحاضرات والتجمعات والمنتديات الطلابية».
وتتهم الجامعة التي لا ترعى أنشطة الميليشيات - وفق أم أنور - بأنها «تمارس أنشطة مشبوهة في الداخل لتدريس الفكر التكفيري».
ويقول سيف الطيب، أحد موظفي وزارة التعليم العالي: «إن معايير تصنيف معايير الجودة قائمة على مقدار المال الذي تدفع الجامعة إما للوزارة أو لدعم المجهود الحربي، بالإضافة إلى احتساب عدد الملتحقين بالجبهات من هذه الجامعة وعدد الشهداء في الجامعة، سواء أكانوا طلاباً أو مدرسين، إلى جانب حجم الأنشطة التي تسخّرها الجامعة لعملية حشد الطلاب».
ويؤكد ناصر حميد، موظف بكلية الآداب «أن الحوثي عمد لهدم التعليم؛ لأنه يعتبر العمود الفقري في داخل المجتمعات، ويريد إعادة اليمن إلى عصور الظلام والفتن والجهل لتكون مواقع سيطرة الحوثيين منطلقاً للإرهاب في كل أنحاء المعمورة، بعد أن سيطر على كل وسائل الإعلام وكمّم أفواه المنصفين ونشر أفكاره التدميرية».
ويضيف «إن سحب عملية التنسيق والقبول في الجامعات الحكومية والخاصة إلى التعليم العالي هدفه الاستحواذ على العائد من التسجيل وإيجاد قواعد بيانات ومعلومات عن جميع الطلاب المسجلين لتسهيل القبض على بعضهم واتهامهم بأنهم مرتزقة (موالون للشرعية)».


مقالات ذات صلة

القوات المسلحة اليمنية: قادرون على تأمين الممرات المائية الاستراتيجية وعلى رأسها باب المندب

المشرق العربي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني ومحافظ مأرب ورئيس هيئة الأركان خلال زيارة سابقة للجبهات في مأرب (سبأ)

القوات المسلحة اليمنية: قادرون على تأمين الممرات المائية الاستراتيجية وعلى رأسها باب المندب

أكدت القوات المسلحة اليمنية قدرة هذه القوات على مواجهة جماعة الحوثي وتأمين البحر الأحمر والممرات المائية الحيوية وفي مقدمتها مضيق باب المندب الاستراتيجي.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
العالم العربي العام الماضي كان قاسياً على اليمنيين وتضاعفت معاناتهم خلاله (أ.ف.ب)

اليمنيون يودّعون عاماً حافلاً بالانتهاكات والمعاناة الإنسانية

شهد اليمن خلال العام الماضي انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وتسببت مواجهات البحر الأحمر والممارسات الحوثية في المزيد من المعاناة للسكان والإضرار بمعيشتهم وأمنهم.

وضاح الجليل (عدن)
العالم العربي أطفال جندتهم الجماعة الحوثية خلال 2024 في وقفة تحدٍ لتحالف الازدهار (غيتي)

تحالف حقوقي يكشف عن وسائل الحوثيين لاستقطاب القاصرين

يكشف تحالف حقوقي يمني من خلال قصة طفل تم تجنيده وقتل في المعارك، عن وسائل الجماعة الحوثية لاستدراج الأطفال للتجنيد، بالتزامن مع إنشائها معسكراً جديداً بالحديدة.

وضاح الجليل (عدن)
شؤون إقليمية أرشيفية لبقايا صاروخ بالستي قال الجيش الإسرائيلي إنه أطلق من اليمن وسقط بالقرب من مستوطنة تسور هداسا (إعلام إسرائيلي)

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن

قال الجيش الإسرائيلي في ساعة مبكرة من صباح اليوم (السبت)، إن الدفاعات الجوية الإسرائيلية اعترضت صاروخاً أطلق من اليمن.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
الخليج جانب من مؤتمر صحافي عقده «فريق تقييم الحوادث المشترك» في الرياض الأربعاء (الشرق الأوسط)

«تقييم الحوادث» في اليمن يفنّد عدداً من الادعاءات ضد التحالف

استعرض الفريق المشترك لتقييم الحوادث في اليمن عدداً من الادعاءات الموجهة ضد التحالف، وفنّد الحالات، كلٌّ على حدة، مع مرفقات إحداثية وصور.

غازي الحارثي (الرياض)

هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
TT

هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

أثارت تقارير عن تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري (HMPV) في الصين قلقاً متزايداً بشأن إمكانية تحوله إلى وباء عالمي، وذلك بعد 5 سنوات من أول تنبيه عالمي حول ظهور فيروس كورونا المستجد في ووهان بالصين، الذي تحول لاحقاً إلى جائحة عالمية أسفرت عن وفاة 7 ملايين شخص.

وأظهرت صور وفيديوهات انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي في الصين أفراداً يرتدون الكمامات في المستشفيات، حيث وصفت تقارير محلية الوضع على أنه مشابه للظهور الأول لفيروس كورونا.

وفي الوقت الذي تتخذ فيه السلطات الصحية تدابير طارئة لمراقبة انتشار الفيروس، أصدر المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بياناً، يوضح فيه معدل الوفيات الناتج عن الفيروس.

وقال المركز، الجمعة، إن «الأطفال، والأشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، وكبار السن، هم الفئات الأكثر تعرضاً لهذا الفيروس، وقد يكونون أكثر عرضة للإصابة بعدوى مشتركة مع فيروسات تنفسية أخرى».

وأشار إلى أن الفيروس في الغالب يسبب أعراض نزلات البرد مثل السعال، والحمى، واحتقان الأنف، وضيق التنفس، لكن في بعض الحالات قد يتسبب في التهاب الشعب الهوائية والالتهاب الرئوي في الحالات الشديدة.

وحاولت الحكومة الصينية التقليل من تطور الأحداث، مؤكدة أن هذا التفشي يتكرر بشكل موسمي في فصل الشتاء.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، الجمعة: «تعد العدوى التنفسية شائعة في موسم الشتاء»، مضيفةً أن الأمراض هذا العام تبدو أقل حدة وانتشاراً مقارنة بالعام الماضي. كما طمأنت المواطنين والسياح، مؤكدة: «أستطيع أن أؤكد لكم أن الحكومة الصينية تهتم بصحة المواطنين الصينيين والأجانب القادمين إلى الصين»، مشيرة إلى أن «السفر إلى الصين آمن».

فيروس «الميتانيمو» البشري

يُعد «الميتانيمو» البشري (HMPV) من الفيروسات التي تسبب التهابات الجهاز التنفسي، ويؤثر على الأشخاص من جميع الأعمار، ويسبب أعراضاً مشابهة للزكام والإنفلونزا. والفيروس ليس جديداً؛ إذ اكتُشف لأول مرة عام 2001، ويُعد من مسببات الأمراض التنفسية الشائعة.

ويشير أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة «مصر الدولية»، الدكتور إسلام عنان، إلى أن نسبة انتشاره تتراوح بين 1 و10 في المائة من الأمراض التنفسية الحادة، مع كون الأطفال دون سن الخامسة الأكثر عرضة للإصابة، خاصة في الحالات المرضية الشديدة. ورغم ندرة الوفيات، قد يؤدي الفيروس إلى مضاعفات خطيرة لدى كبار السن وذوي المناعة الضعيفة.

أفراد في الصين يرتدون الكمامات لتجنب الإصابة بالفيروسات (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الفيروس ينتشر على مدار العام، لكنه يظهر بشكل أكبر في فصلي الخريف والشتاء، ويمكن أن يُصاب الأشخاص به أكثر من مرة خلال حياتهم، مع تزايد احتمالية الإصابة الشديدة لدى الفئات الأكثر ضعفاً.

وأوضح أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي الناتج عن السعال أو العطس، أو من خلال ملامسة الأسطح الملوثة ثم لمس الفم أو الأنف أو العينين. وتشمل أعراضه السعال واحتقان الأنف والعطس والحمى وصعوبة التنفس (في الحالات الشديدة)، وتُعد الأعراض مختلفة عن فيروس كورونا، خاصة مع وجود احتقان الأنف والعطس.

هل يتحول لجائحة؟

كشفت التقارير الواردة من الصين عن أن الارتفاع الحالي في الإصابات بالفيروس تزامن مع الطقس البارد الذي أسهم في انتشار الفيروسات التنفسية، كما أن هذه الزيادة تتماشى مع الاتجاهات الموسمية.

وحتى الآن، لم تصنف منظمة الصحة العالمية الوضع على أنه حالة طوارئ صحية عالمية، لكن ارتفاع الحالات دفع السلطات الصينية لتعزيز أنظمة المراقبة.

في الهند المجاورة، طمأن الدكتور أتول غويل، المدير العام لخدمات الصحة في الهند، الجمهور قائلاً إنه لا داعي للقلق بشأن الوضع الحالي، داعياً الناس إلى اتخاذ الاحتياطات العامة، وفقاً لصحيفة «إيكونوميك تايمز» الهندية.

وأضاف أن الفيروس يشبه أي فيروس تنفسي آخر يسبب نزلات البرد، وقد يسبب أعراضاً مشابهة للإنفلونزا في كبار السن والأطفال.

وتابع قائلاً: «لقد قمنا بتحليل بيانات تفشي الأمراض التنفسية في البلاد، ولم نلاحظ زيادة كبيرة في بيانات عام 2024».

وأضاف: «البيانات من الفترة بين 16 و22 ديسمبر 2024 تشير إلى زيادة حديثة في التهابات الجهاز التنفسي الحادة، بما في ذلك الإنفلونزا الموسمية، وفيروسات الأنف، وفيروس الجهاز التنفسي المخلوي (RSV)، و(HMPV). ومع ذلك، فإن حجم وشدة الأمراض التنفسية المعدية في الصين هذا العام أقل من العام الماضي».

في السياق ذاته، يشير عنان إلى أن الفيروس من الصعب للغاية أن يتحول إلى وباء عالمي، فالفيروس قديم، وتحدث منه موجات سنوية. ويضيف أن الفيروس لا يحمل المقومات اللازمة لأن يصبح وباءً عالمياً، مثل الانتشار السريع على المستوى العالمي، وتفاقم الإصابات ودخول المستشفيات بكثرة نتيجة الإصابة، وعدم إمكانية العلاج، أو عدم وجود لقاح. ورغم عدم توافر لقاح للفيروس، فإن معظم الحالات تتعافى بمجرد معالجة الأعراض.

ووافقه الرأي الدكتور مجدي بدران، عضو «الجمعية المصرية للحساسية والمناعة» و«الجمعية العالمية للحساسية»، مؤكداً أن زيادة حالات الإصابة بالفيروس في بعض المناطق الصينية مرتبطة بذروة نشاط فيروسات الجهاز التنفسي في فصل الشتاء.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الصين تشهد بفضل تعدادها السكاني الكبير ومناطقها المزدحمة ارتفاعاً في الإصابات، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تحول الفيروس إلى تهديد عالمي. وحتى الآن، تظل الإصابات محلية ومحدودة التأثير مقارنة بفيروسات أخرى.

وأوضح بدران أن معظم حالات فيروس «الميتانيمو» تكون خفيفة، ولكن 5 إلى 16 في المائة من الأطفال قد يصابون بعدوى تنفسية سفلى مثل الالتهاب الرئوي.

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

وأكد أنه لا توجد تقارير عن تفشٍّ واسع النطاق للفيروس داخل الصين أو خارجها حتى الآن، مشيراً إلى أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي والاتصال المباشر، لكنه أقل قدرة على الانتشار السريع عالمياً مقارنة بكوفيد-19، ولتحوله إلى جائحة، يتطلب ذلك تحورات تزيد من قدرته على الانتشار أو التسبب في أعراض شديدة.

ومع ذلك، شدّد على أن الفيروس يظل مصدر قلق صحي محلي أو موسمي، خاصة بين الفئات الأكثر عرضة للخطر.

طرق الوقاية والعلاج

لا يوجد علاج محدد لـ«الميتانيمو» البشري، كما هو الحال مع فيروسات أخرى مثل الإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي، حيث يركز العلاج بشكل أساسي على تخفيف الأعراض المصاحبة للعدوى، وفق عنان. وأضاف أنه في الحالات الخفيفة، يُوصى باستخدام مسكنات الألم لتخفيف الأوجاع العامة وخافضات الحرارة لمعالجة الحمى. أما في الحالات الشديدة، فقد يتطلب الأمر تقديم دعم تنفسي لمساعدة المرضى على التنفس، بالإضافة إلى توفير الرعاية الطبية داخل المستشفى عند تفاقم الأعراض.

وأضاف أنه من المهم التركيز على الوقاية وتقليل فرص العدوى باعتبارها الخيار الأمثل في ظل غياب علاج أو لقاح مخصص لهذا الفيروس.

ولتجنب حدوث جائحة، ينصح بدران بتعزيز الوعي بالوقاية من خلال غسل اليدين بانتظام وبطريقة صحيحة، وارتداء الكمامات في الأماكن المزدحمة أو عند ظهور أعراض تنفسية، بالإضافة إلى تجنب الاتصال المباشر مع المصابين. كما يتعين تعزيز الأبحاث لتطوير لقاحات أو علاجات فعّالة للفيروس، إلى جانب متابعة تحورات الفيروس ورصد أي تغييرات قد تزيد من قدرته على الانتشار أو تسبب أعراضاً أشد.