سيول الأحواز... كارثة بيئية و«هندسة» ديموغرافية

تناقض بين قراءتي روحاني و«الحرس الثوري» لما حدث

سيول الأحواز... كارثة بيئية و«هندسة» ديموغرافية
TT

سيول الأحواز... كارثة بيئية و«هندسة» ديموغرافية

سيول الأحواز... كارثة بيئية و«هندسة» ديموغرافية

تزحف سيول مدمِّرة منذ أكثر منذ 30 يوماً، بلا هوادة وفي كل الاتجاهات، وتفرض حصاراً خانقاً على المدن العربية جنوب غربي إيران، أدّت إلى تشريد نحو 500 ألف شخص، بحسب الإحصائيات الرسمية. ونتيجة لذلك، توسّدت صفوف بشرية ضفتي نهري كارون والكرخة، مزوّدة بما تيسّر لها من إمكانيات للدفاع عن الأرض ضد خطر يرون في طياته ما هو أبعد من فعل الطبيعة... خطر يقولون إنهم جرّبوا أصنافه منذ نهاية آخر حكام الأحواز الشيخ خزعل الكعبي في 20 أبريل (نيسان) 1925 وحتى اليوم.
لم تكن موجة الفيضانات الحالية هي الأولى هذا العام في سهل الأحواز، جنوب غربي إيران. بل تقول الجهات المسؤولة عن إدارة السدود إنها الموجة الثالثة «التي تتصدى لها». وما يُذكر أنه قبل ‌‌أربعة أشهر تأزمت أحوال نهر الكرخة، وأدّت الفيضانات إلى إغراق قرى في قضاء الخفاجية ومدينة الرفيع الحدودية (مع العراق). كذلك دخلت المناطق المجاورة لمدينة الأحواز حالة الطوارئ لدى اجتياح السيول القرى الواقعة على نهر كارون قرب مدينة السوس. وفي محيط مدينة تُستر، فإن الفيضانات أدت إلى مغادرة سكان ما لا يقل عن عشر قرى قاصدين مناطق آمنة.
شبح الفيضانات عاد ليقضّ مضجع سكان المدن والقرى الواقعة المجاورة لنهري كارون والكرخة، وذلك بعد أيام قليلة من تراجع فيضانات اجتاحت جبال زاغروس، وخلّفت وراءها دماراً هائلاً في محافظات كردستان وكرمانشاه ولُرستان وإيلام بيد أن السيول انحدرت جنوباً باتجاه روافد أنهار إقليم الأحواز وشكّلت كميات تفوق قدرة السدود التي كانت ممتلئة بالمياه. وبالتزامن، كانت الدوائر المسؤولة تعيش ارتباكاً أدى إلى تأخر إجراءات الإغاثة في محافظة غُلستان، ذات الأغلبية التركمانية بشمال إيران، ما فجّر سجالاً بين الحكومة و«الحرس الثوري»، بعد أيام قليلة من أوامر نادرة للمرشد علي خامنئي للقوات المسلحة بالدخول على خط الفيضانات.

مناطق متضرّرة
في منتصف مارس (آذار) الماضي، بحسب منظمة الأرصاد الإيرانية، ضربت إيران موجتا أمطار غزيرة: الأولى على النصف الشرقي من البلاد، وامتد جزء منها إلى المحافظات الغربية. والثانية بدأت بالنصف الغربي قبل أن تتجه شمالاً.
واجتاحت السيول، وفق الإحصائيات الرسمية من وزارة الداخلية، 24 محافظة من أصل 31، في حين تحدثت وكالات إيرانية عن 26 محافظة. وذكر وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي، في تقرير قدّمه الأسبوع الماضي للبرلمان أن الخسائر بلغت ما يعادل ملياري ونصف المليار دولار أميركي، وفق سعر الصرف الحكومي للدولار، وهو 42000 ريال.
وأفادت إحصائية للمفوضية الأوروبية هذا الأسبوع بأن 11 مليون إيراني تأثروا بالسيول، في حين أوضحت المصادر الطبية أنها قدمت خدمات إلى أكثر من مليون شخص جراء الفيضانات، وقدّرت وزارة السكن أن 14 ألف كيلومتر مربع تضرّرت جرّاء الفيضانات التي ألحقت أضراراً بما لا يقل عن 150 ألف بيت. أما عن خسائر الأرواح (بحسب الأجهزة الرسمية) فبلغت 76 حالة.

الجانب السياسي
بعد أسبوع من فيضانات المحافظات الغربية توجّه الرئيس الإيراني حسن روحاني «لتفقد» مناطق في الأحواز، ما أكد التقارير الأولية عن خطورة الوضع هناك. يُذكر أنه سبق لأمين عام مجلس الأمن القومي، علي شمخاني، أن حذّر من «وقوع كارثة إنسانية»، إذ أشار إلى «تحديات تواجهها» مدينة الأحواز وضواحيها. إلا أن حاكم الأحواز، غلام رضا شريعتي، في الوقت نفسه، ظهر في مقابلة تلفزيونية لينفي «وجود أي مخاطر أو قلق» لدى أجهزة المسؤولة من ارتفاع منسوب نهر كارون.
ويوم أمس (الجمعة)، قال برويز فتاح، رئيس هيئة الخميني للإغاثة، في صلاة جمعة طهران إن «الإدارة الخاطئة وراء السدود سبب السيول في الأحواز»، مؤكداً أن أوضاع المناطق العربية «أكثر صعوبة ومرارة». وتابع فتاح، الذي شغل منصب وزير الطاقة في عهد رئاسة محمود أحمدي نجاد، انتقاده قائلاً: «كشخص اختصاصي في الموارد المائية، وشغل منصب وزير الطاقة سابقاً، أعتقد أنه كان يمكن تفادي هذا الحادث... من المؤكد أن التوقّعات في إدارة السدود كانت خاطئة». وللعلم، قبل نحو أسبوع، قالت مصادر مطلعة إن عضو «مجلس خبراء القيادة» عباس الكعبي طلب في اجتماع للمسؤولين وصف الفيضانات بـ«فيضانات السدود».

سوء إدارة المياه والبيئة
الآن، بينما يعرب خبراء البيئة الإيرانيون عن مخاوفهم من التغييرات المناخية بناءً على معطيات علمية، اعتبرها الرئيس حسن روحاني «رحمة سماوية». وبينما كانت وكالة «تسنيم» المتصلة بـ«الحرس الثوري» تتهم «جهات معادية بإرسال غيوم تحمل أمطاراً مدمِّرة فوق إيران»، وصف روحاني امتلاء السدود وعودة المياه للبحيرات والأهوار بأنهما نتيجة تدبير من حكومته. وقال الرئيس الإيراني على هامش جولة تفقدية في الأسبوع الأول من فيضانات الأحواز: «أنا سعيد لفرحة المزارعين في الأحواز، لقد دشّنا اليوم المرحلة الأولى من مشروع توفير المياه».
من جهة أخرى، يقلل خبراء البيئة ممّا تعتبره الحكومة الإيرانية الابتعاد عن حافة الإفلاس المائي بعد سنوات عجاف تراجع فيه بشكل كبير مخزون إيران من المياه الجوفية ومياه الأنهار. ويجمع الخبراء على أن السيول الأخيرة هي من تبعات التغييرات الإقليمية وارتفاع درجة الحرارة، ويحذّرون من سيول أكثر تدميراً في السنوات المقبلة. وقالت سحر تاج بخش، رئيسة منظمة الإرصاد الإيرانية، للبرلمان الإيراني إن ما بين 60 و65 في المائة من الأراضي الإيرانية ما زالت تعاني من الجفاف.
وبخلاف خبراء البيئة الذين يعتبرون الفيضانات دليلاً على دخول إيران حقبة مزيد من الجفاف وتغيّر درجات الحرارة، تصرّ الحكومة الإيرانية على أن البلاد دخلت فترة سنوات رطبة بعد مرحلة الجفاف. ولقد كشفت الفيضانات الأخيرة، إلى جانب غزارة الأمطار، عن تبعات تدخلات المشاريع الإيرانية في إنشاء السدود والقضاء على الوهاد والأنهار التقليدية الفصلية التي تلعب دور الرئة للأنهار الدائمة. وللعلم، تتقاسم مشاريع إنشاء السدود والطرق في السنوات الماضية وزارتا الطرق والطاقة ومجموعة شركات «خاتم الأنبياء»، الذراع الاقتصادية لـ«الحرس الثوري». ولقد ارتفع عدد السدود الكبيرة إلى عشرة عملاقة فوق نهري الكرخة وكارون بعد ثورة 1979، بالإضافة إلى عشرات السدود الصغيرة التي تقوم بدور تحريف وضبط مستوى المياه.
ويخشى السكان العرب، جنوب غربي البلاد، أن تمضي السلطات قدماً في مشروع لإنشاء سدّين آخرين وحفر إنفاق تؤدي إلى نقل المياه من الروافد الأساسية لأنهار الأحواز إلى محافظات وسط إيران.

سدود وراء فيضانات
في السياق نفسه، دحضت السلطات الإيرانية، على مدى الشهر الماضي، تقارير حذّرت من مخاطر انهيار السدود، شمال الأحواز، بينما عززت سلسلة زيارات لكبار المسؤولين مخاوف أهالي الأحواز من احتمالات انهيار السدود. وحقاً، نقلت وکالات أنباء عن محمد رضا یزداني، مدير سد الكرخة، أن «الإفراج عن كميات المياه يهدف إلى منع حادث أكبر».
هذا، ويُعتبر سد الدز فوق نهر كارون، الذي اكتمل تشييده عام 1963، أقدم السدود في إيران. ويقع السد على بعد 23 كيلومتراً شمال شرقي مدينة الصالحية في الأحواز، ويبلغ طوله 212 متراً وعرضه 27 متراً، ويبلغ مخزونه 3.3 مليار متر مكعب من المياه، وتمر من فتحاته 6 آلاف متر مكعب في الثانية. وتمتد خلفه بحيرة بمساحة 64 كيلومتراً مربعاً.
أما سد الكرخة، فيُعد أطول السدود الترابية في الشرق الأوسط، وهو يقع على بعد 22 كيلومتراً شمال غربي مدينة الأحواز. واستغرق بناء هذا السد عشر سنوات ودخل الخدمة منذ عام 2000، وتستوعب بحيرة السد التي يبلغ طولها 60 كيلومتراً 5.9 مليار متر مكعب. وخلال الفيضانات الأخيرة وصل حجم المياه التي خرجت من السد إلى 780 متراً مكعباً للثانية. وأفادت وكالة «إرنا» عن تدفق 6 مليارات و400 مليون متر مكعب إلى سد الكرخة خلال الأمطار الأخيرة. ونقلت عن يزداني، مدير السد، أن السلطات أفرجت عن نحو ثلاثة مليارات و800 مليون متر مكعب خلال الفترة الماضية. ولقد أدت الأمطار الغزيرة إلى امتلاء مخزون السدود في الأحواز هذا العام قبل حلول الربيع وذوبان الثلوج في أعالي جبال زاغروس. وبحسب التلفزيون الإيراني، فإن كمية الأمطار غير مسبوقة على مدى الـ300 سنة الأخيرة، بينما تقول وكالة «فارس» (الناطقة باسم «الحرس الثوري») إنها غير مسبوقة في السنوات الـ150 الأخيرة.

منشآت النفط... والفيضانات
مثل حلقات الدومينو سقطت المدن العربية تدريجياً في فخّ الفيضانات. في البداية تدخلت قوات «الحرس الثوري» بقوة السلاح وفجّرت عدة أماكن في هور الحويزة لتدمير ساتر ترابي أنشأته. ويقع هور الحويزة على الحدود بين الجانبين الإيراني والعراقي، ومع محاولة الأجهزة المسؤولة إجلاء سكان قرى كثيرة لإغراقها بهدف إنقاذ المدن، فإن الأزمة أماطت اللثام عن حقيقة أخرى مسرحها هور الحويزة.
الحقيقة هذه هي تدخل وزارة النفط في تقسيم الأهوار إلى أحواض متعددة، وتجفيف نصف الهور في الجانب الإيراني خلال عمليات تطوير حقل «آزادغان» النفطي التي بدأت منذ عام 2005. ويُقدّر عدد آبار النفط الإيرانية الآن بين 250 و350 بئراً نفطية. وقبل اتساع الفيضانات أعلنت وزارة النفط الإيرانية تأمين منشآتها من الفيضانات. وأصرت الجهات المسؤولة على أنها أغرقت جميع أحواض هور الحويزة التي يبلغ طولها 80 كيلومتراً بعرض يصل إلى ثلاثين كيلومتراً.
وفي المقابل، دشن ناشطون حملة «افتحوا الأهوار» باللغتين الفارسية والعربية، وزاد غموض الأوضاع في هور الحويزة من السخط الشعبي في المناطق التي تحاصرها الفيضانات. وهو ما حدا بـ«الحرس الثوري» للدفع بأحد أبرز قياداته لإجراء مفاوضات مع شيوخ العشائر، ونشرت الوكالات صوراً جوية من رحلة تفقدية للتحقق من ادعاءات الحكومة و«الحرس»، وتوجه وزير النفط بيجن زنغنه، خلال الأسبوع الماضي، لينفي صحة ما يتردد عن تجفيف أراضي الهور.
وعلى خلاف الرواية الرسمية، يواصل ناشطون عرب تسجيلات توثّق وجود مساحات واسعة تحت سيطرة شركات النفط وتمنع السلطات غمرها بالمياه.

تهجير العرب
الحديث عن «ترانسفير»، أو تهجير السكان العرب في الأحواز ليس جديداً. وفي أبريل عام 2005 نزل مئات آلاف من الأحوازيين إلى الشوارع للاحتجاج ضد مخطط لحكومة الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي يوصي جميع الدوائر الإيرانية بتهجير النخب العرب إلى مناطق أخرى، وتشجيع الأهالي على الهجرة الداخلية، وجلب آخرين من غير العرب.
ومن جانب آخر، تشهد منطقة الأحواز أزمة بيئية حادة منذ 15 سنة، نتيجة ما يعتبره السكان المحليون سياسة السلطات الإيرانية في إدارة المياه وإنشاء سدود ومشاريع غايتها تحويل مجرى الأنهار، ما تسبب في تجفيف مساحات واسعة من أهوار الحويزة والفلاحية. كذلك تواجه الأجهزة المسؤولة تهماً من السكان المحليين باتخاذ تطوير حقول النفط ذريعة لتجفيف هور الحويزة الحدودي مع العراق.
الجدير بالذكر، أيضاً، أن الحرب العراقية - الإيرانية كانت قد وجّهت ضربة للتركيبة السكانية في مدن عبادان والمحمّرة والحويزة والبسيتين وعموم القرى العربية الموزّعة على الحدود بين البلدين، ما أسفر عن هجرة قسرية لمئات الآلاف الذين غادروا باتجاه عمق المحافظة أو المحافظات الإيرانية المركزية والشمالية. ومنذ نهاية تلك الحرب لم تستعد تلك المناطق عافيتها، ولم يصل الاهتمام الإيراني بإعادة الإعمار إلا إلى منشآت النفط وممتلكات وزارتي النفط والجمارك، في حين ظلّت الخدمات متواضعة مقارنة بفترة ما قبل الحرب، كما أن السلطات منعت عودة أهالي قرى حدودية تحت ذريعة انتشار حقول الألغام.
أضف إلى ما سبق، أن سياسات إدارة المياه وتجفيف الأهوار أسهمت في تنامي ظاهرة الغبار والعواصف الرملية، وانتشار مرض السرطان في المناطق العربية نتيجة تفاقم موجات الغبار والتلوث البيئي وفقدان التوازن البيئي في أنهار سهل الأحواز. غير أن السلطات تتستر على إحصائيات المصابين بالأمراض نتيجة التدهور البيئي. ولكن رغم ذلك، بحسب منظمة الصحة العالمية، احتلّت مدينة الأحواز عام 2011 المرتبة الأولى في قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالم، وشمل تقرير المنظمة 1100 مدينة (في 91 دولة) يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2013، بعد يوم من نشر منظمة الصحة العالمية تقريراً يربط تلوث الهواء بسرطان الرئة، أفادت مجلة «تايم» نقلاً عن مؤسسة «كواتزر» بأن مدينة الأحواز البالغ عدد سكانها 3 ملايين تحتل قائمة المدن العشر الأكثر تلوثاً، بحسب الجزيئات المحمولة في الهواء.
إلى جانب ذلك، عملت الحكومات الإيرانية منذ تسعينات القرن الماضي على تنفيذ مشاريع كثيرة تهدف إلى تقليص مساحة الأراضي المملوكة للعرب، منها توسيع مساحة مشروع قصب السكر من شرق مدينة الأحواز إلى غرب المدينة، ما وأد أكثر من 250 من القرى الممتدة على ضفتي نهر كارون بين مدينة الأحواز وعبادان والمحمرة.
وكانت بداية المشروع بإجبار أهل قرى مجاورة للنهر على الهجرة والتخلي عن أراضيهم الزراعية. سيطرة الحكومة على الأراضي وضعت نهاية لنظام الري القديم الذي يقوم وفق الأعراف المحلية، وأدى امتناع السلطة عن تدفق المياه من وسط مزارع قصب السكر وفشل الزراعة الجافة إلى تخلي المزارعين عن مزيد من الأراضي التي يحول مشروع قصب السكر دون حصولها على المياه.
وأعادت الفيضانات الواسعة التي كانت السدود فيها العنصر الأساسي، النقاش بين العرب حول مخططات التهجير. وطلبت السلطات إجلاء 12 مدينة وبلدة، ولكن بحسب مصادر رسمية لم يتجاوب سوى عشرة في المائة مع نداءات السلطات.
وجرى تداول عشرات التسجيلات التي نقلت صورة مغايرة لرواية الإعلام الإيراني. وردد العرب هتافات تندد بإدارة المياه في الأنهار، وسياسة إنشاء السدود. والملاحَظ من التسجيلات أن أهل الأحواز فسروا السيول على أنها «مُفتَعلة» وفي سياق مخططات تهدف إلى الإخلال بالتركيبة السكانية.

زيارة سليماني... وحضور ميليشياته
> توجه قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» إلى الأحواز هذا الأسبوع، بعد أسابيع من الجدل حول سوء الإدارة، والاستياء الشعبي بين أهالي المناطق العربية، وتداول تسجيلات عبر شبكات التواصل الاجتماعي توثق طرد مسؤولين كبار وقادة عسكريين، إضافة إلى أهازيج تندد بسياسات السلطات ضد العرب.
ولم تمضِ أيام حتى أعلنت وسائل الإعلام التابعة لـ«الحرس الثوري» وصول وحدات من فيلق «فاطميون» الأفغاني إلى المدن المنكوبة في محافظة لُرستان. وبعد يومين أعلنت وكالات إيرانية دخول قوات «الحشد الشعبي» العراقي من منفذي مهران والشلامجة وانتشارها في عدد من ضواحي مدينة الأحواز. وانضم لقافلة سليماني عناصر من «حزب الله» اللبناني رافعين شعار الحزب، إضافة إلى علَمَي لبنان والبحرين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.