قائد القسام.. الشبح الذي نجا من 5 محاولات اغتيال

من مسرحي في غزة إلى المطلوب الأول لإسرائيل.. لا يظهر في الأماكن العامة ولا توجد له صور حديثة

قائد القسام.. الشبح الذي نجا من 5 محاولات اغتيال
TT

قائد القسام.. الشبح الذي نجا من 5 محاولات اغتيال

قائد القسام.. الشبح الذي نجا من 5 محاولات اغتيال

بعد 5 محاولات اغتيال حقيقية وعشرات أخرى لم تر النور، تحول القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف (أبو خالد) إلى ما يشبه الأسطورة في عيون الفلسطينيين الذين يرون فيه وزير الدفاع الذي لا يعتقد أنه سيتسلم المنصب بشكل رسمي في يوم من الأيام.
والضيف الذي يعد الرجل الأكثر غموضا على الإطلاق من بين الفلسطينيين، شيعته إسرائيل مرتين، وما زالت تقول إن مصيره حتى الآن غير معروف على وجه الدقة، بعد محاولة اغتياله الأخيرة في 20 الحالي، وهي المحاولة التي وصفتها القسام بالفاشلة. ويستدل الفلسطينيون على أن الضيف حي يرزق، فقط من خلال إعلان أصدرته القسام، وآمالهم بأن الأسطورة لا تموت، أما الضيف نفسه فلم يظهر بعد المحاولة الأخيرة كعادته.
يحيط الضيف الذي اكتسب هذا اللقب (الضيف) بسبب أنه لا يمكث في مكان واحد كثيرا، نفسه بإجراءات أمنية معقدة للغاية. ومنذ نحو عقدين، لم يظهر الضيف في أماكن عامة، أو كما يقول من سألتهم «الشرق الأوسط»، لو نظرنا إليه ما عرفناه.
وحتى الإسرائيليون الذين يسعون وراءه لا يملكون صورة له. ولا يوجد للضيف أي صورة حديثة على الإطلاق ونشرت إسرائيل بضع صور قديمة جدا له، يعتقد أنه تغير بعدها كثيرا. وفي يناير (كانون الثاني) 2011 وفي أغسطس (آب) 2014 لم يحضر الضيف جنازات الأعز إلى قلبه، والدته وزوجته وابنه الصغير بسبب هذه الإجراءات الأمنية. والسؤال عن الضيف حتى لأسباب صحافية قد يجعلك في دائرة المشبوهين فورا أو غير المرغوب بهم إذا كنت غير معروف لرجاله، أما إذا كنت معروفا لهم فلن تجد أجوبة شافية. وفيما تضع إسرائيل الضيف على رأس المطلوبين لها منذ 20 عاما، تقول القسام إنه سيقود جيش تحرير القدس.
فمن هو محمد الضيف (أبو خالد)؟
اسمه الحقيقي: محمد دياب إبراهيم المصري، وشهرته الضيف ولد عام 1965 لأسرة فلسطينية لاجئة من بلدة القبيبة واستقرت في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة.
نشأ محمد في أسرة فقيرة للغاية، واضطر لترك الدراسة مؤقتا لإعانة أسرته، وقد عمل مع والده في «الغزل والتنجيد» ومن ثم أنشأ مزرعة صغيرة للدواجن وعمل سائقا قبل أن يصبح مطاردا لإسرائيل. عاش طفولته في مدينة خانيونس في حي الحطوب وله 3 أشقاء و4 شقيقات، هم عمر وعلي ويوسف، ومنال وانتصار ونجاح وتساهيل. والده ذياب المصري ما زال على قيد الحياة ويبلغ من العمر 81 عاما، ووالدته توفيت في 14 يناير عام 2011، عن 74 عاما.
يقول رفاقه في الحي الذي نشأ فيه إنه كان وديعا وصاحب دعابة وخفة ظل وطيب القلب ويميل إلى الانطوائية. انضم الضيف لحركة حماس في نهاية عام 1987 عبر علاقته بالمساجد.
عاد إلى دراسته وتلقى تعليمه في الجامعة الإسلامية في غزة وتخرج فيها 1988 بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في العلوم. أثناء ذلك أنشأ الضيف فرقة «العائدون» الفنية الإسلامية وكانت تعنى بشؤون المسرح، وعرف عن الضيف ولعه بالتمثيل وأدى عدة أدوار مسرحية ومن بينها شخصيات تاريخية. وكان الضيف مسؤولا عن اللجنة الفنية خلال نشاطه في مجلس طلاب الجامعة الإسلامية. تزوج مرتين، الأولى قبل نحو 15 عاما وأنجب منها ثلاثة أبناء هم خالد وبهاء وخديجة، وما زالت على قيد الحياة، والثانية هي وداد عصفورة قبل نحو 4 سنوات، وقضت مع اثنين من أبنائها في آخر محاولة لاغتياله هذه الشهر، وتبقى له منها عمر وحلا.
اعتقلته إسرائيل عام 1989 وقضى 16 شهرا في سجون الاحتلال موقوفا دون محاكمة بتهمة العمل في الجهاز العسكري للحركة.
بعد خروج الضيف من السجن، بدأ مع آخرين في تأسيس القسام. وخلال التسعينات أشرف وشارك في عمليات لا تحصى ضد إسرائيل.
اعتقلته السلطة الفلسطينية في شهر مايو (أيار) عام 2000 بطلب من إسرائيل، وكانت علاقته بالسلطة متقدمة وجيدة وجرى اعتقاله ضمن تفاهمات. في 2002 تسلم قيادة القسام بعد اغتيال قائدها العام صلاح شحادة. تعرض لأول محاولة اغتيال في 2001، لكنه نجا. وبعد سنة واحدة جرت محاولة ثانية عندما أطلقت مروحية «أباتشي» صاروخين نحو مركبة الضيف، وأصاب أحدهما الضيف بجروح، وعالجه في مكان غير معروف، قائد حماس عبد العزيز الرنتيسي (الذي اغتيل سنة 2004) وكان طبيبا. في 2003، حاولت طائرة إسرائيلية اغتيال الضيف وبعض قادة حماس في منزل في مدينة غزة لكن الصاروخ أصاب الطابق الخطأ.
بعد 3 سنوات في 2006 أصاب صاروخ شديد الانفجار منزلا كان الضيف يجتمع فيه مع قادة القسام، ومرة ثانية نجا الضيف لكن إسرائيل قالت إنه أصيب بجروح بالغة.
ويعتقد مسؤولون إسرائيليون أن الضيف أصبح مقعدا على كرسي وفقد أحد عينيه لكن لم تعط حماس أي إشارة إلى أن ذلك صحيح أو لا. خرج الضيف في تسجيلات في السنوات الماضية 3 مرات، كان مثل الشبح مع صورة معتمة ونصفه ظاهر فقط وتحدث في شؤون الحرب مع إسرائيل متوعدا إياها في كل مرة بهزيمة. وبخلاف ذلك لم يظهر الضيف على الملأ أبدا.

* هاجس إسرائيلي قديم
* ملاحقة الضيف كانت على كل المستويات أمنية وسياسية كذلك، ففي 1996 طلب شيمعون بيرس الذي كان رئيسا لوزراء إسرائيل آنذاك، من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اعتقال الضيف من أجل المضي قدما في تطبيق اتفاقات أمنية وسياسية، أبدى عرفات استغرابه من الاسم، وكأنه لا يعرفه، وسأل مساعده الأمني محمد دحلان الذي كان صديقا للضيف وجاره كذلك، من هو؟ وتبين فيما بعد أن عرفات كان يحميه، وهو الأمر الذي أدى إلى امتعاض إسرائيل من تصرفات عرفات واتهامه بالكذب عليهم لحماية رجل حماس.
ظلت إسرائيل تسعى وراءه حتى اليوم وأصابته مرتين ضمن المحاولات الخمس الماضية.
ويروج الاحتلال الإسرائيلي أن الضيف ربما لا يكون على قيد الحياة بعد المحاولة الأخيرة وأن حماس تخفي الأمر لكن القسام قالت إنه حي يقود القتال ولم يصب بأذى.

* وفاة والدته تظهر أن عاطفته لا تغلب أمنه
* حين توفيت والدة الضيف في يناير 2011 حضر الجميع إلا ابنها الأقرب إلى قلبها. وقال مقربون من حماس لـ«الشرق الأوسط» إنه حضر ولم يعرفه أحد، وقال آخرون إنه جاء لمدة 5 دقائق فقط ومن ثم غادر، وروى البعض أنه تخفى بزي عجوز وودع والدته ومضى. لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف ودع الضيف والدته، إلا حلقة ضيقة للغاية على رأس كتائب القسام، وهي الحلقة نفسها التي تعرف صورته الحقيقة.

* آخر محاولة حقيقية لاغتياله
* تمت في 20 أغسطس الحالي حين هوت عدة صواريخ تحمل نحو 12 طنا على منزل يعود لعائلة الدلو في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، فقتلت زوجته، وداد، (28 عاما) وابنه علي وابنته سارة. وأكد مصدر سياسي إسرائيلي أن الضيف كان هدف عملية القصف الذي أحدث إرباكا عند الفلسطينيين والإسرائيليين استمر ساعات، إذ طلب وزراء إسرائيليون من الجمهور الإسرائيلي انتظار مفاجأة من وراء القصف، ونشرت وسائل إعلام فلسطينية أسماء مسؤوليين كبار في القسام كانوا يعتقدون أنهم استهدفوا في القصف، قبل أن تخرج القسام في بيان وتتعهد أن تفتح على «العدو» أبواب «جهنم»، وتقول إنها تتحدى العدو الصهيوني أن يعلن عن السبب الحقيقي الكامن وراء هذا العمل الجبان في قصفه لمنزل عائلة الدلو دون أن تعطي أي تفاصيل.
ولساعات ظل الغموض مسيطرا على نتائج العملية الإسرائيلية مع تلميحات إسرائيلية بوجود صيد ثمين.
ثم أعلن موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحركة حماس، استشهاد زوجة وابن القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف في استهداف منزل عائلة الدلو بحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة.
وردت حركة حماس داعية إسرائيل لتجهيز نفسها لأيام قاسية. وقال الناطق باسم القسام، أبو عبيدة، «خبتم وخاب فألكم، فمرة بعد مرة تثبتون أنكم مجموعة من الفاشلين، فبعد 45 يوما من بدء المعركة في ظل كل عملكم الاستخباري فإن كل الذي تستطيعونه هو قتل النساء والأطفال، إنكم أفشل وأعجز من أن تطالوا القائد العام أبو خالد محمد الضيف – بإذن الله تعالى - أبو خالد الذي جعل فشلكم وعجزكم على مدار ما يزيد على ربع قرن واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار». وكانت محاولة الاغتيال هذه قد تسببت بإشعال الحرب بقوة.

* فشل اغتياله للمرة الخامسة
* يؤكد تطور منظومة الأمن في القسام مرة ثانية حضر الجميع جنازة أقرب الناس إلى قلب الضيف ولم يحضر هو إذ لم يشاهد في توديع زوجته وابنه الصغير علي وابنته سارة التي ظلت تحت الأنقاض ليومين. واتضح لاحقا أن مجرد معرفة منزل الضيف كان يحتاج إلى جهد استثنائي بعد أن كشف أن أقرب الناس إليه لا يعرفون أنه منزله الضيف أو عائلته. وقال مصطفى عصفورة، والد وداد، زوجة الضيف، ويبلغ من العمر 65 عاما «لا يوجد عائلة في غزة لم تفقد شهيدا أو لم تتضرر، وأنا لست أفضل من غيري».
وأضاف: «ابنتي كانت تعرف أنها مشروع شهيدة عندما تزوجت محمد الضيف في عام 2007. كنت أتوقع خبر استشهادها في أي لحظة». وأوضح مصطفى عصفورة أنه شاهد الضيف مرة واحدة في حياته، وهي عندما تزوج ابنته. وبعدها، لم يكن على دراية حتى بمكان سكن ابنته بسبب الترتيبات الأمنية البالغة السرية التي تحيط بالضيف وتحركاته لتجنب استهدافه من قبل إسرائيل.
وتعد هذه الإجراءات الأعلى على الإطلاق، إذ إن مسؤولي القسام الآخرين يغادرون وعائلاتهم منازلهم وقت الحروب فقط إلى بيوت غير معروفة، ويشاركهم في هذا بعض المسؤولين السياسيين في حماس. وقالت مصادر أمنية لـ«الشرق الأوسط» إنه «في الحرب يتم إخلاء منازل حتى القياديين السياسيين الذي تعرضوا سابقا لمحاولات اغتيال أو يعتقد أن إسرائيل قد تلجأ لاغتيالهم أو على الأقل تدمير منازلهم». وأضافت «يذهبون إلى منازل أخرى آمنة لكن من دون المستهدفين».
وتابعت «أما القسام فإنهم يتخذون إجراءات مختلفة وسرية ولا أحد يعرف عنها شيئا».
ولم يشاهد مسؤولو حماس السياسيين والعسكريين في الشوارع منذ بدأت الحرب. ولكن لجميع هؤلاء في النهاية منازل معروفة يعودون إليها وعائلاتهم بعد الحرب، بخلاف الضيف.

* كيف تنظر إليه إسرائيل
* يصفه قادة إسرائيليون برأس الأفعى، ويقول الإعلام الإسرائيلي إنه المطلوب الأول منذ 20 عاما. تتهمه أجهزة المخابرات الإسرائيلية بأنه الشخص الذي حول القسام إلى ما يشبه جيشا منظما لكنهم يعترفون بأنه ذكي ولماح وقادر على التخفي دائما. وبعد محاولات اغتياله الأخيرة دافع وزير الداخلية جدعون ساعر عن محاولة اغتياله على الرغم من جهود وقف النار وقتل زوجته وأبنائه، بقوله، «الأمر لا يتكرر، إنه مثل ابن لادن يجب اغتياله في أي فرصة».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.