حراك الجزائر يضع الإعلام المحلي أمام حقائق مرة

فضائيات وصحف طمست الوقائع وتعرضت لقطع الإعلانات

جانب من مظاهرة للصحافيين الجزائريين للمطالبة بحرية تغطية الاحتجاجات الشهر الماضي (أ.ب)
جانب من مظاهرة للصحافيين الجزائريين للمطالبة بحرية تغطية الاحتجاجات الشهر الماضي (أ.ب)
TT

حراك الجزائر يضع الإعلام المحلي أمام حقائق مرة

جانب من مظاهرة للصحافيين الجزائريين للمطالبة بحرية تغطية الاحتجاجات الشهر الماضي (أ.ب)
جانب من مظاهرة للصحافيين الجزائريين للمطالبة بحرية تغطية الاحتجاجات الشهر الماضي (أ.ب)

واجه الإعلام الخاص في الجزائر ضغوطاً حادة، خلال فترة الحراك الشعبي الثائر ضد النظام، أخذت أشكالاً متعددة منها محاولة قطع أرزاق آلاف العاملين بوسائل الإعلام، عن طريق وقف الإشهار الحكومي الذي كان دائماً سلاحاً توظفه السلطة لـ«تأديب» الصحف المصنفة «معارضة».
في بداية الغضب الجماهيري الرافض ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وتحديداً خلال مظاهرات 22 فبراير (شباط) الماضي، وقف الإعلام بشقيه الحكومي والخاص مشدوهاً ومصدوماً.
وأظهرت الفضائيات الخاصة، وقطاع من الإعلام المعرّب، بعكس الفرنكفوني غير المهادن للسلطة، فتوراً في نقل الحراك بسبب الخوف من التعاطي مع مطلب رحيل بوتفليقة عن الحكم، والحديث عن صحته المتدهورة. فمثل هذه مواضيع عليها خط أحمر منذ سنين طويلة، ومن يتجرأ على الخوض فيها يكون مصيره الحظر أو قطع الإشهار. ففي 2014 تم غلق فضائية «الأطلس» بسبب انتقادها عائلة الرئيس. وفي 2015 تم غلق قناة «الوطن» لأنها استضافت إسلامياً مسلحاً في السابق، هاجم بوتفليقة بحدة.
لكن مع استمرار الحراك، وجد الإعلام أن مصداقيته، ستضيع إن لم يتبنَ مطالب الشعب، فتدارك الخطأ بسرعة وأضحت فضائيات مثل «الشروق» و«البلاد»، وصحف مثل «الخبر»، ناطقين باسم الحراك ومدافعين عنه بشدة. فازدادت الضغوط وقطعت وزارة الإعلام خلال عدة مسيرات، البث المباشر الحي عن القنوات، وأوقفت ضخ الإشهار العمومي عنها بهدف خنقها.

- دستور السلطة غير المكتوب
يقول الصحافي الشاب، محمد سيدمو عن علاقة الإعلام بالسلطة في الظروف الحالية: «الإعلام كان دائماً في مرمى السلطة التي لا تؤمن إطلاقاً بحرية التعبير والممارسة الإعلامية، وتعتبر أن مهمة الإعلام الأساسية هي الدعاية للرئيس وقيادة الجيش ورجالات النظام الأقوياء، والنأي بهم عن أي تناول قد يؤثر على صورتهم لدى الرأي العام، مع ترك فسحة هامشية لانتقاد أداء بعض القطاعات الوزارية كنوع من التنفيس وصناعة ديكور من الحرية مزيف».
بحسب سيدمو: «هذا السلوك المستمر منذ سنوات طويلة في الجزائر والذي ازداد تكريساً بعد وصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999. تحول مع الوقت إلى ما يشبه دستوراً غير مكتوب يحكم عمل أغلبية المؤسسات الإعلامية، التي باتت تعي دون انتظار التعليمات ما هو مسموح تناوله وما هو غير ذلك.
وبعض المؤسسات الإعلامية أصبحت تتنافس فيما بينها على تقديم الولاء بتزييف المعلومات أحياناً، وتحريفها عن مضمونها. وقد أثر هذا الجو الإعلامي الموبوء الذي تكرس بحكم الواقع، على أداء الصحافيين الذين ارتفع لديهم مستوى الرقابة الذاتية.
الأخطر في خضم كل ذلك، أن الكثير من الصحافيين الذين التحقوا بالمهنة في السنوات الأخيرة، تكونت لديهم نظرة مشوهة عن العمل الصحافي، فصاروا يعتقدون أن ما يطلب منهم فعله هو ما يجب أن يكون، بمبرر أن لكل مؤسسة خطها الافتتاحي الذي يجب أن يتبعه الصحافي، وكأن هذا الخط الافتتاحي يعني تشويه الخبر وتحريفه والتلاعب به وابتزاز كل من يعارض السلطة وتوجهاتها، والقفز بالتالي على كل أخلاقيات المهنة المتعارف عليها عالمياً، وفق سيدمو. وأضاف: «بعد كل هذه التراكمات التي ولدت حالة استسلام عامة لدى أهل المهنة، باغت الحراك الشعبي الرافض استمرار الرئيس جميع المتابعين، محدثاً رجة قوية في قطاع الإعلام تحديداً، إذ لم يكن معقولاً حجب تلك الجموع المليونية التي خرجت لمطالب سياسية واضحة. وبعد تخبط في المعالجة ومحاولة لتزييف حقيقة ما يريده الجزائريون في الوهلة الأولى، نتيجة للبرمجة الآلية التي انضبط عليها الإعلام العمومي، وجزء من الخاص، حدثت الاستفاقة التي أدت إلى ظهور حراك موازٍ لذلك الذي يغزو الشارع».

- انتفاضة في قاعات التحرير
واستطرد: «لكن في قاعات التحرير هذه المرة، حيث انتفض الصحافيون وتمردوا لأول مرة على واقعهم، مطالبين بتمكينهم من نقل الصورة على حقيقتها. ونجحت هذه الانتفاضة نسبياً في تحرير الصحافيين، الذين استطاعوا انتزاع هامش أكبر من الحرية، فأصبح التلفزيون العمومي مثلاً ينقل صور المحتجين. وكذلك أصبحت الإذاعة الوطنية تستقبل معارضين راديكاليين للنظام. أما القنوات الخاصة التي تشجعت أكثر، وكانت لديها الجرأة الأكبر، خاصة في الأسبوعين الأخيرين، فمن الواضح أنها في عرف السلطة قد تجاوزت الحد المسموح به». لذلك تعرف مؤسستا «الشروق» و«البلاد» تضييقاً بمنع الدعاية الحكومية عليهما، في إجراء يهدف لإسكاتهما، خاصة أن جريدتي «الشروق» و«البلاد» التابعتين للمجمع الإعلامي لهذين العنوانين، تعيشان فقط على الدعاية الحكومية وتسحبان لدى مطابع الدولة، مما يعني إمكانية اختفائهما من الأكشاك في أي لحظة، وفق ما شرح.
وتابع الصحافي: «لكن رغم كل ما يجري، تبدو السلطة في أضعف فتراتها من حيث سطوتها على الإعلام، لأنها أصبحت تدرك بأن التضييق على الإعلام التقليدي - أصبح دون جدوى بحكم الانتشار الرهيب لشبكات التواصل الاجتماعي، التي لا يمكن التحكم في محتوى ما ينشر عليها، كما أن الاستعداد الذي أبدته السلطة للتنازل بعد الحراك الشعبي، يجعلها غير قادرة على أن تستمر في قمع الإعلام اعتباراً من أن تحرير هذا القطاع، هو في قلب الدعوات المنادية بالتغيير الجذري لمنظومة الحكم».

- رقابة في عز الحراك
مروان لوناس صحافي بإذاعة الجزائر الدولية، تعرض التعليق اليومي على الأحداث الذي يعدَه، وعنوانه «الرأي الحر»، للحذف نهائياً من البرامج الإخبارية لمجرد أنه تضمن في آخر عدد منه إيحاء إلى السلطة وضرورة خضوعها لمطلب الشارع. يقول لوناس عن وضع الإعلام: «يواجه الإعلام الجزائري امتحاناً صعباً، منذ انطلاق الحراك الشعبي حيث منعت وسائل القطاع العام من تغطيته بشكل تام وعتمت عليه، قبل أن يسمح لها بتغطيات محتشمة، لكن مع انتقاء ما يخدمها حيث لم تكن تشير إطلاقاً لموضوع العهدة الخامسة التي رفضها الشعب».
أما القطاع الخاص، فقد تعرض لضغط كبير، وتم معاقبة بعض القنوات والصحف بحرمانها من الدعاية الحكومية ومن الطبع، لأنها تجرأت على عصيان التعليمات. لقد وجد الإعلام الجزائري نفسه بين مطرقة الحكومة وسندان الشارع. حكومة ترى أن الإعلام ينبغي أن يبقى تحت السيطرة، وبوقاً يبرر سياستها، وشعب يتهم هذا الإعلام بالكذب والتواطؤ مع الحكومة. وقد سمعنا كيف كان الإعلام يهاجم خلال المظاهرات بشعارات قاسية، كدلالة على القطيعة بين الطرفين. لكن أظن الإعلام بقطاعيه وأمام اتساع الضغط والحجم المتزايد للحراك الشعبي السلمي، فضل الإعلام الرضوخ للواقع في محاولة لاستدراك ما حصل له من فقدانه المصداقية والموضوعية، خصوصاً مع وجود الإعلام البديل الذي تمكن من تعبئة الشارع بطريقة عجزت عن كسره كل أدوات السلطة».
وأضاف: «احتجاجات الصحافيين داخل القطاع العام كان يجب أن تحدث، لأنهم في النهاية جزء من الشعب بل إنهم الأكثر تضررا بسبب الضغوطات والمضايقات والرقابة، التي ازدادت بشكل فظيع وأصبح أداء المهنة الصحافية شبه مستحيل».

- وعود كاذبة بالتعديل
للصحافي المتخصص في الشأن الثقافي، علال محمد رأي فيما يجري أيضاً. إذ يقول: «لقد طوع نظام بوتفليقة الإعلام لصالحه، وذلك من خلال محاصرته بكل الطرق، سيما الاقتصادية واحتكار الدولة للإشهار العمومي، وتركه يتخبط في فوضى القوانين بعدما رفضت الحكومة تطبيق قانون الإعلام (2014)، مما جعل كل القنوات الخاصة تعيش في دوامة الوعود الكاذبة، بقرب تطبيق القانون وفتح القنوات على أرض الوطن بشكل رسمي بدلاً من التعامل معها على أساس أنها قنوات أجنبية».
وقال أيضاً: «من هذه المعادلة نفهم واقع الإعلام الجزائري، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتناول المواضيع السياسية، فما بالك بالحراك الشعبي الذي خرج ليطالب بإسقاط النظام. لقد وجد الصحافيون العاملون في القنوات الخاصة والعمومية أنفسهم بين المطرقة والسندان، أي بين لقمة العيش والموضوعية ونقل الحقيقة، وهذه الأخيرة كانت تعني للبعض تقديم الاستقالة نظراً لأن عدداً كبيراً من ملاك القنوات الخاصة هم في علاقة مالية مباشرة مع نظام بوتفليقة».
وأضاف: «لم أستغرب سياسية القنوات الخاصة تجاه حراك 22 فبراير الذي فاجأ الجميع، وكان على القنوات ألا تغطي الأحداث أصلاً بدل انتهاج سياسية التضليل الإعلامي، وتصوير المحتجين على أساس أنهم خرجوا للمطالبة بإصلاحات. وهذا الخطاب الذي أرادت السلطة تسويقه، أساء إلى صورة العديد من الإعلاميين الجزائريين ووصفهم الشارع بأنهم خصوم مباشرون، وجزء من الأزمة، فإذا كان من الممكن أن نتفهم تجاهل القنوات الخاصة لتغطية الحراك الشعبي، فلا يعقل أبداً أن نتفهم تزييف الحقيقة، كما يقال: «إن لم تستطع أن تنتصر للحق فلا تصفق للباطل».


مقالات ذات صلة

«الأبحاث والإعلام» تنال حقوق تسويق برنامج «تحدي المشي للمدارس»

يوميات الشرق شعار المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تنال حقوق تسويق برنامج «تحدي المشي للمدارس»

أعلنت «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام» عن شراكة استراتيجية تحصل من خلالها على حقوق حصرية لتسويق برامج تهدف لتحسين جودة الحياة للطلبة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا من تظاهرة سابقة نظمها إعلاميون احتجاجاً على ما عدوه «تضييقاً على الحريات» (أ.ف.ب)

تونس: نقابة الصحافيين تندد بمحاكمة 3 إعلاميين في يوم واحد

نددت نقابة الصحافيين التونسيين، الجمعة، بمحاكمة 3 صحافيين في يوم واحد، بحادثة غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

«الشرق الأوسط» (تونس)
إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.