قيود واندماجات وتشريعات لـ«ضبط» المشهد الإعلامي العربي في 2018

الأخبار الكاذبة تمنح الصحافة أملاً بمواجهة مواقع التواصل

جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
TT

قيود واندماجات وتشريعات لـ«ضبط» المشهد الإعلامي العربي في 2018

جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)
جاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة الـ 177 لتقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» عن مؤشر حرية الصحافة هذا العام (غيتي)

قد يكون العنوان الأبرز للمشهد الإعلامي العربي في عام 2018 هو مواجهة الأخبار الكاذبة وما ترتب على ذلك من تحديات وفرص، فعلى مدار العام أقيمت مؤتمرات وجلسات حوارية لإيجاد حل لهذه المشكلة التي أرقت المنطقة العربية والعالم على حدٍ سواء، ومع ذلك فإن هذه الأزمة أعطت بعض الأمل للإعلام التقليدي كوسيلة للتحقق من المعلومات في مواجهة الإعلام الجديد أو السوشيال ميديا.
لكن وعلى مستوى آخر، فإن المعركة لا تزال دائرة بين ما يسمى بالإعلام القديم والحديث، وباتت وسائل الإعلام العربية القديمة تعاني تحت وطأة سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديث على الشبكة العنكبوتية.
ليس هذا هو الخطر الوحيد الذي يهدد الإعلام العربي فعام 2018 كان حافلاً بالتحديات سواء تلك المتعلقة بالقيود والتشريعات القانونية، أو بمستوى الحريات الممنوحة للصحافة والإعلام، ومحاولات جهات حكومية السيطرة على مضمون الرسالة الإعلامية عبر اندماجات وتحالفات، أو عن طريق أزمات مالية متلاحقة عصفت بالإعلام بشكل عام، والصحافة الورقية بشكل خاص، مما أدى إلى إغلاق قنوات تلفزيونية وصحف ورقية.
وعلى صعيد التشريعات القانونية شهد العام محاولات عربية عدة لسن تشريعات إعلامية لـ«ضبط المشهد»، فأصدرت مصر 3 قوانين لتنظيم الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ووضعت للمرة الأولى نصوصاً خاصة بالمواقع الإلكترونية، وحددت طرقاً لترخيصها، وفي السودان تم تعديل قانون الصحافة والمطبوعات، بينما ما زالت دول أخرى مثل البحرين ولبنان تعمل بقوانين قديمة يؤكد قائمون على العمل الإعلامي أنها لم تعد تتواكب مع العصر، وفي الجزائر ما زال العاملون بقطاع الإعلامي المرئي والمسموع يعانون من عدم إصدار الحكومة للائحة التنفيذية للقانون الصادر عام 2014 لتنظيم عمل الإعلام المرئي والمسموع، وكسر احتكار الدولة للتلفزيون، لتعامل القنوات التلفزيونية الخاصة في الجزائر، باعتبارها مكاتب لوسائل إعلام أجنبية.
وتثير قضية التشريعات الإعلامية سواء كانت قديمة أو جديدة الجدل في كل دولة تثار فيها هذه القضية، فبينما يرى البعض في التعديلات قيوداً جديدة على حرية الإعلام، ومحاولة من جانب الدولة السيطرة عليه، يؤيد آخرون هذه القيود للحد من الفوضى الإعلامية.
الناشر المصري هشام قاسم يرى في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «القوانين الجديدة ما هي إلا محاولة لفرض مزيد من القيود على حرية الإعلام»، مؤكداً أن ضبط المشهد الإعلامي «لن يحدث إلا بمزيد من الحرية، فالمنافسة هي التي ستمنح الإعلام القدرة على التطور».
لكن الإعلامي اللبناني جورج قرداحي كان له رأي آخر، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «القوانين ضرورية لتنظيم الإعلام، ووضع قيود حتى لا يتجاوز الإعلام الخطوط الحمراء التي تمس بالسلم الأهلي والتعايش بين المواطنين».
الصحافي التونسي توفيق حبيب، رئيس تحرير مجلة ليدرز، كان أيضاً مع إنشاء كيانات لتنظيم عمل الإعلام، وإن كان يؤكد على «تمتع الإعلام التونسي بالحرية»، ويقول لـ«الشرق الأوسط» «إن الدستور التونسي الصادر في عام 2014، نص على تكوين هيئة للاتصال السمعي والبصري، لكن هذا لم يحدث حتى الآن».
ورصدت منظمة «مراسلون بلا حدود» في تقريرها الأخير عن مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، أن «العداء للصحافيين يزداد عالمياً»، وصنف التقرير، الذي يقيس حرية الصحافة في 180 دولة، الدول العربية في مراكز متأخرة، بسبب النزاعات المسلحة والاتهامات بالإرهاب، وزيادة الرقابة، مما يجعل ممارسة المهنة في الوطن العربي «أمراً خطيراً»، وجاءت سوريا في ذيل القائمة في المرتبة 177، ثم اليمن 167، والبحرين 166، وليبيا 162، ومصر 161، والعراق 160، والجزائر 136، والمغرب 135، والإمارات 128، ولبنان 100، وتونس 97.
لكن التشريعات والقيود القانونية سواء مقيدة أم ضابطة للمشهد الإعلامي العربي، ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يتم اللجوء إليها للسيطرة على الرسالة الإعلامية، فهناك وسائل أخرى مثل حبس الصحافيين والإعلاميين، ربما كان أبرزها في المغرب حبس الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، أو امتلاك الدولة أو جهات محسوبة عليها لوسائل الإعلام وربما كان المثال الأوضح على ذلك خلال عام 2018 ما حدث في مصر، من اندماج عدة شبكات فضائية، ودخولها تحت مظلة واحدة، أدت في النهاية إلى إغلاق الكثير من القنوات وتسريح عدد من الإعلاميين، ووقف عدد من البرامج لمشاهير الإعلاميين مثل لميس الحديدي.
رئيس التحرير السابق لصحيفة «المصري اليوم» محمد السيد صالح، عدّ في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «الاندماجات تمثل خطورة على المشهد الإعلامي»، وقال إن «قطاعاً كبيراً الآن يضم مؤيدين للسلطة ينتقدون تدخل جهات ذات طابع رسمي للسيطرة على المشهد الإعلامي، خصوصاً وأن إدارة الموقف لا تجري باحترافية».
ويضيف صالح: «ما نراه اليوم يثبت أن هذه الاندماجات كانت بلا خطة ولا هدف، فهناك قنوات أغلقت في نفس العام الذي أطلقت فيها»، ويقدر أن «الخسائر بالمليارات، لكن الخسارة الأكبر تكمن في الجمهور الذي انصرف عن هذه القنوات إلى وسائل إعلام أخرى خارجية».
الأزمات المالية تحدٍ آخر أضيف لما واجهه الإعلام العربي في العام المنصرم، وكان ذلك بسبب تراجع عائدات الإعلانات، وارتفاع تكلفة الطباعة، وسعر الورق، في ظل انخفاض التوزيع واتجاه الجمهور للصحافة الإلكترونية كبديل عن الورقية.
وشهد عام 2018 تقليص أماكن طباعة صحيفة الحياة ورقياً وتقديم نسخة إلكترونية لقرائها، كما تم إغلاق دور صحافية عريقة مثل دار الصياد في لبنان، وتوقف صحف تونسية عن الطباعة واكتفائها بالمواقع الإلكترونية، وما نتج عن ذلك من تشريد صحافيين، وكان أكبر تعبير عن الأزمة هو إصدار صحيفة النهار اللبنانية عدداً من الجريدة بصفحات بيضاء.
توضح الصحافية التونسية آسيا العتروس، رئيس تحرير أول في جريدة الصباح التونسية، لـ«الشرق الأوسط» أزمة صحيفتها كواحدة من الصحف المصادرة في تونس في أعقاب الثورة التونسية، وتقول: «صحيفة الصباح واحدة من المؤسسات الإعلامية التي نشأت في تونس في أعقاب استقلالها، فعمرها من عمر تونس لكنها اليوم مهددة، حيث لم تحظَ بالإصلاح المطلوب في ظل فساد المشهد الإعلامي عبر ما يسمى بتعيينات الولاءات (أصحاب الولاء)».
ورأت العتروس أن «مناخ الحريات الصحافية في تونس لم يقابله استثمار لهذه الحرية، لتشهد الساحة الإعلامية منافسة شرسة بين مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة التقليدية».
ويرى رئيس تحرير مجلة ليدرز التونسية أن «الصحافة كانت أكبر مستفيد من الثورة التونسية، خاصة فيما يتعلق بالتحرر والتعددية، وإن كانت هناك محاولات لتجنيدها أو احتوائها في بعص الأحيان»، ويشير حبيب إلى أن «قلة المنافسة الاقتصادية بسبب ما حدث في ليبيا، أدى إلى انحسار الإنفاق الإعلامي وغياب الإعلانات والاشتراكات».
ويقول: «عام 2018 شهد صدور صحف ومحطات ومواقع مجهولة التمويل لا تخضع لأي منطق اقتصادي، واحتجاب صحف عتيدة مثل جريدة الصريح اليومية، وأخبار الجمهورية الأسبوعية، واكتفائها بنسخ إلكترونية، وتراكم ديون وأزمات مالية في دور صحافية أخرى مثل الصباح».
وتعد المنافسة مع مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام الإلكتروني أحد أهم أسباب الأزمة التي تعاني منها الصحافة الورقية، خاصة مع هروب المعلنين إلى تلك المساحات الجديدة التي يمكن قياس مدى تأثيرها، بعيداً عن مؤشرات وهمية يتيحها الإعلام التقليدي.
خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في الإعلام الحديث، يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «الصراع بدأ بين شركات السيلكون فالي وشركات الإعلام، على مساحة الإعلانات، لنصل اليوم إلى استحواذ (غوغل) و(فيسبوك) على 85 في المائة من الإعلانات، مقابل 15 في المائة لباقي وسائل الإعلام».
ويقول البرماوي إن «العالم استشعر خطورة السوشيال ميديا خاصة بعد الانتخابات الأميركية الأخيرة، وبدأت تحالفات إعلامية تضغط في مواجهة ما سمي بالأخبار المفبركة، واستطاعت خلال عام 2018 استعادة المصداقية لمنصاتها الإعلامية خاصة فيما يتعلق بالتحقق من الأخبار المفبركة والمغلوطة التي ثبت تأثيرها السلبي على المجتمع».
وإن كانت المعالجة عالمياً جاءت ملائمة بدرجة أو بأخرى، فإن الوضع مختلف عربياً، ويرى البرماوي أن «المنطقة العربية متأخرة في المشكلة والحل، رغم أن المشكلة أصعب هنا لأن وعي المواطن أقل»، لكنه في الوقت نفسه يرى أن «هناك حالة بسيطة متنامية في الشارع العربي مفادها أن السوشيال ميديا أكثر انتشاراً لكنها ليست الأكثر مصداقية، والتحقق من المعلومة يستلزم اللجوء لوسائل الإعلام التقليدية».
ودعا البرماوي وسائل الإعلام إلى «العمل على سد الفراغ على الإنترنت بتوفير محتوى نادر قادر على المنافسة في العصر الإلكتروني».
لكن فتحي أبو حطب، مدير عام مؤسسة المصري اليوم، يرى أن «وسائل الإعلام التقليدية في الوطن العربي خسرت المعركة في مواجهة الإعلام الحديث»، ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «النموذج الربحي للإعلام الذي كان قائماً على الإعلانات تغير، ولم يعد بإمكان الإعلام التقليدي جذب النسبة المطلوبة من المعلنين لافتقاده البيانات التي توفرها وسائل الإعلام الحديث عن طبيعة الجمهور وصفاته وحجمه، وما يدفع المعلنين إلى الإنترنت».
ويضيف أبو حطب أن «الإعلام في العالم تنبه إلى هذا التغير، وبدأ يعتمد على الاشتراكات، كما يحدث في نيويورك تايمز مثلاً»، متسائلاً: «هل لدى الإعلام العربي ما يستحق أن يدفع الجمهور مقابله؟»، ومشيراً إلى أن «المسألة تتطلب تحالفات وتوفير محتوى تستطيع تسويقه عالمياً»، واصفاً المؤسسات العربية بأنها «خارج الصناعة، وإن بقيت ستكون مؤسسات بائسة جداً».
وعلى صعيد التلفزيون والإنتاج التلفزيوني ضرب أبو حطب مثلا بشبكة نتفليكس، التي تحقق عائدات تبلغ 11 مليار دولار في السنة، مشيرا إلى أن «هناك شركات عربية بدأت تنتح لهذه المنصات، في ظل تراجع الإنتاج الدرامي والإعلامي في القنوات التقليدية»، ويقول: «للأسف فإن الإنترنت وسيط لم تنتبه له المؤسسات الصحافية».
ونظراً لطبيعة الإعلام العربي الذي يدخل المال السياسي فيه كجزء مهم من اللعبة فقد لا نشهد توقفاً للإعلام التقليدي، حيث سيستمر حتى وإن كان بلا جمهور لأن الساسة ما زالوا يؤمنون بأهميته ويسعون للتحكم فيه، وهو ما يعبر عنه الصحافي التونسي توفيق حبيب الذي يتوقع أن يشهد عام 2019 في تونس وهو عام الانتخابات، «محاولات لكسب وسائل الإعلام التقليدية واستمالتها وتمويلها لأغراض انتخابية».


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
TT

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)

بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.

وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.

تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.

جهود مبتكرة

من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.

تحليل أساليب الإقناع

مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.

وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.

التشديد على أهمية تقنيات التحليل والكشف و"فلترة" المعلومات لجعل شبكة الانترنت مكاناً آمناً. (رويترز)

تقنية التأطير الإعلامي

أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».

ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».

التحيزات الإعلامية

من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.

وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.

وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.

مكافحة «الأخبار المزيّفة»

في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.

كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.

التحديات المستقبلية

ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.