فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

وثائق سرية كشفت عنها لندن قدّمت صورة قاتمة للصراع مع الجماعات المسلحة عام 1994

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
TT

فرنسا للبريطانيين: النظام الجزائري سيسقط... استعدوا لحكومة الإسلاميين

صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)
صورة أرشيفية لأعضاء في جبهة للأنقاذ الإسلامية أثناء أحد تجمعاتها في الجزائر (غيتي)

هل كان الحكم الجزائري فعلاً على وشك السقوط عام 1994؟ هذا ما تُظهره وثائق سرية تتضمن معلومات منسوبة إلى وزراء ومسؤولين فرنسيين كانوا معنيين بالأزمة الدامية التي كانت تشهدها الجزائر آنذاك. النظام سيسقط. الإسلاميون سيسيطرون على السلطة. مئات آلاف اللاجئين سيتدفقون من الجزائر إلى جنوب فرنسا. أحجار «الدومينو» ستبدأ في التساقط، واحدة تلو الأخرى. إذا سقطت الجزائر في أيدي الجماعات المسلحة فإن تونس ستكون مهددة أيضاً. وكذلك المغرب. حتى مصر نفسها لن تنجو من تداعيات الجزائر.
لكن هذه الصورة السوداوية سيتبيّن أنها كانت خاطئة. النظام الجزائري لم يسقط. الجماعات الإسلامية المسلحة مُنيت بهزيمة منكرة. لم يتدفق اللاجئون إلى فرنسا، ولم تتساقط أحجار «الدومينو».
هذه قصة التقديرات الفرنسية الخاطئة للأوضاع في الجزائر في تسعينات القرن الماضي...
رسمت تقارير بريطانية سرية، نقلاً عن مسؤولين فرنسيين كبار، صورة قاتمة جداً للأوضاع في الجزائر خلال العام 1994؛ حيث كانت تدور مواجهات واسعة بين قوات الأمن وخليط من الجماعات الإسلامية المسلحة. وكشفت هذه التقارير التي تُرفع عنها السرية في الأرشيف الوطني البريطاني، اليوم (الجمعة)، 28 ديسمبر (كانون الأول)، أن الفرنسيين أبلغوا البريطانيين بأنهم يتوقعون انهيار الحكم الجزائري ووصول الإسلاميين إلى السلطة، وأنهم يعدون خططاً لاستقبال 500 ألف لاجئ جزائري يُتوقع أن يفروا من بلادهم عقب تغيير النظام.
وهذه المرة الأولى، كما يُعتقد، التي يُنقل فيها عن مسؤولين فرنسيين كلام بمثل هذا التشاؤم إزاء الأوضاع في الجزائر ومآلات القتال الذي كان يدور آنذاك بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة. وقال المسؤولون الفرنسيون، وفق الوثائق الحكومية البريطانية، إن تقديرهم هو أن حكومة الرئيس اليمين زروال لن تستطيع الصمود طويلاً في مواجهة الإسلاميين المسلحين، وستحل محلها في سدة الحكم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». وكانت هذه الجبهة قد فازت في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في ديسمبر لعام 1991، لكن الجيش الجزائري ألغى نتائجها في مطلع 1992 وحل «الإنقاذ»، ما أدخل البلاد في صراع دموي استمر سنوات وأوقع عشرات آلاف الضحايا. وكان مبرر تحرك الجيش أن «الإنقاذ» التي كان عدد من قادتها يكفر علناً بالديمقراطية، تستغل الانتخابات للوصول إلى السلطة ولن تتخلى عنها إذا وصلت إليها، وهي اتهامات نفتها الجبهة آنذاك. وبعد وقف المسار الانتخابي وسجن القيادة السياسية لـ«الإنقاذ»، انخرط الآلاف من مناصريها في جماعات مسلحة مختلفة.
وتتحدث الوثائق البريطانية، في هذا الإطار، عن شكوى الفرنسيين من نشاط الإسلاميين الجزائريين على الأراضي البريطانية. في إشارة إلى ما اعتبره الفرنسيون تساهلاً من جيرانهم في التعامل مع الظاهرة التي باتت لاحقاً تُعرف بـ«لندنستان». وقاد الشكوى آنذاك وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا الذي عُرف بموقفه المتشدد إزاء التعامل مع التهديد الأمني المرتبط بالإسلاميين الجزائريين، علما بأنه كان وزيراً في حكومة يمينية بقيادة إدوار بالادور (التجمع من أجل الجمهورية)، في حين كان رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران اشتراكياً يسارياً. وتشرح الوثائق البريطانية أن أخذ موقف صارم في التعامل مع التهديد الإرهابي يُكسب صاحبه شعبية في فرنسا التي كانت تستعد لانتخابات رئاسية في العام المقبل، وهي انتخابات أسفرت فعلاً عن وصول اليمين إلى السلطة، لكن عبر جاك شيراك، وليس باسكوا أو بالادور.
وكُتبت التقارير البريطانية في وقت كانت فرنسا تعيش حالة غليان بسبب تهديدات وجهتها «الجماعة الإسلامية المسلحة»، أكثر جماعات العنف تطرفاً في الجزائر، والتي كانت قد قتلت 5 فرنسيين، بينهم اثنان من موظفي القنصلية، في هجوم على ضاحية عين الله غرب العاصمة الجزائرية.
وتنقل الوثائق البريطانية أيضاً عن الفرنسيين، أن الرئيس اليمين زروال لم يلبِّ دعوة ميتران لحضور احتفالات في ذكرى إنزال الحلفاء في جنوب فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، بسبب خشيته من حصول انقلاب عسكري ضده خلال غيابه عن الجزائر. ويبدو أن الوثائق تشير، في هذا الإطار، إلى مزاعم عن وجود صراع داخل نظام الحكم الجزائري في شأن طريقة التعامل مع ظاهرة العنف المسلح. ففي حين كان زروال يقود تياراً يدعو إلى الحوار مع الإسلاميين بما في ذلك قادة «الإنقاذ» الذين أفرج عن بعضهم، ونقل آخرين إلى الإقامة الجبرية، كان هناك تيار آخر يوصف بأنه «استئصالي» يرفض أي مساومة مع الجماعات المسلحة.
في أي حال، أثبت الحكم الجزائري، في النهاية، خطأ تقديرات الفرنسيين. فقد نجحت قواته الأمنية في إلحاق هزيمة ماحقة بالجماعات المسلحة، بحلول العام 1997. لكن خوف الفرنسيين من أعمال إرهابية تستهدفهم سرعان ما تحقق، إذ خطف مسلحون تابعون لـ«الجماعة المسلحة» طائرة لـ«إير فرانس» في مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية يوم 24 ديسمبر 1994، وأرادوا الطيران بها إلى باريس لتدميرها في برج إيفل، كما زُعم آنذاك، لكن عمليتهم فشلت، وقتلهم فريق كوماندوز فرنسي خلال توقف طائرتهم في مرسيليا للتزود بالوقود. ولا تغطي الوثائق البريطانية هذه الحادثة.

تفاصيل الوثائق
كتب كريستوفر مالابي، السفير البريطاني في باريس، تقريراً إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ أغسطس (آب) 1994، جاء فيه...

ملخص
1 - باسكوا راضٍ عن التعاون البريطاني - الفرنسي في شأن الجزائريين في لندن. السياسيون (الفرنسيون) تتملكهم الكآبة، يتوقعون نظاماً لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر، وهو أمر سيثير مشكلات في النظام العام في فرنسا.

التفاصيل
2 - واجهتُ وزير الداخلية باسكوا خلال إحدى المناسبات في جنوب فرنسا لإحياء ذكرى 50 سنة على إنزال الحلفاء هناك. قلت له إنني لاحظت تعليقاته بخصوص موقف حكومة صاحبة الجلالة من الجزائريين في بريطانيا. أعربت عن أملي أن يكون على معرفة بأن هناك اتصالات وثيقة بين الخبراء الفرنسيين وجهاز الأمن لدينا (المخابرات الداخلية). إننا مستعدون للمساعدة، وفق الحدود التي يسمح بها القانون البريطاني. (قلت له) إنني أعتقد أن الأجهزة الفرنسية راضية عن مستوى التعاون.
3 - قال باسكوا إنه أيضاً راضٍ. كان سلوكه ودوداً ومنشرحاً. أعتقد أنه أدلى بتعليقاته المهينة من أجل حرف الانتقاد عن السلطات الفرنسية بعد قتل مسؤولين فرنسيين في الجزائر (عملية عين الله). كنا قد لفتنا انتباه حكومته إلى التعاون الموجود بيننا بعدما أدلى للمرة الأولى بتعليقاته، وآمل أنه الآن في الصورة بشكل صحيح.
4 - قدّم لي عدد من الوزراء الفرنسيين إيجازاً بشأن المناقشة عن الجزائر خلال لقاء وزاري استدعاه ميتران، على ارتجال، على ظهر حاملة طائرات خلال احتفالات 14 أغسطس. الخلاصة (التي انتهى لها الاجتماع) أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستسيطر على الوضع، ربما خلال شهور. الحكومة الحالية ليست قادرة على مواجهة التحدي ولن تتمكن من البقاء. رئيس الجمعية الوطنية (فيليب) سيغان (حزب التجمع من أجل الجمهورية) قال لي إن نظام «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» سيستخدم الجالية الجزائرية في فرنسا من أجل الإخلال بالنظام العام، مثلاً من خلال إثارة أعمال عنف، في ضواحي المدن الكبرى حيث النظام العام هش أصلاً؛ نتيجة البطالة والتوتر العرقي المستفحلين. هذا الأمر سيسبب ردة فعل من «الفرنسيين» البيض، ويمكن أن تواجه فرنسا فترة غير سعيدة إطلاقاً. هذا الأمر قد يحصل فعلاً حتى قبل الانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل. علّق سيغان بالقول إن اليمين يسجّل نقاطاً في العادة على حساب اليسار بخصوص التعامل مع مشكلات النظام العام والهجرة.

تعليق
5 - هناك شعور بالعجز اليائس بخصوص آفاق «الوضع» في الجزائر، وتداعيات ذلك على فرنسا. باسكوا، بوصفه وزيراً للداخلية، صارم ومحارب، وسيكون شخصاً قوياً، وبالتالي صاحب شعبية، في محاولته التعامل مع تدفق اللاجئين ومشكلات النظام العام. طبيعة بالادور معتدلة وبراغماتية ويمكن أن يتقدم عليه شيراك في هذا الموضوع.
التوقيع... مالابي
وفي تقرير آخر من مالابي، بتاريخ أغسطس 1994، تحت عنوان «الجزائر... وجهات النظر الفرنسية»، جاء ما يأتي...

مختصر
1 - يتوقع الفرنسيون «صراعاً» يستمر على المدى الطويل، لكنهم يزدادون اقتناعاً بأن الإسلاميين سيسيطرون «على السلطة». الوزراء يعيدون تقييم خطهم بخصوص الدعم للنظام الحالي.

تفاصيل
2 - الاغتيال الأخير لـ5 فرنسيين في العاصمة الجزائرية، ورد الفعل الفرنسي الشديد، والتهديدات اللاحقة ضد فرنسا من جماعات إسلامية، كل ذلك، ضمن بقاء الجزائر في قلب اهتمام الحكومة الفرنسية، الإعلام والرأي العام. لقد ناقشنا التحليلات والسياسة الفرنسية بالتفصيل مع الوزراء الأساسيين والوكالات المعنية في الأيام الأخيرة. فيما يلي نتيجة الجمع بين الآراء الفرنسية المختلفة (الطرح ونقيضه)، وهي آراء متناسقة في شكل معقول.

الوضع الجزائري الداخلي
3 - قلة هنا توقعوا النجاح لحملة القمع التي شنّتها أجهزة الأمن الجزائرية في وقت سابق هذه السنة. وهي لم تكن ناجحة، ومستوى عمليات القتل عاد مجدداً للارتفاع كثيراً (التقديرات تتراوح بين 200 و400 قتيل أسبوعياً). الخاسرون الأساسيون هم الإسلاميون المعتدلون، الذين تم إسكاتهم أو صاروا متشددين. والمسار السياسي؛ «عرض» زروال الأخير للمعارضة يتم النظر إليه بكثير من التشكيك. يُنظر إليه (زروال) على نطاق واسع بوصفه دمية لا أكثر في أيدي العسكريين المتشددين. الفرنسيون الذين لدينا اتصال بهم يخبروننا أنه امتنع عن قبول دعوة ميتران إلى حضور احتفالات الذكرى الخمسين لإنزال الحلفاء في إقليم بروفانس في 14 و15 أغسطس، لأنه كان يخشى حصول انقلاب في غيابه.
4 - في ظل هذه الظروف، هناك إجماع واسع على أن النظام الحالي (في الجزائر) محكوم عليه بالسقوط. على رغم جهوده الشجاعة في مجال الإصلاح الاقتصادي، فإن العنف الذي تستخدمه قوات الأمن يجعل النظام غير شعبي في شكل متزايد. لكن قلة فقط تتوقع أن تنهار الأوضاع فوراً. القوات المسلحة ما زال يُنظر إليها على أنها متماسكة نسبياً وقادرة على مواصلة الكفاح لشهور. لكن هناك بعض الانشقاقات المنذرة بالشؤم بدأت في الظهور؛ حالات الفرار من الخدمة العسكرية يُعتقد أنها تتزايد، بما في ذلك بعض طياري سلاح الجو الذين ينقلبون على رفاقهم (طائرة «ميغ» واحدة، وطائرة مروحية هجومية). بلغ القلق من الانشقاق، كما يقال، حد إلغاء السفر الروتيني للخارج للمسؤولين الجزائريين.
5 - الرابحون هم الراديكاليون الإسلاميون الذين ينتعشون على أساليب النظام وغياب الدعم الشعبي عنه. الـ«كي» (الكي دورسيه - وزارة الخارجية الفرنسية) ترى تسارعاً ملحوظاً في هذا الأمر منذ الشهر الماضي (أي منذ محادثات غرين وبوشار في 8 يوليو (تموز) – راجع تقريرنا الرقم 783). نظام إسلامي في السلطة يُنظر إليه (هنا) على أنه يصير حتمياً في شكل متزايد. هناك ورقة يتم تحضيرها حالياً من قبل رئيس الوزراء، ترى حكومة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (في سدة الحكم) في غضون سنة أو سنتين. كما تم الاقتباس لنا من ورقة أعدها السفير الفرنسي في الجزائر (رجاء حماية هذا المصدر) الذي يعتقد أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ستصل إلى سدة الحكم في غضون 18 شهراً، حداً أقصى.
6 - هناك القليل من الوضوح بشأن كيف سيترجم الإسلاميون نجاحهم إلى قوة سياسية، أو كيف سيتم إعادة دمج القيادة السياسية لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في إطار الحركة، علماً بأن الراديكاليين سيحتاجون إليها في مرحلة من المراحل. الجماعات الإرهابية المختلفة لـ«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لا يُعتقد أنها تعمل بتنسيق فيما بينها. باستثناء الاتفاق على إسقاط النظام الحالي والاستحواذ على السلطة، يتم النظر إليها على أنها لا تملك أي خطة عمل مستقبلية (كوربوريت بلان)، على رغم أن خطف الدبلوماسيين أخيراً يتم النظر إليه على أنه إشارة إلى وجود نوع من الشبكة المنظمة التي يتم تطويرها بين بعض الجماعات المتشددة. الهجوم على محمية عين الله حيث تم قتل 5 فرنسيين تُعتبر بالتأكيد إشارة إلى تطور لافت في شكل متزايد وجرأة أكبر من جانب أبرز الجماعات (المسلحة).
7 - يتوقع الفرنسيون أن يروا تصعيداً في مستوى ومنسوب الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الإسلاميون في الجزائر في الشهور المقبلة. الأدلة على إمدادات بالسلاح من الخارج، على رغم أنها ضئيلة (بما في ذلك العثور على بعض الشحنات هنا في فرنسا)، توحي للفرنسيين بأن الإسلاميين ربما يبنون ترسانة وأكثر. لا يمكن سوى أن يحسّنوا من قوتهم النارية أكثر، في حين أن قوات الأمن لا يمكن لها سوى أن تتراجع. مسار «تهريب السلاح» عبر ألمانيا وإيطاليا يُعتبر الآن هنا أنه طريق النقل الأكثر تفضيلاً. السلاح الجديد يمكن أن يستخدمه في شكل جيد «الأفغان» (الجزائريون) الذين تعلموا كثيراً في أفغانستان، والذين لم تسنح لهم حتى الآن سوى فرصة لخوض إرهاب على نطاق ضيق في الجزائر.

التداعيات الإقليمية
8 - الآراء منقسمة بشأن التداعيات على تونس، والمغرب، حتى مصر في حالة وصول نظام إسلامي إلى سدة الحكم في الجزائر. الجميع يتفق على أن جيران الجزائر سيواجهون تدفقاً للاجئين، إما فراراً من النظام الجديد وإما بسبب الحرب الأهلية التي ربما ستلي وصوله إلى سدة السلطة. هناك اتفاق على أن المغرب وتونس مجهزان في شكل أفضل من الجزائر للتعامل مع التهديد الأصولي، لكن البعض؛ خصوصاً في أوساط أجهزة الاستخبارات، يرى على رغم ذلك مجالاً لحصول ظاهرة تساقط أحجار الدومينو في شكل جامح. هناك لمسة من إثارة الذعر «عمداً» بخصوص هذا الأمر.

فرنسا - الجزائر
9 - أعدّ الفرنسيون منذ فترة خطط طوارئ استعداداً لاستقبال اللاجئين من الجزائر، في حال أخذ الإسلاميون السلطة. أولئك الذين لديهم حق قانوني للإقامة في فرنسا سيتم استقبالهم في مخيمات وسيتم توفير حاجاتهم في الجنوب حيث سيصلون في الغالب. ولكن ما زال هناك عدم اتفاق بشأن مستوى الهجرة الجماعية. من اللافت أن جهاز «دي جي إس إي» (المساوي لجهاز «أم آي 6»، أي الاستخبارات الخارجية) يقدّر العدد المحتمل للمواطنين الجزائريين الذين سيحاولون الوصول إلى فرنسا بنصف مليون. «الكي دورسيه» (وزارة الخارجية) أكثر تشككاً في صحة هذا التقدير.
10 - مثل هذا الدفق من الهجرة الجماعية سيسبب مشكلات أمنية على الأراضي الفرنسية، حتى لو كان ذلك بين الجزائريين أنفسهم. حتى هذه اللحظة، كما أشار باسكوا نفسه، ليس هناك تهديد إرهابي ملموس. حملة باسكوا الترهيبية ضد المتشددين الإسلاميين الجزائريين، بما في ذلك عمليات فحص الأوراق الثبوتية في شكل عشوائي وواسع النطاق، والعمليات ضد أهداف تحوم حولها شبهات غير واضحة، والتوقيفات تحت طائلة التهديد بالترحيل، التي طالت 24 من القيادات الإسلامية المتشددة، كانت كلها مثيرة للجدل. رأى سياسيون معارضون ووسائل إعلام في ذلك استفزازاً وأمراً يأتي بنتائج عكسية. كثيرون اعتبروها حركة سياسية في إطار الانتخابات الرئاسية «المقبلة». لكن باسكوا تلقى دعماً من «ألفيغارو» المنتمية إلى اليمين، وأيضاً وهذا الأهم أقرّ (آلان) جوبيه وبالادور علناً بالحاجة إلى توجيه «إشارة سياسية» لأي شخص مؤيد للأعمال الإرهابية ضد المصالح الفرنسية في الجزائر أو أي مكان آخر.
11 - قتْل الفرنسيين الخمسة في عين الله، وردّ فعل باسكوا على ذلك، الذي أدّى بكلّ من الإسلاميين والمعلقين إلى وصف السياسة الفرنسية بأنها عبارة عن دعم غير مشروط للنظام الجزائري، أرغم الوزراء الفرنسيين على أن يكونوا أكثر تحديداً في شأن سياستهم بخصوص الجزائر، مميزين «مدى» دعمهم لحكومة زروال. باشر جوبيه هذا الخطّ بمقابلة تلفزيونية في 11 أغسطس، وقد تكرر صداها بمقابلة إذاعية لبلادور في 14 أغسطس؛ أولوية الأولويات لفرنسا هي حماية مواطنيها في الجزائر (1500 يحملون الجنسية الفرنسية فقط). وفي فرنسا؛ الوضع الداخلي في الجزائر أمر يحله الجزائريون أنفسهم؛ فرنسا لا تقدم دعماً غير مشروط للنظام. ليس هناك حل أمني لمشكلات الجزائر. هناك حاجة إلى حل سياسي، بما في ذلك تنظيم انتخابات، عندما تسنح الظروف، (وقال جوبيه هذا الأمر لزروال عندما كان في العاصمة الجزائرية في نهاية يوليو)؛ واحترام حقوق الإنسان.

تعليق
12 – التمييز بخصوص الدعم الفرنسي للنظام، الذي في الواقع بدأ في الظهور للمرة الأولى خلال زيارة (رئيس الحكومة الجزائرية مقداد) سيفي لباريس (انظر التقرير 755. وهو غير موجه للجميع)، يندرج في إطار الاعتقاد القوي المتزايد هنا بأن النظام سيسقط. الفرنسيون عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الآن تهديداً إرهابياً أكثر تعقيداً، يُبنى على بئر الامتعاض العميق الموجود في الجزائر ضد فرنسا.
التوقيع... مالابي

رضا مالك يغادر رئاسة الحكومة لمعارضته الحوار مع الإسلاميين
> في تقرير موجّه من السكرتير الخاص لوزير الخارجية البريطاني إلى فيليبا ليزلي - جونز في مقر رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت، بتاريخ 15 أبريل (نيسان) 1994، جاء أن رئيس الحكومة الجزائرية قد تم تغييره. وجاء في التقرير: «تم تعيين رئيس جديد للحكومة في الجزائر، السيد مقداد سيفي، بتاريخ 11 أبريل، بعد استقالة السيد رضا مالك. شغل السيد سيفي سابقاً منصب وزير العمل.
تعيين السيد مالك في منصبه قبل 8 شهور، تم كما يُعتقد بسبب خطّه المتقبل نسبياً لمطالب صندوق النقد الدولي في المسائل الاقتصادية. استقالته، التي جاءت مباشرة بعد توقيع الجزائريين على مذكرة نيات مع صندوق النقد الدولي، ربما تكون نتيجة معارضته الحوار مع الأصوليين الإسلاميين. استغل الرئيس (زروال) الفرصة لجلب رئيس للحكومة يكون أكثر تعاطفاً مع جهود السعي إلى حل متفاوض عليه؛ لإنهاء النزاع المسلح الخطير مع الأصوليين الإسلاميين.
رئيس الحكومة الجديد شغل عدداً من المناصب الرفيعة في الحكومة، ولا سيما في قطاعات الصناعة، الطاقة والاقتصاد.
سيكون من الصواب أن يكتب رئيس الوزراء (جون ميجور) رسالة تهنئة إلى السيد سيفي. ربما سيود أيضاً أن يرسل رسالة إلى السيد مالك (الذي كتب له رئيس الوزراء في 31 ديسمبر لتشجيعه على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي). أرسل مرفقاً مسودتي رسالتين (إذا قرر رئيس الوزراء إرسالهما)».
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد وجّه في 31 ديسمبر 1993 رسالة إلى رضا مالك رداً على رسالة وجّهها الأخير، بتاريخ 28 نوفمبر (تشرين الثاني). وجاء في رسالة ميجور...
«تواجه الجزائر أزمة صعبة. نعرف أنكم تسعون إلى فتح حوار سياسي مع الجماعات السياسية غير العنيفة في الجزائر. ندعمكم في هذا الجهد.
إنني سعيد بالاطلاع على التقدم المهم الذي حققتموه في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، والخبرة التي اكتسبتموها من التعاون مع صندوق النقد الدولي.
أرحب بقراركم فتح حوار مع صندوق النقد بخصوص برنامج متكامل للصندوق. أتمنى لكم التوفيق في هذا المسعى. عندما يتم التوصل إلى اتفاق على برنامج ويتم تقديمه إلى المجلس التنفيذي، سننظر فيه، كعادتنا، بطريقة بناءة وحيادية. يمكنكم أن تطمئنوا بالحصول على دعمنا لبرنامج سليم لصندوق النقد دعماً لهيكلة الاقتصاد، مع الأخذ في الاعتبار انعكاسات ذلك اجتماعياً.
لقد سعدت بالسماع عن الزيارة الناجحة لتيم إيغار، وزير الطاقة، في نوفمبر. وعلى رغم أن الزيارة كانت قصيرة، أفهم أنه تم بحث كثير من المسائل ومناقشة عدد من الفرص التجارية. كما أنني متشجع أكثر برؤية (بي بي) أيضا في مفاوضات متقدمة مع (سوناطراك) من أجل التطوير المشترك لاحتياط كبير من الغاز في جنوب غربي الجزائر. إذا ما تم نجاح (المفاوضات) فسيضمن هذا المشروع دوراً بريطانيا كبيراً في تطوير مصادر جديدة (للطاقة) مهمة استراتيجياً».



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.